• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

صورتنا في الغرب.. مسؤولية من؟

د. سليمان إبراهيم العسكري

صورتنا في الغرب.. مسؤولية من؟
◄لم يعد هناك شكٌ في أنّ صورتنا – نحن العرب والمسلمين – في الغرب، لحق بها الكثير من الأسئلة، عن حجم هذا التشويه، وآليات حدوثه، ومسؤوليتنا تجاه تفاقم هذا التشويه، سواء في إذكائه أو إطفائه، فالأمر يتجاوز حدود الصورة، ليلامس الكثير من ملامح وجودنا في هذا العالم، وفي هذه الحقبة.. على الأقل. عندما نشرع في الحديث عن صورتنا في الغرب، قد يتبادر إلى بعض الأذهانِ سؤالٌ: ما أهمية تلك الصورة؟ وهو سؤال – على بساطته – يتضمن موقفاً من الغرب، وتصوّراً عن أهمية أو عدم أهمية الآخر. لكن الإجابة التي تتسق مع الهدف، من حديثي هنا، والآن، تتعلق أوّلاً بالذات، ذاتنا العربية الإسلامية، من جوانب أخلاقية، وعملية معاشية، وثقافية، ولا أريد أنّ أقول سياسية واقتصادية، لفرط ما لحق بهاتين الكلمتين من أدران ومراوغات، برغم أنهما قد تتضمنان كل الأنشطة الإنسانية، إذا نهجتا منهاج الشرف الإنساني، وهو حلمٌ لا يزال بعيداً. فلنعد إلى موضوعنا، ونشرع في محاولة الإجابة عن سؤالنا عن أهمية "صورتنا في الغرب". أخلاقياً، لم يعد مُمكناً أن نتجاهل وجود عشرات الملايين من العرب والمسلمين يعيشون في البلدان الغربية، في أوربا وأمريكا وأستراليا، التي لا يمكن صلها عن الجسم الغربي. هؤلاء الملايين من العرب والمسلمين خارج الأراضي العربية والإسلامية، تؤثر فيهم أي إضافة – بالسلب أو بالإيجاب – لصورة العربي والمسلم لدى الإنسان الغربي، الذي يعايشونه، ويعيشون على أرضه، ويشاركونه لقمة العيش. علمياً، لا يُمكن أن نتصور أي تبادل صحي في المنافع – الاقتصادية والمعرفية والحضارية عموماً – بين فُرقاءٍ يسود بينهم الكره المؤسس على انطباعات سيئة. ونحن –العرب والمسلمين – لا يُمكننا أن نعيش في عالمٍ مغلق علينا، فهذا غير ممكن، وغير مطلوب، وغير مرغوب فيه من أي عاقل، مهما كانت توجساته تجاه هذا الغرب. ثقافياً، يصعب أن نتصور أي نمو ثقافي لدى أي كيان وطني، في عالم اليوم، من دون انفتاحٍ على العالم الواسع، الذي بات – في ظل ثورة حقيقية في وسائل الاتصال والوسائط الرقمية – مجرد قريةٍ صغيرةٍ بالفعل، وفي هذه القرية، تذبل الثقافة النوعية لأي جماعةٍ بشرية إذا دمغ أصحابها بأنّهم أبناء ثقافة معادية لبقيةِ البشر.   الصورة تتغير والصيحات تتوالى: قطعاً هناك تغيرات لحقت وتلحق بصورة العرب والمسلمين في الغرب في الفترة الأخيرة، ولنترك مناقشة مبرراتها وآليات حدوثها الآن، ملتقطين ملامح هذه التغيرات من واقع صيحات لعرب ومسلمين يعيشون في الغرب، أو يتابعون ما يحدث في الغرب، وتثقل عليهم هذه التغيرات. قال د. محمود المسيري، إمام ومدير المركز الإسلامي في مدريد: "تشهد وسائل الإعلام الغربية، منذ عدة سنوات، حملات واسعة لتشويه صورتنا الثقافية والدينية أمام الرأي العام في بلدانها، وفي العالم كله، مستخدمة وسائل متعددة لتزييف الحقيقة من التحيز والمبالغة، إلى السطحية والتكرار، لتحفر في الأذهانِ صورةً مشوهةً عن الثقافة العربية والإسلامية. وتكون النتيجة شحذ مشاعر الكراهية والخوف بدرجة تحجب أي صوتٍ عاقل، أو خطابٍ منطقي يهدف إلى بيان الحقيقةِ المجردة". ومن