ما كان إمبراطور الصين يعتقد أن تلك الورقة الخضراء التي سقطت صدفة في كوب ماء ساخن أمامه ستشتهر وتروج تجارتها في أغلب أقطار العالم، وتجعل الناس يرشفون نقيعها ومَغليِّها صباح مساء وفي أي وقت.
وبغض النظر عن مدى صحة هذه القصة، فإن الشاي من الموارد الاقتصاديًّة المهمًّة التي تعتمد عليها الصين في إغناء رصيدها من العملة الصعبة، حيث إنها تصدره إلى عدد كبير من بلدان العالم، ومنها الأقطار العربية، حيث أصبح شرب الشاي بكل أنواعه وأصنافه عادة لدى الناس بعد انتقاله من طبقة السلاطين والنبلاء والأثرياء إلى باقي الطبقات الشعبية.
لقد عرف إنتاج الشاي الأخضر عصره الذهبي في الصين خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر، بعد إلغاء القيود والرقابة المفروضة على إنتاجه، مما ساهم بشكل كبير في زيادة نسبة زراعته في البلدان الآسيوية، ومن ثَمّ ترويجه في شتى مناطق العالم. وتعد بريطانيا من أكثر البلدان استهلاكًا لكل أصناف الشاي، حتى أصبح المشروب المفضل لدى الإنجليز. وساعد الاهتمام بالشاي في أوربا على وصوله إلى أمريكا، واكتسب شعبية كبيرة حتى صار يقدم في المقاهي والمناسبات والحفلات وفي مختلف الأماكن العامة.
وعن دخول الشاي إلى المغرب يقول الدكتور عبدالحق المريني في مقالة له بمجلة «دعوة الحق» (العدد 311 يونيو- يوليو 1995): «اتفق جل المؤرخين على أن المغرب قد عرف الشاي في القرن الثامن عشر، وبدأ انتشاره في منتصف القرن التاسع عشر لما صار المغرب يتعاطى للتجارة مع أوربا. وهكذا يبدو أن دخول الشاي إلى المغرب كان في عصر السلطان المولى إسماعيل، حيث تلقى أبو النصر المولى إسماعيل أكياسًا من السكر والشاي ضمن مجموع الهدايا المقدمة من قبل المبعوثين الأوربيين للسلطان العلوي، تمهيداً لإطلاق سراح الأسرى الأوربيين، واحتل الشاي منذ بداية القرن العشرين مكانة متميزة في وسط الأسرة المغربية، وأصبحت له طقوس وعادات، وظهرت في وسط الصناع حرفة جديدة أبدعها أصحابها في صنع أدوات تحضير الشاي من «صينية» و«براد» وإبريق وبابور و«ربايع»، والتصق الشاي بحياة الشعب المغربي، وفرضت جلساته حضورها الدائم في وسط مختلف طبقاته. وقد تغنى بهذه الجلسات الشعراء والناظمون والزجالون».
وإذا تمعنا في قول الدكتور عبدالحق المريني، فسوف نستنتج أن الشاي قد دخل الحياة الدبلوماسية، وصار قوة ناعمة للتفاوض، وكانت له قيمة كبيرة لدرجة أنه كان من بين الهدايا التي قدمها الأوربيون لافتداء أسراهم لدى المغرب. وفي ذلك إشارة إلى قوة شكيمة المغاربة المسلمون وغلبتهم على جيوش الصليبيين، حيث طردوهم من الثغور المغربية في الشمال، وأسروا عددًا كبيرًا من جنودهم.
الشاي الأخضر الصيني
ظل الشاي الأخضر مشروباً خاصّاً بالنخب الاجتماعيّة حتى حل عهد السلطان سيدي محمد بن عبدالله الذي شجع انتشارَه بين كل طبقات الشعب.
وقد أقبل الناس على الشاي فصار مشروباً شعبيّاً واسع الانتشار. وبحلول القرن التاسع عشر، أصبح المغرب أحد أكبر مستوردي الشاي الأخضر الصيني في العالم، حتى أصبح يحتل مكانة خاصة في الحياة اليومية المغربية، فأقبل الناس على استهلاكه بكثافة. وينطبق هذا على موريتانيا والجزائر وتونس وليبيا، بينما يفضل مواطنو باقي الأقطار العربية القهوة والشاي الأسود. ويعد الشاي الأخضر المغربي أو «أتاي» كما يسميه المغاربة جزءاً من التراث الوطني وليس مجرد مشروب يُستهلك، بل إنه من مكونات الثقافة المغربية، وله ارتباط بالعادات والتقاليد الاجتماعية، وهو ممارسة يومية مرافقة لسلوك الكرم المتأصل في المدن والقرى المغربية، إذ به يُستقبل الضيوف ويحتفى بهم، كما هي الحال في بلدان الخليج العربي حيث يتم استقبال الضيوف بالقهوة النفيسة التي ترتبط بتقاليد الجود والكرم العربي والعادات العربية العريقة.
