• ٢٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لوحات جمالية من القرآن الكريم

مجاهد مصطفى بهجت

لوحات جمالية من القرآن الكريم

يجمع القرآن الكريم بين جمال اللفظ وجلال المعنى، فلا يطغى أحدهما على الآخر، وفي ذلك يقول الباقلاني: "فإذا برع اللفظ في المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع في المعنى المتداول المتكرر، ثمّ إذا وجدت الألفاظ وفق المباني والمعاني وفقها... فالبراعة أظهر، والفصاحة أتم".
ويقول أبو سليمان الخطابي (ت 386هـ) في ربط جمال لفظ القرآن في نظمه بمعناه: "واعلم أنّ القرآن إنما صار معجزاً؛ لأنّه جاء بأفصح الألفاظ، في أحسن نظوم التأليف، مضمّناً أصحّ المعاني: من توحيد له، عزّت قدرته، وتتريه له في صفاته، ودعاء إلى طاعته،... وإرشاد إلى محاسن الأخلاق... واضعاً كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه،... والمعلوم أنّ الإتيان بهذه الأمور، والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر...".
نتأمل في هذا المثل القرآني في سياق التوحيد: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج/ 73)، نجد في الآية السخرية والتهكم لعدم قدرتهم على خلق الذباب، ومن جهة أخرى نجد العجز عن رد هذا المخلوق الضعيف، وذلك في قوله: (يسلبهم) و(لا يستنقذوه)، إنّه البلاغة في التعبير.
وأخيراً، نحاول عرض لوحتين من القرآن الكريم، ونحلِّلهما مبينين تسلسلهما وتتابعهما، فالصورة الأولى من مشاهد يوم القيامة للجنة، والثانية للنار.
أ‌) من مشاهد الجنة:
في لمحة خاطفة بعد الموت، ينفخ في الصور، فإذا الناس يخرجون من قبورهم، مسرعين لنداء المولى عزّوجلّ للمحاكمة: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (يس/ 51)، وتوضع الموازين الدقيقة للأعمال وإن كانت مثقال حبة، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء/ 47).
وتتم المحاكمة فيذهب كل فريق إلى مقره: المؤمن إلى الجنة، والكافر إلى النار. والجنة هي المقر النهائي الذي أعده الله للمؤمنين يوم القيامة (لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (الغاشية/ 11-16)، أثاث رائع، ومتاع جميل، هل يتولى المؤمنون تجهيز الأثاث؟ كلا! وماذا يفعلون إذن؟ يجلسون فقط تعلوهم (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) (الإنسان/ 21)، أين؟ (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الواقعة/ 15-24)، تصوير وتجسيم بديع ترى فيه الأمور ماثلة أمامك، وتتشوق نفسك إلى التنعم بهذه النعم، صورة مليئة بالنشاط والحيوية والحركة الدائبة: طواف، وذهاب وإياب، وحديث وكلام، وترى الكؤوس من المعين تلمع بصفائها وصفاء ما فيها من شراب.
ب‌) من مشاهد النار:
ففي حين يتمتع أهل الجنة بنعيمها، يتعذب أهل النار بعذابها (تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) (الغاشية/ 4)، وكيف إذا احترقت جلودهم وأصبح لا حس لها؟! (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء/ 56)، ماذا يقولون وهم داخل النار؟ (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ...) (فاطر/ 37)، ويتلاومون – أيضاً – (.. فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) (إبراهيم/ 21)، وبعضهم يلوم الشيطان فيرد عليهم قائلاً: (.. فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ...) (إبراهيم/ 22).
هل لهم فيها من طعام أو شراب أو ظل مثل أهل الجنة في الجنة؟ نعم، ولكن طعامهم لا يسمن ولا يغني من جوع، وشرابهم لا يروي غليلا، وظلهم لا يقي من حر: (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) (الدخان/ 43-46)، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (الواقعة/ 43-44)، والماء ماذا يفعل بهم؟ (.. وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) (محمد/ 15)، تصوير مفصل لحال أهل النار، يُدخِلُ في النفس الرعب والخوف، وكأنّ الشخص يشاهدها رأي العين، ويرى ما يقاسي أهل النار فيها.


المصدر: كتاب إسلامية المعرفة

ارسال التعليق

Top