• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

حقيقة الحياء.. طمئنة للنفس

د. سمير يونس

حقيقة الحياء.. طمئنة للنفس

◄إذا لـم تَخْشَ عـاقـبة الليــالي *** ولم تَسْتَحِ فافعل ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير *** ولا الدنيا إذا ذهب الحياءُ

يعيش المرءُ ما استحيا بخير *** ويبقى العود ما بقي اللحاءُ

أبيات الشعر هذه تجيبك إن تساءلت عما صار في حياتنا، فقد تفشت بذاءات الألسنة، وانتشر مفهوم الانفتاح بالمعنى السلبي، يقتحم عليك بيتك من خلال التلفاز والفضائيات، ومن الشارع، ويصطدم بك في عملك، وعند تسوقك في المحلات التجارية، وعندما تقود سيارتك في الطرق السريعة وغيرها. وصدق رسولنا الكريم إذ يقول: "إذا لم تستح فاصنع ماشئت" (رواه البخاري).

 

حقيقة الحياء:

الحياء هو إحدى فضائل المؤمنين والمؤمنات، ويظهر في توقير الله عزّ وجلّ، والتزام الأدب معه، وتجنب المعاصي توقيراً له سبحانه وتعالى.

·      والحياء صفة من صفات الله تعالى: لقوله (ص): "إنّ ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً خائبتين" (رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه).

·      والحياء صفة من صفات الملائكة.

·      والحياء خُلق الأنبياء:

يقول (ص): "أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر، والسواك، والنكاح" (رواه الترمذي)، ويصف (ص) موسى (ع) بقوله: "كان رجلاً حيياً ستيراً، لا يُرى من جلده شيء استحياء منه" (رواه البخاري).

·      والحياء صفة من صفات النّبيّ (ص):

فعن أبي سعيد الخدري (رض) يصف نبينا (ص): "كان النبيّ (ص) أشد حياء من العذراء في خِدْرها" (أخرجه الشيخان).

·      والحياء خلق المؤمنين الصادقين.

·      والحياء من أخلاق الجاهلية (!!)

إنّك لتعجب عندما تعلم أنّ الحياة كان من صفات أهل الجاهلية، فإن "هرقل" عندما سأل أبا سفيان أسئلة عن النبيّ (ص) فلم يكذب، وبرر لصدقه بقوله بعد ذلك: "لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذباً لكذبت".

وفي غزوة "حنين" تبع أبو موسى الأشعري أحد الكفار فولى هارباً، فقال له أبو موسى: ألا تستحيي؟! ألست عربياً؟! ألا تثبت؟! فوقف وتقاتلا، فقتله أبو موسى الأشعري.

ولقد قرأنا في سيرة النبيّ (ص) أنّ المشركين لما حاصروا بيته قبيل هجرته (ص).. مكثوا ينتظرونه ساعات طويلة، ومنعهم الحياء من أن يقتحموا عليه بيته، فوا عجباه لهؤلاء الناس الذين يقتحمون على النساء بيوتهم ليل نهار!!

·      الحياء من الإيمان:

كفى بالحياء شرفاً أن يقترن بالإيمان، فعن أبي هريرة (رض) أنّ رسول الله (ص) قال: "الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان" (رواه البخاري ومسلم).

·      والحياء خلَّد ذكراها:

ففي سورة القصص، وردت قصة هذه المرأة التي زانها الحياء، وكان سبباً في تشريفها وتخليد ذكراها، في أعظم الكتب وأصدقها، ولندع القرآن الكريم يروي لنا قصة ابنة شعيب مع نبي الله موسى (ع)، يقول سبحانه: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (القصص/ 25).

فهذا الموقف يؤكد حياء تلك المرأة من جانبين:

الأوّل: أنّ القرآن الكريم وصفها جاءت على استحياء دون تبذل، ولا تبجح، ولا تبرج، ولا إغراء، ولا إغواء.

والثاني: حياء القول، الذي أكدته كلماتها لموسى (ع)، حيث وضحت مرادها بعبارة قصيرة موجزة ودقيقة، وانتقت ألفاظها لتؤكد مدلولها وسلامة قصدها، من غير أن تسترسل في حديثها مع موسى (ع)، وهذا يؤكد فطرتها النقية النظيفة، ونفسها الطيبة المستقيمة.

·      الحياء زينة النساء:

فالحياء لكلِّ الناس، وهو وقار للرجال وزينة للنساء، ولزومه للنساء أولى، لذا فقد تتعجب إذا قارنا بين حياء المرأة في عهد رسولنا الكريم وضياع الحياء عن نساء كثيرات، فهذه ريحانة رسول الله (ص) السيدة فاطمة الزهراء (ع)، فقد بلغ بها الحياء أنها كانت تخشى أن يصفها الثوبُ بعد وفاتها، ولقد استقبحت ذلك كثيراً، حتى جعلت لها أسماء نعشاً، وهو أول ما كان النعش آنذاك، ثمّ الأكثر من ذلك أنها رضي الله عنها، أمرت أسماء أن تغسلها هي وزوجها فقط، وألا تُدخل عليها أحداً، فكانت رضي الله عنها أوّل من غُطي نعشها من النساء في الإسلام.

