• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المثقف العربي والإبداع

محمّد محفوظ

المثقف العربي والإبداع

الثقافة العربية والإسلامية، في جوهرها، هي تجسيد الوعي بضرورة صنع الحاضر وفقاً للاختيارات الفكرية الكبرى، التي تتناغم وروح تلك الثقافة وجوهرها العقدي والحضاري. والمثقف الحقّ هو الذي يتمكّن من تحقيق مقولات الوعي في الواقع الخارجي. وحتى يتمكّن المثقف من تحقيق هذه المسألة، من الضروري أن يكون مُبدعاً وخلّاقاً، لكي يستمر عطاؤه الثقافي وصولاً إلى صنع الحاضر وفق متطلّبات الوعي واختياراته.

وإنّ المثقف المبدع هو الذي يبقى قلقه الفكري والثقافي مفتوحاً، لمواصلة البحث والحفر المعرفي والمراجعة والتطوير، بحثاً عن صيغ وأُطر جديدة للارتقاء بمستوى المعرفة والثقافة إلى الأمام.

وهكذا يصبح القلق الثقافي شرط الإبداع ووسيلته في آن واحد. ويُصبح الأداة الأمينة للانتقال من وضع ثقافي إلى آخر أرقى وأعمق. فالقلق الثقافي وحضور الثقافة وأهدافها في شخص المثقف وعطائه هو البداية الأساسية لتشكيل المناخ الملائم للإبداع الثقافي والفني والأدبي.

فالإبداع على المستوى الثقافي ليس صدفة، أو بعيداً عن نواميس وقوانين الثقافة في المجتمع، بل هو ثمرة تطوّر طويل وتراكم تاريخي - ثقافي، يؤدي أو يتوّج بعملية الإبداع على الصعيد الثقافي.

فالقلق الثقافي الذي يعني الحضور المستمر للهمّ والتطلّعات الثقافية والعقلية كان هو القاسم المشترك بين جميع المبدعين وأصحاب العطاءات الثقافية المتميزة. وإنّ الإبداع كتطلّع يتطلّع إليه أي مثقف أو فنان مرتبط بمجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية معاً. وهذه العوامل تتكون وتتراكم تبعاً لشروط وخصائص ذاتية. ويبقى لإرادة المثقف وكفاحه المعرفي والثقافي الدور الأساسي في تذليل العقبات التي تحول دون الإبداع الثقافي. والذي نريد أن نؤكّد عليه في هذه الحالة هو مسألة الوعي، فالمزيد من الوعي وحضوره الدائم في حياة المثقف هو الكفيل بتحقيق إبداعات ثقافية وأدبية.

والوعي هنا ليس وصفة طبية نأخذها، أو عملاً كمياً نقوم به، أو قراءة لمجموعة من الكُتُب والدراسات الثقافية والأدبية، إنّه استيعاب تام للحالة الشاملة يعيشها المثقف ويتطلّع إليها، استيعاب لا يؤدي إلى التفاؤل أو التشاؤم الذي يشلّ التفكير ويمنع الإرادة من فعلها... إنّ هذا الوعي الذي ينطلق من حالة موازنة دقيقة ورشيدة للتطلّع والممكن، للواقع والمفروض، هو الذي يحققّ للمثقف أو الأديب القفزة النوعية في عطائه وإنتاجه. كما أنّه (الوعي) يحقق للثقافة المزيد من الانتشار والتوسّع وكسب الأنصار على المستوى المجتمعي. والوعي كما يبدو ليس مطلباً سهلاً يمكن تحقيقه بين يوم وآخر أو ليلة وضحاها... إنّه القراءة المستمرة للواقع بكلّياته وتفاصيله، بأحداثه وتطلّعاته، برجاله ومؤسساته، بكوابحه وآفاقه.

 لهذا فإنّ إبداع المثقف مرتبط بشكل أساسي بطبيعة علاقته بواقعه، والظروف التاريخية التي يمرّ بها. فإذا كانت لا تربطه بواقعه أيّة علاقة ثقافية وعقلية، فإنّه لن يتمكّن من الإبداع، لأنّ النواة الأولى للإبداع هي التفاعل الإيجابي بين المثقف وواقعه، وهذه العلاقة تنتج معالجات وإبداعات تنسجم واللحظة التاريخية. فتفاعل المثقف مع الواقع لا يعني الخضوع إلى معوقاته أو الدخول في نفق "ليس بالإمكان أبدع مما كان...". إنّ التفاعل يعني تهيئة الشروط النفسية والعقلية لجعل الأديب أو المثقف يستوحيان من الواقع الأعمال الأدبية والثقافية التي يقومان بها... إنّ الواقع بمثابة التيار الكهربائي العاري، يلدغ ذلك المرء الذي لم يأخذ في حسبانه عمليات السلامة ومتطلّبات الاحتراز من السلك الكهربائي.

إنّ الأرض الخصبة التي تؤهل الأديب أو الفنان لعمليات الإنتاج الأدبي أو الثقافي المبدع هي التي تتشكّل من جراء التفاعل الرشيد بين المثقف والواقع، لا لكي يخضع المثقف مقاييسه ومعاييره المعرفية إلى الواقع وإنّما لكي يكون إنتاج المثقف ذا جدوى وفائدة عملية على صعيد الواقع.