موقع "الوحدة الإسلامية" يقول د. جمال شقرة، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر: "امتلأت وسائل إعلام أمريكية وأوربية عدة، خلال السنوات القليلة الماضية، بعناوين مثيرة مثل: "القنبلة الإسلامية قادمة، الحرب الإسلامية ضد الحداثة، الحروب الصليبية مازالت مستمرة، الهلال الجديد في أزمة". ولاحظ جون اسبوسيتو – مدير مركز التفاهم الإسلامي/ المسيحي بجامعة جورج تاون بالولايات المتحدة الأمريكية – أنّ هذه العناوين جذبت الاهتمام، وشوهت الحقائق حول العالم الإسلامي وعلاقاته المتنوعة مع الغرب، من ناحية، ومن ناحية أخرى، كرست تلك العناوين "درجة الجهل المذهل بالعرب والإسلام.. لدرجة أنّ عديداً من الناس في دولِ الغرب، لديهم مسلمة بديهية، وهي أنّ العرب ما هُم إلا بدو، أو أثرياء نفط يسكنون الصحراء، أو الحرملك. وأنّ العربي انفعاليٌ، مقاتلٌ، ولا يُخضع تصرفاته للعقل.. وغالباً ما يتم مساواة الإسلام بالحرب المقدسة والكراهية والتعصب، والعنف، وعدم التسامح، واضطهاد النساء"، لذلك انتقد اسبوسيتو بشدة "أساليب الإثارة التي اتبعتها الصحف الغربية في معالجتها لقضايا الإسلام والحضارة الإسلامية، كما سدد سهام نقده العنيف للدراسات الأكاديمية التي نهجت نفس النهج، ولجأت إلى معالجة العلاقات بين الإسلام والغرب بصورة انتقائية، تفتقد الموضوعية، وتستقي مادتها العلمية من افتتاحيات الصحفِ والمقالات والتعليقات المعادية للإسلام والمسلمين". ويقول د. أحمد البوهي – نائب رئيس منظمة الثقافة الإسلامية في الولايات المتحدة: "شهد المجتمع الأمريكي، أخيراً، حملات مكثفة، هدفها التهجم على الإسلام، منها كتاب فرانكلين جراهام الجديد عن الإسلام، الذي ظهر منه بجلاء شديد، تحيزُ المؤلف ضد الإسلام وجهله بتعاليمه، وهو يتصدى للكتابة عن هذا الموضوع، فقد امتلأت صفحات الكتاب بالأخطاء العلمية والتاريخية، فقد اتهم الإسلام بأنّه دين لا يعرف التسامح، وأنّه يُغذي أتباعه بحب الانتقام". كما قدمت قنوات التلفزيون الأمريكي عدداً من البرامج التي هاجمت الإسلام، من أمثلة ذلك، البرنامج اليومي "أورالي فاكتور"، الذي دأب على استضافةِ بعض الأساتذة والمحللين من أعداء الإسلام، يزعمون تخصصهم في الفكر الإسلامي. وعلى مدى حلقات هذا البرنامج، يتناول هؤلاء الضيوفُ بعض المصطلحات الإسلامية، مثل الشهادة والحور العين بأسلوب ساخر ومنفر من العقيدة الإسلامية، ودون إعطاء أي فرصة متكافئة للمسلمين للرد على هذه الاتهامات، وبيان كذبها وجهل أصحابها. أيضاً، فقد نُشر في أمريكا أخيراً تقرير بعنوان: "الإسلام الرجعي" أعده جيسون لفنجورد، وفي محاولة مفضوحة لإثارة الرأي العام الغربي والأمريكي ضد المسلمين، قال مُعد التقرير: "إنّ 80 في المائة من مساجد أمريكا يُسيطر عليها أو يُديرها العرب، ومن ثمَّ يجب ألا نتوقع من مسلمي أمريكا أن يصونوا عهداً أو يحفظوا وداً، وإنما المتوقع من أتباع المدرسة المحمدية هو الغدر والخيانة ونقض العهد". ومن برلين، يكتب غسان أبو حمد، في أحد مواقع الإنترنت: "من المبالغات الإعلامية، ما توقعه أخيراً المؤرخ برنارد لويس، بأنّ "أوروبا ستصبح إسلاميةً، وجزءاً من المغرب العربي، حتى نهاية القرن الحالي". واستند الخبير الأمريكي، في نظريته الجديدة، إلى التحولات الديمجرافية