فعن أم جعفر أنّ فاطمة بنت رسول الله (ص) قالت لأسماء: يا أسماء، إني قد استقبحت ما يصنع بالنساء، إنّه يُطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله، ألا أريك شيئاً رأيته بأرض الحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة فحنتها، ثمّ طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله!! تُعْرَف به المرأة من الرجال، فإذا أنا متُّ فاغسليني أنتِ وعليّ (ع)، ولا تُدخلي عليَّ أحداً، فلما تُوفيت جاءت عائشة تدخل، فقالت أسماء: لا تدخلي. فشكت لأبي بكر، فقالت: إنّ هذه الخثعمية تحول بيني وبين ابنة رسول الله (ص)، وقد جعلَتْ لها مثل هودج العروس، فجاء أبو بكر ووقف على الباب وقال: يا أسماء، ما حملك على أن منعت أزواج النبيّ (ص) يدخلن على ابنته، وجعلت لها مثل هودج العروس؟ فقالت: أمرتني ألا أدخل عليها أحداً، وأريتها هذا الذي صنعت وهي حيّة، فأمرتني أن أصنع ذلك لها، فقال أبو بكر: فاصنعي ما أمرتك، ثمّ انصرف، وغسَّلها عليّ (ع) وأسماء رضي الله عنها. (سنن البيهقي: 4/34).

فللحياء أثر في تستر المرأة وتحجبها واحتشامها، وتلك غريزة في الرجل والمرأة على السواء، فقد أكّد القرآن الكريم ذلك وأبنانه في قوله تعالى حكاية عن آدم وحواء: (فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الأعراف/ 22).

ولله درُّ شاعرنا إذ يقول:

إذا قلَّ ماء الوجه قلّ حياؤه *** ولا خير في وجه إذا قل ماؤه

حياءك فـاحفـظه عليك فإنما *** يدلُّ على وجـه الكريم حيـاؤه

وقد بيّن رسولنا الكريم ذلك في قوله (ص): "إنّ الحياء لا يأتي إلا بخير" (رواه البخاري ومسلم).. وقوله (ص): "الحياء كلّه خير" (رواه مسلم).

وقد أكّد النبيّ (ص) حقيقة الحياء في قوله: "استحيوا من الله حقّ الحياء"، قلنا: إنّا نستحيي من الله يا رسول الله والحمد لله. قال: "ليس ذلك، الاستحياء من الله حقّ الحياء، أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة، وآثر الآخرة على الأولى، فمن فعل استحيا من الله حقّ الحياء" (رواه الترمذي).

فلكلّ من الخير والشر سمات ومؤشرات تدل عليه، وسمة الخير الحياء، فالحياء مؤشر ودليل على وجود الخير في صاحبه، وسمة الشر التبجح. فعن رسول الله (ص) أنّه قال: "الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار" (أخرجه البخاري في الأدب).

وقد جسَّد الشاعر هذا المعنى حينما أنشد:

لا تسأل المرء عن خلائقه *** في وجهه شاهد من الخبر

وقد أشار القرآن الكريم إلى قراءة الخير في وجوه أهله، وذلك نجده في قول الله تبارك وتعالى يصف أصحاب محمد (ص): (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح/ 29).

وفي المقابل وصف ذوي القلوب المريضة من المنافقين بقوله تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ) (محمد/ 29-30).

·      قالوا عن الحياء:

-         قال بعض الحكماء: "من كساه الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه".

-         وقال بعض البلغاء: "حياة الوجه بحيائه، كما أنّ حياة الغرس بمائه".

-         وقال بعض العلماء البلغاء: يا عجباً!! كيف لا تستحيي من كثرة ما لا تستحيي وتتقي من طول ما لا تتقي؟!

-         ويقول الجنيد يرحمه الله: "الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى "الحياء".

والحياء خلق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حقِّ صاحب الحقِّ.

وقال الفضيل بن عياض: "خمس علامات من الشقوة: في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل".

ويقول ابن القَيِّم – يرحمه الله –: "الحياءُ خصّ به الإنسان دون جميع الحيوان، فخلق الحياء أفضل الأخلاق وأجلها... فمن لا حياء فيه ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة".

 

الفرق بين الحياء والخجل:

 الحياء صفة إيجابية محمودة، لأنّه يقي الإنسان الوقوع في السوء، والحياء خلق إسلامي لا يأتي إلا بخير، ولا يترتب عليه تضييع مصالح، أو حقوق، ولا الاستسلام أو الخضوع للآخرين بذلة. وتطمئن النفس إلى الحياء، ولا تنزعج منه ولا تضطرب، بل تتوافق معه وتنسجم، قال رسولنا الكريم (ص): "الحياء لا يأتي إلا بخير" (رواه البخاري ومسلم عن عمران بن حصين).

·      ومن أمثلة الحياء:

تجنب كشف العورات، والحياء من الضيف، وحياء الفتاة البكر يبرز في عفتها، وملبسها، ومظهرها الخارجي، وكلماتها.

أما الخجل فيعني: الخوف من الناس، والجرأة الخارجة عن اللياقة، وقلة الذوق، وسوء الأدب مع الله ومع الناس، ويترتب عليه تفويت المصالح أو الرضا بالإذعان والخضوع والذل، وتنزعج منه النفس ولا تطمئن إليه من داخلها (وإن خدعت غيرها بأنها راضية به).

ومن أمثلة الخجل:

خوف الإنسان من أن يتحدث إلى الآخرين أو خشية الطالب من أن يسأل معلمه، أو صدود الفرد عن الحقِّ خجلاً من أهل الباطل، لذلك قال الله عزّ وجلّ لنبيه (ص): (كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف/ 2).

وهذه دعوة للنبيّ (ص) وأتباعه من المسلمين ألا يتحرجوا في أن يصدعوا بالحقِّ، غير مبالين بأهل الباطل، لذا فعندما أمر رسولنا الكريم المقدام من قبل ربه بأن يصدع بالتوحيد والدعوة، ارتقى الجبل بكلِّ عزة وإقدام، وأعلن ذلك بقوة واعتزاز.. فهل فقه المسلمون معاني الحياء وثمراته؟ وهل فقهت المسلمات أثر الحياء وهو أجمل زينة يتزيّن بها في الدنيا والآخرة؟!!


المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1901 لسنة 2010م

ارسال التعليق

Top