• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الخط العربي.. هندسة روحانية

باقر الكاتب

الخط العربي.. هندسة روحانية
من العناصر التي اهتم الفن الإسلامي بأدائها وتجويدها الخط العربي، ذلك الفن الذي عانق روح الإسلام، وجرى مع الدفق الأوّل لمسيره، فلقد كافح الأوائل من أجل وضع أُسس راسخة وقواعد رائعة له فاقت الخطوط الرومانية والصينية والفهلوية. ولعلَّ ما يلفت الإنتباه ويثير البهجة والإطمئنان تلك الجمالية التي وضعها الفنان المسلم في صلب أجزاء الخط ليجعل منه غابات وحدائق ومعاقل تحيط العين وتجعلها تنساب مع جريان الحرف وامتداداته.
وللخط سمة في الدخول إلى خوالج النفس البشرية وإثارة جانب التعجب! حيث قال اقليدس: "الخط هندسة روحانية وإن ظهرت بآلة جسمانية"، ولعل أهم ما قام به الفنانون المسلمون من إنجاز هو المشاركة الفعّالة في نشر أهداف الإسلام في جميع أرجاء العالم، ولا غرو أن يدخل القلم في مسايرة كل ما يخص الرسالة، ينهض بنهضتها ويخمد بنكستها. ومع تعدد الآراء وتضاربها في أصل الحرف العربي لنا عودة إلى ما قبل الرسالة الإسلامية لشرح يسير عن تاريخ الحرف العربي وقبل أن تتطور أشكاله الحديثة وتتفرع.
وقد اختلف الناس في أول من وضع الخط العربي، فهناك رأي هشام الكلبي: أوّل من وضع ذلك، قوم من العرب العاربة نزلوا في عدنان بن اد، وأسماؤهم؛ أبوجاد، هوّاز، حظي، كلمون، صغض، قريسَأت. هذا من خط ابن الكوفي، بهذا الشكل. الأعراب وضعوا الكتاب على أسمائهم. ثمّ وجدوا بعد ذلك حروفاً ليست من أسمائهم وهي؛ الثاء والخاء والذال والظاء والشين والغين؛ فسموها الروادف. قال: وهؤلاء ملوك مدين، وكان مهلكهم يوم الظُلّة في زمن شعيب النبي (ع)...
وقال كعب: وأنا أبرئ من قوله، إن أوّل من وضع الكتابة العربية والفارسية وغيرها من الكتابات آدم (ع). وضع ذلك قبل موته بثلاثمائة سنة (وكتبه) في الطين وطبخه، فلما أصابت الأرض الطوفان، سلم؛ فوجد كل قوم كتابتهم فكتبوا بها.
وقال ابن عباس: أوّل من كتب بالعربية، ثلاثة رجال من بولان وهي قبيلة سكنوا الأنبار، وانهم اجتمعوا فوضعوا حروفاً مقطَّعة وموصولة، وهم مرامر بن مروّة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن جذرة، ويقال مرة وجذلة. فأما مرامر، فوضع الصور، وأما أسلم؛ ففضل ووصل، وأما عامر؛ فوضع الأعجام. وسُئل أهل الحيرة ممن أخذتم العربية فقالوا: من أهل الأنبار. ويقال: إنّ الله تبارك وتعالى أنطق اسماعيل بالعربية المبيَّنة، وهو ابن أربع وعشرين سنة.
وبعد بزوغ فجر الإسلام واطلالة الرسول الأكرم وبعده، كثر الإهتمام بالخط لكتابة المصحف الشريف وتدوين بعض المكاتبات والعقود وإعلام الحوادث والتواريخ.
ونتيجةً لإتساع رقعة الدولة الإسلامية وتعدد فنانيها من كافة الأقطار والأمصار، تنوّعت أشكاله وتهذّبت صوره، فظهرت أقلام متعددة وذلك حسب طبيعة ونوع المسألة المراد الكتابة بها.
الطريقة التي اعتمدها الخط في معرفة موازينه على حرف الألف، فهذا الحرف يعتبر قطر الدائرة أما بقية الحروف فهي أجزاء الدائرة المحيطة حيث لو أعيدت الحروف إلى التسطيح وأُزيل تَقَوُّسها لعادت إلى حرف الألف، وقد نسبت كل الحروف ووزنت إلى نسبة معيّنة (تسمى النسبة الثابتة). ومرة سُئل بعض الخطاطين عن الخط متى يستحق أن يوصف بالجودة؟ قال: إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامُه، واستقامت سطوره، وضاها صعوده وحدوده، وتفتَّحت عيونه، ولم تشتبه راءه ونونه، وأشرق قرطاسه واظلمت انقاسه، ولم تختلف أجناسه وأسرع إلى العيون تصوّره، وإلى العقول تثمّره، وقدرت فصوله، واندمجت أصوله، وتناسب دقيقه وجليه، وخرج من نمط الوارقين وبُعد عن تصنّع المجدين، وقام لصاحبه مقام النسبة والحلية.