التي تشهدها القارة الأوروبية، مشيراً إلى الهجرات والنزوح البشري من الشرق العربي باتجاه الغرب الأوربي". وقال برنارد لويس، في حديث خاص لصحيفة "دي فيلت" الألمانية: "إنّ الأوربيين يتزوجون متأخرين، ولا ينجبون أطفالاً إلا بعدد قليل، بينما يبرز النقيض المعاكس تدريجياً، والذي يتجلى في حضورٍ تركي كبير في ألمانيا، وعربي كبيرٍ في فرنسا، وحضورٍ إسلامي باكستاني في إنجلترا، وإنّ هؤلاء يتزوجون باكراً، وينجبون أطفالاً بكثرة.. وفي هذا السياق من التطور الحالي، ستتحول أوربا في نهاية القرن الحالي الواحد والعشرين إلى قارةٍ مسلمة، وإلى جزءٍ من المغرب العربي". ومرة ثانية نعود إلى د. جمال شقرة، الذي يكتب في النقطة السابقة نفسها: "صناعة الخرافات لإثارة الرعبِ من المسلمين حرفة قديمة"، من ذلك ما ذكره الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتابه "اقبض على اللحظة"، من أنّ الإسلام قوةٌ هائلةٌ، وأنّ تزايد عدد سكانه والقوة المالية التي يتمتع بها تشكلان تحدياً رئيسياً للغرب، وأنّ الغرب مضطرٌ إلى تشكيل حلفٍ جديد مع موسكو، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، لمواجهة عالم إسلامي معادٍ ومعتدٍ. فالإسلام والغرب، حسب تصوره، متناقضان ومتباينان. وردد في هذا الكتاب أنّ المسلمين ينظرون إلى العالم على أنّه منقسمَ إلى معسكرين، لا يمكن التوفيق بينهما: معسكر أو دار الإسلام، ودار الحرب. وأكّد نيكسون في هذا الكتاب على ضرورة أن يستعد الغرب للمواجهة الحاسمة مع العالم الإسلامي، الذي يُشكل واحداً من أعظم التحدياتِ السياسيةِ الخارجيةِ للولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين. والشيء نفسه فعله شارلز كروثامر، عندما كتب في الـ"واشنطن بوست" في 6 فبراير 1990 حول: "هلال الأزمة الجديد".   محاولة للتفسير: لقد مثلت هذه العينات من الجهر بالشكوى، مما يراه أصحابها اعتداءً على العربِ والمسلمين ودينهم عبر الإعلام الغربي، وبعض النشاطات الفكرية والأكاديمية الغربية، لكن المتابع – في حدود المتاح – لما ينتجه الغرب من عطاءاتٍ فكرية وبثٍ إعلامي، لا يمكن أن يستنتج تكريس الغرب مجمل هذه النشاطات لهذه الغاية وحدها، فثمة اجتهادات غربية منصفة، تُقدِّم خطاباً مختلفاً ملؤه العقلانية والمنطق والعدل المعرفي والتاريخي عن العرب المسلمين، وأوضح مثال على ذلك هو جون اسبوسيتو، الذي وردت الإشارة إليه كأحد المدافعين الغربيين عن حقيقة الثقافة الإسلامية في مواجهة موجات التشويه، التي أشارات إليها العينات السابقة. لا شك في وجود التحامل مع بعضِ الجهات في الغرب لتشويه الحقيقة الإسلامية والعربية من زاوية المعتقد والثقافة، لكن يظل هذا عمل تيار محدد، وربما محدود، وليس توجهاً للكلّ الغربي إزاء العرب والمسلمين. وقد يكن لهذا التيار تأثيرٌ أكبر من حجمه الحقيقي في الحياة الغربية، لأسباب نحن مسؤولون عن بعضها، وسيأتي وقتٌ للحديث عنها، لكنه يظل جزءاً من الغرب وليس كلاً، ويبقى أن نتساءل عن دوافع هذا التيار ومبرراته، ثمّ نتساءل بالضرورة عن دورنا نحن في كلّ ذلك. وللبحث عن دوافع من يقومون بعملية التشويه لصورتنا في الغرب، ربما يلزمنا أن نلجأ لعينةٍ أخرى من أصوات العرب والمسلمين الذين يعيشون في الغرب، أو من يعانون مما يحدث كأنهم