لأنّ ابتعاد المثقف عن عصره وواقعه، يؤدي إلى تكثيف العناصر الكابحة في ذهن المثقف وواقعه، المانعة لعمليات التجديد والإبداع.

إنّ الانعزال عن العصر والمجتمع يؤدي إلى توهج الذكريات، وتهيمن إنجازات ومكاسب ماضي المثقف على حاضره، وتجرّه بشكل ميكانيكي إلى القبول بالأمر الواقع، والعيش على إنجازات الماضي أو إنجازات الآخرين.

إنّ بذرة الإبداع تنمو في حياة المثقف وفق منهجية مدروسة وواعية للتفاعل مع قضايا عصره وعلومه. ويبدأ هذا التفاعل بنقد الواقع معرفياً وفنياً، ومن ثمّ يبدأ المثقف بتوليد المعرفة الجديدة المبدعة.

فالمثقف المبدع ينشر الجديد دائماً، ويقدمه فناً أو أدباً أو علماً، ولكنّه فيما يقدّم من إبداع وصناعة، لا يمكن أن يخرج كلّياً عن مستوى التقدم الذي بلغه مجتمعه بوجه عام، ومقدار تمثل الفرد للإبداعات السابقة، والإفادة منها بشكل خاص... أي إنّه محكوم نسبياً بمعطيات الوجود، وقفزته نحو المستقبل أو المجهول محكومة المدى بمعطيات الماضي والحاضر ولكنّها محمولة على أجنحة إمكاناته وقدراته وإرادته وقدرته على التخييل لتتوغل في المستقبل، وترتاد المجهول علّها تحمل منها ثمراً وأريجاً وشعاعاً، ينير للسالكين طريقهم وموضع خطوهم على تلك الطريق.. "والمبدع في إنشاده بين الماضي السحيق، والمستقبل البعيد يكشف عن وعي منه أو عن غير وعي، مسيرة الإنسانية، ويصدق فيه قول إليوت (فهو أكثر بدائية كما هو أكثر تمدناً من معاصره)".

فالإبداع ليس وليد الفراغ، وإنّما هو حصيلة الخبرة والتجربة والمعاناة، والتفاعل المباشر مع قضايا المجتمع والأُمّة.

فشرارة الإبداع تتّقد حينما تنداح تلك الأسئلة من المثقف التي تضعه وتضعنا أمام حقائق الحياة ومقوماتها... ولا فرق في ذلك بين الإبداع الذي يقصده أفلاطون، "التعبير عن عالم المُثل" أو ما قصده أرسطو من أنّه "محاكاة الطبيعة ثمّ التسامي عليها" أو ما قصده كانت من أنّ الإبداع "طريقة إظهار جمالية في إظهار الشيء".

حسب كلّ هذه المعاني والمصطلحات، لابدّ من توفر علاقة حميمة بين المثقف والواقع، لا للخضوع له، وإنّما لمعرفة حقائقه والتفاعل الخلّاق معها لصناعة النص المبدع.

فالقاعدة الاجتماعية لإبداع المثقف هي أن يكون في حالة حركة وصيرورة مع مجتمعه ومحيطه الإنساني، وبعيداً عن حالات الجمود والكسل الفكري... حينذاك يبدأ المثقف بإنتاج عطاءاته المبدعة، وبالتالي فإنّ إبداع المثقف مرهون بالنقاط التالية:

- في مدى علاقته بالثقافة: فالمثقف الذي يعتبر الثقافة وظيفة لا يرتبط معها بأيّة روابط حبّ وتفاعل وتفانٍ من أجل العلم والمعرفة، إنّ هذا المثقف سيبقى يكرر ما ينتجه الغير، ولن يتجاوز سقف العطاءات الثقافية المتوفرة في الساحة؛ بينما المثقف الذي يرقى في علاقته بالثقافة إلى مستوى الحبّ والعطاء والتفاعل فإنّه مع مرور الزمن، سيتمكن من الإبداع في حقله المعرفي والثقافي.

- في مدى علاقته بالتحديات والتطوّرات التي تجري في ساحة الأُمّة العربية والإسلامية. فالمثقف الذي يصنع لنفسه حاجزاً يحول دون التفاعل وهذه القضايا (التحدّيات والتطوّرات) لن يباشر أي دور مبدع في حياته العلمية والثقافية، لأنّه منع عن نفسه منبعاً من منابع الإبداع ألا وهو التحدّيات والتطوُّرات، فهي بمثابة الحافز الذي يستفز كلّ القوى والطاقات الذهنية والفكرية، للإتيان بالجديد بما يناسب تلك التحدّيات والتطوُّرات. ولا يخفى أنّ بداية الثقافة والمعرفة مساءلة ومن ثمّ مشاركة في توليد المعرفة من قيم الثقافة وخطوطها الكبرى.

وبالتالي فإنّه من وهج الحياة وتفاعل المثقف معها تتولد حالات الإبداع في حياة المثقف. فحيوية حضور المثقف في العصر هي القاعدة المعرفية والمادّية لعملية الإبداع في مستوياتها المعرفية المختلفة.

 

المصدر: كتاب الحضور والمثاقفة (المثقف العربي وتحدّيات العولمة)

ارسال التعليق

Top