ومما شاع من الأقلام في زمن الأمويين قلم الجليل (وهو أبو الأقلام كلها، لا يقوى عليه أحد إلا بالتعليم الشديد) وفيه قال أحدهم: (قلم الجليل يدق صلب الكاتب) يخرج منه قلمان، السجلات والديباج، قلم السجلات الأوسط يخرج منه قلمان، السميعي وقلم الأشربة، وقلم الديباج يكتب به في الطوامير يخرج منه قلم الطوامير الكبير الذي تعمل في الطوامير المستخرج من الديباج. وهناك قلم الثلثين الصغير الثقيل المستخرج من الطومار (الطومار هو الذراع الذي تساوي مساحة عرضه 24 شعرة برذون). يكتب به عن الخلفاء إلى العمال والأُمراء في الآفاق تخرج منه ثلاثة أقلام؛ قلم الزنبور وقلم المفتح وقلم الجزم، وقلم المؤامرات المستخرج من الثلثين، وهناك قلم العهود وقلم القصص وقلم الأجوبة، والمدور الصغير وهو قلم جامع يكتب به في الدفاتر والحديث والأشعار.
خط الرقاع: يكتب به التوقيعات وما أشبه ذلك.
قلم النرجس: يكتب به في الأثلاث.
يعني هناك أربعة أقلام تتفرع منها بقية الأقلام؛ وهي: قلم الجليل، وقلم الطومار الكبير، وقلم النصف الثقيل، وقلم الثلث الكبير الثقيل، ومخرج هذه الأقلام الأربعة؛ من القلم الجليل.
عند ظهور الدولة العباسية حدث خط يسمى العراقي، وهو المحقق، وسمي بالثلث لأنّه يكتب بقلم عرضه ثلث الطومار، أي ثمان من شعرات البرذون، وظهر رجل يعرف بالأحول المحرر، ومن صنايع البرامكة، عارفاً بمعاني الخط وأشكاله، فلما رتب الأقلام جعل أوّلها الأقلام الثقال فمنها؛ قلم الطومار؛ وهو أجلها يكتب به في طومار تام بسعفه، ومن الأقلام؛ قلم الثلثين، قلم السجلات، قلم العهود، قلم المؤامرات، قلم الأمانات، قلم الديباج، قلم المدبج، قلم المرصع، قلم التشاجي، ثمّ القلم الرياسي والذي يتفرع إلى عدة أقلام؛ فمن ذلك قلم الرياسي الكبير، قلم النصف من الرياسي، قلم الثلث؛ قلم صغير النصف، قلم خفيف الثلث، قلم المحقق، قلم المنثور، قلم الوشي، قلم الرقاع، قلم المكاتبات، قلم غبار الحلبة، قلم النرجس، قلم البياض.
أما في عصرنا هذا فالرائج هو خطوط: الثلث – النسخ – الأجازة – الفارسي – الديواني – الجلي ديواني – الرقعة – الطفراء – الكوفي.
تفاعل الخط العربي مع كثير من الخامات النفسية منها واليسيرة الرخيصة، أي كان الفنان المسلم يستعمل المواد قياساً مع مقام المكان، فعند الأضرحة المقدسة إختار لذلك مواد الذهب والفضة والمرمر... وعند المصاحف إستعمل ماء الذهب أيضاً، وعند الدور والمحلات الأخرى إختار لذلك مواد بسيطة مثل: الطين، والبرونز، والخشب، والجص.
وبالجمالية والكتل البصرية الدقيقة عمل الفنان المسلم على إعداد الشخصية المميزة بين بقية الخطوط العالمية، لذا لوحظ في الحقبة الماضية وإلى الآن محاولات تشويه الحرف العربي وبصورة متكررة، وذلك لإضفاء النزعة وإبعاده عن وجود الإسلامي.
ومن هنا جاء (الزهاوي) بخط جديد ليضرب بقسوة على صميم الحروف العربية ويميل مجراها إلى طريق متشعب يختلف كل الإختلاف عن واقع الحرف العربي وتقارب بشكلها الحروف اللاتينية. فهل هذا جديد؟
وجاء آخر كرَّمه الملك (ملك مصر أحمد فؤاد الأوّل) بأن (إبتكر) طريقة جديدة للحروف الهجائية العربية وإسمه (محمد أفندي محفوظ) وفاز بالجائزة الملكية، سُمي خطه بخط التاج نسبةً إلى صاحب الفكرة صاحب التاج (الملك) ولم يأت هذا الخط بشيء جديد سوى إضافات لا تغني شيئاً.
ثمّ الياس كاوي بألفبائه (الجديدة) والتي يرى من أشكالها أنّ الحروف تشبه إلى حدٍ ما الحروف العبرانية، وليس هناك إلا إبعاد الحرف العربي عن روحه الإسلامية وجره في مهلكة.
وهذه الدعوات وغيرها إنما يراد بها طمس تاريخ المسلمين من حيث إيجاد خطوط مبهمة تحجب الأُمّة عن قراءة تأريخها بسهولة من خلال خطوطها الأصلية.
ولا عجب أن تحدث مصائب من هذا القبيل، ففي تركيا إبان حكم أتاتورك اُستبدلت الحروف العربية بالحروف المتداولة الآن (اللاتينية).
نحن لا نقول إننا ضد التجديد ولا ممن يعيد ما ترك السلف تقليداً صرفاً، بل ندعو للمحافظة على أصالة هذا الفن العريق وعناصره الأولية دونما إبادته ونسف معالمه وإحلال بديل عنه تدريجياً، إذن لابدّ أن تكون المحاولات جادّة وصادقة في التطوير والتجديد تخدم الجانب الحضاري والإنساني للأُمّة.

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 13 لسنة 1405هـ

ارسال التعليق

Top