يعيشونه. يقول د. جمال شقرة، في تسير سياسي للظاهرة: "في زمن العولمة، تَبنّى فريقٌ من رجالِ السياسة والفكر والاستراتيجية في الولايات المتحدة، بصفة خاصة، وفي الغرب بصفة عامة، مقولة صراع الحضارات، والخطر الذي يمثله الإسلام على الحضارة الغربية. وحذّروا من الخطر الإسلامي الوشيك الذي يستعد للانقضاض على الغرب وحضارته، إلا أنّ فريقاً آخر في الغرب – أيضاً – لم تتطل عليه أطروحات هؤلاء، ونظر إلى القول بالتهديد الإسلامي للغرب على أنّه أسطورةً تُشبه أسطورة الحرب الباردة التي صنعها الغرب بنفسه". ويكتب د. جعفر عبدالسلام – الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية: "وصل الأمر إلى حد أنّ بعض المفكرين في الغرب يرون أنّ "الصراع بين الإسلام والغرب هو في الأساس (صراع حضاري) بسبب تعاليم الكتاب والسُنَّة لدى المسلمين، فالإسلام كما يصوره هؤلاء المستشرقون، يفرض على أتباعه جهاد غير المسلمين، ورفع السيف لقتالهم حتى يشهدوا أنّ لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله. وبذلك طرح العديد من المستشرقين والمفكرين الغربيين تنظيراً غير صادق عن الإسلام من ذلك كتاب "الأصولية الإسلامية"، الذي حصل مؤلفه برنارد لويس على جائزة مهمة في الدراسات الاجتماعية. وفي هذا الكتاب يَزعم المؤلف، من بين ما يزعم، أنّ المسلمين يمثلون تهديداً ثلاثياً للحضارة الغربية: سياسياً وحضارياً وسُكانياً. وأنّ هناك نزاعاً وشيكاً سيقوم بين الغرب والمسلمين، وأنّ معظم العالم المسلم تسيطر عليه الآن حالة كراهية عامة للغرب، ولأمريكا على وجه الخصوص".   نقبل الصحيح، ونرفض الخطأ: من العينات السابقة من الرصد العربي لظاهرة الهجوم على الإسلام والمسلمين في الغرب، خاصة عبْر أجهزة الإعلام، نستطيع أن نستنتج أنّ وراءها متعصبين، وهم فئة من البشر موجودة في كل دين، ولا نستطيع أن ننكر وجود مثل هذه الفئة بيننا أيضاً، نحن العرب والمسلمين، وهذه الفئة تتوزع عادة بين فريقين، أحدهما فجٌ وسطحيٌ، والآخر لديه ما يُمكن قوله مدعوماً بكثيرٍ من المعرفة التي يجيد توظيفها لغاياتها التعصبية، ولعل أبرز الأمثلة من الفريق الأخير هو برنارد لويس، المستشرق الأمريكي الذي لا يخفي توجهاته، وهو حالة لابدّ أن نتعامل في مواجهتها بيقظة، فهو يدس تأويلاته وسط كثير من الأمور التي تحتمل النقاش، ومن ثمّ لن يفيدنا أن نتعامل معه بمنطق الإلغاء، بل بسوية المواجهة، نقبل الصحيح، ونرفض الخطأ ونعري أقنعة التأويلات الملتوية. يقول برنارد لويس في كتابه "أزمة الإسلام: حرب مقدسة وإرهاب غير مقدس": "إنّ معظم المسلمين ليسوا من الأصوليين، كما أنّ معظم الأصوليين ليسوا إرهابيين، لكن معظم الإرهابيين في عصرنا مسلمون، ويفخرون بتحديد هويتهم على هذا النحو. ويشكو المسلمون، عن حقّ، من أنّ وسائل الإعلام، عندما تتحدث عن الحركات والأفعال الإرهابية تصفها بأنّها "إسلامية". ويتساءلون: لماذا لا تصف الإرهابيين الأيرلنديين أو الباسك والإرهاب الذي يمارسونه بأنّه "مسيحي". والجواب بسيط وبديهي: ذلك أنّهم لا يصفون أنفسهم بأنّهم كذلك. وشكوى المسلمين من ذلك مفهومةٌ ولكنها يجب أن توجّه إلى أولئك الذين يصنعون الأخبار، وليس إلى أولئك الذين ينقلونها". إلى هنا يمكن أن يكون دفاع برنارد لويس مفهوماً مع احتفاظنا بملحوظةٍ مهنية مفادها أنّ صناعة الأخبار ليست محايدة. لكن لويس لا يلبث حتى يكشف عن تحيزه نفسه إذ يضيف: "وربما لا يكون أسامة بن لادن وأتباعه في تنظيم القاعدة ممثلين للإسلام، خاصة أنّ كثيراً من بياناتهم وأفعالهم تتعارض بشكلٍ مباشر مع المبادئ والتعاليم الإسلامية الأساسية، لكنهم نشأوا من داخل الحضارة الإسلامية، تماماً كما نشأ هتلر والنازيون من داخل العالم المسيحي، ويجب النظر إليهم في سياق إطارهم الثقافي والديني والتاريخي الخاص". هنا يبدو التناقض واضحاً في ادعاء الموضوعية لدى لويس، فالحضارة وما تتضمنه من أطرٍ ثقافية ودينية وتاريخية لا يمكن، ولا ينبغي، أن نحكم عليها موضوعياً بمعطيات سلوك فردٍ أو مجموعة أو حتى جيلٍ، فلم يقل أحد، ولا يصح أن يقول، ولا نقبل أن يقال، إنّ هتلر – كمثال أورده برنارد لويس – دالة على العالم المسيحي، أو الحضارة الغربية. إنّ مثل برنارد لويس، في سياق حملة التشويه التي نتحدث عنها، هو مثالٌ مركبٌ يتطلب الدراية والحنق في اكتشافه، فليس كافياً أن نرد عليه بالقول: إنّ توجهاته صهيونية، فالمهم هو أن نناقش أطروحاته، وأن نبحث عن نوافذٍ غربية محايدة نطل منها بمعطيات معرفية وإعلامية مقنعة، ولا أظن أنّ ذلك مستحيل، بل هو ممكن ومتاحٌ إذا كنا مصرّين على التحاور دون تربص لكشف الحقائق للجمهور الغربي، وليس نموذج إدوارد سعيد ببعيد عنّا، وعن الغرب. لكن مسؤوليتنا لا تتوقف عند هذا الحد، فثمة قاعدة أساسية للإنطلاق نتجاهلها كثيراً، وهي مواجهة الظواهر التي لحقت بنا من داخلنا، سواء كان هذا الإلحاق طوعياً أو قسرياً.   حتى لا نعطيهم الذرائع: لا شك أنّ صورة العربي والمسلم في الإعلام الغربي، وبعض التقارير البحثية، قد لحق بها الكثير من التشويه. ولنسلم بأنّ وراء الكثير من هذا التشويه أقلاماً وعقولاً معادية للعروبة والإسلام لأسبابٍ عديدة، سياسية وعنصرية، بل بعضها يعمل بمنطق الثأر التاريخي. لكن الوقوف عند هذا الحد لا يكفي لإبراء الذات، ولا لإسقاط المسؤولية. فتراكم العمليات البشعة التي نسبت لعربٍ ومسلمين، سواء بالحقّ أو بالباطل، وسواء كان هؤلاء العربُ والمسلمون عقولاً مدبرةً، أو مجرد أدوات فيما حدث ويحدث، فإنّ دورنا المضاد للتشويه يتطلب جلاء ساطعاً لنفورنا من العمليات التي يُذبح فيها البشر، وتُقطع الرؤوس أمام عدسات الفيديو. كما ينبغي أن يقوم العرب والمسلمون أنفسهم بحملاتٍ مضادةٍ لمحو التشويه عبر نوافذ الإعلام العربي والغربي على السواء، لنبذ هذا التمثيل البشع بالكيان البشري، خاصة عندما يتعلق الأمر بمدنيين عُزل، ونساء، وأطفال، ليس لهم عيرٌ ولا نفير فيما يحدث للعرب والمسلمين، سواء ضحايا قطار مدريد، أو أطفال مدرسة أوسيتيا الروسية، أو خطف موظفي الإغاثة والعمل الإنساني والصحفيين. لابدّ من حملات مضادة لمحو هذا التشويه، ليس عن الإنسان العربي والمسلم فقط، بل أيضاً عن العقيدة الإسلامية السمحة، والتقاليد والقيم العربية، فهي جميعاً لا تقر إهانة الإنسان، حياً كان أو ميتاً، ولا تقبل ترويع الآمنين العُزل. إنها قضية أخلاقية، ومعاشية، وثقافية، دينية، ودنيوية، تتطلب رأياً عاماً عربياً وإسلامياً واضحاً وكاسحاً، ينبع من الداخل، ويشع على الخارج.   المصدر: مجلة العربي/ العدد 554 لسنة 2005م

ارسال التعليق

Top