وللشاي الأخضر رمزية كبيرة متأصلة في ذاكرة الحضارة والتاريخ. بدءاً من صناعة أوانيه الفضية، حيث تعد الصينية الفضية المنقوشة بالأرابيسك الأندلسي من مفاخر البيوت المغربية، كما أن للبراد الفضي (الإبريق) القيمة نفسها. أما الكؤوس فتتدرج جودتها وقيمتها من الزجاج العادي إلى البلور النفيس، وهذه الأواني تختلف أسعارها وأنواعها حسب الطبقات الاجتماعية، لكن هناك حرصًا دائمًا على توافرها في كل بيت تحسبًا لقدوم ضيوف محتملين، أما حبوب الشاي فتختلف جودتها حسب رغبة المستهلك ووضعه الاقتصادي والاجتماعي.
تحضير الشاي الأخضر
يتفنن المغاربة في تقديم الشاي الأخضر محضَّراً بعناية فائقة، وعادة ما يكون منسَّماً بالنعناع أو الياسمين أو الزعفران أو الصمغ العربي. وصينية الشاي دليل الترحاب وحسن الضيافة، وأول ما يقدم على الموائد مع الحلويات والفطائر والمملحات والمكسرات وغيرها من أجود ما تعده ربات البيوت حصريًّا للضيوف.
ورغم تغير نمط العيش وهجمة أسباب التغريب وهبوب رياحها على بلداننا العربية ومنها المغرب، فإن الإنسان المغربي لم يفرط أبدًا في عاداته وتقاليده وقيمه النبيلة التي يتوارثها جيلاً بعد جيل، ومنها جلسة الشاي التي لا تزال تقام كما هي حالها في الماضي، حيث تحرص الأسرة المغربية على احترام وقت تناول الشاي والاجتماع حول آنيته خاصة بعد العصر، ففي هذه الجلسات تناقش أمور الأسرة بحضور كبيرهم وصغيرهم، وذلك من دعائم تقوية الأواصر الأسرية التي تنعكس خيرًا على العلاقات الاجتماعية.
تتكون عناصر إعداد الشاي المغربي من حبوب أو شعيرات الشاي الأخضر وأوراق النعناع والسكر ثم الماء المغلي. أما آنيته فهي الصينية المصاغة من معدن النحاس أو الفضة المزينة بنقوش الأرابيسك، وكذلك شأن البراد (الإبريق). وتعد مدينة فاس المصدر الرئيس للأواني الفضية الممتازة، حيث حافظ الحرفيون على هذه الصناعة التقليدية الأصيلة منذ قرون طويلة، وترافق الصينيةَ والبرادَ أدواتٌ أخرى يطلق عليها «الربايع» وهي ثلاث علب من نفس المعدن الذي صيغت منه الصينية والبراد، وتحمل نفس نقوشهما. وتخصص الصغيرة للشاي والمتوسطة للنعناع والكبيرة للسكر. ويتم تسخين الماء في غلاي «مقراج» ثم توضع حفنة أو حفنتان من الشاي الأخضر في الإبريق «البراد» ثم يضاف إليها الماء المغلي ويوضع على نار هادئة لعدة دقائق. بعد إنزال البراد من على النار يضاف إليه النعناع المغسول جيدًا مع قطع من السكر حسب الرغبة في التحلية، وبعدها يقلب في كؤوس من الزجاج حتى تتشكل رغوته الكثيفة، ثم يقدم للضيوف كعلامة على حسن الضيافة، وعادة ما يقدم ما لا يقل من كأسين أو ثلاثة كؤوس بالتوالي كما هو الشأن في الجنوب المغربي الذي يعد من أشهر المناطق التي يتفنن أهلها في طرق تحضير الشاي. وللشاي عندهم طقوس لابد من مراعاتها، ولا بد من إعداده وشربه بحضور جماعة من الأفراد، مع الحرص على تقديمه في كؤوس صغيرة مملوءة إلى النصف، وتعلو الرغوة النصف الفارغ. ويمكن إضافة السكر من أجل تخفيف مذاق الشاي الأخضر، وقد ما يضاف إليه مقدار مناسب من الصمغ العربي. ولا يحلو شرب الشاي بدون الالتزام بهذه الشروط.
إن الشاي الأخضر حاضر في كل مناحي حياة المغاربة، يستهلكونه طوال اليوم وفي جميع الأوقات، سواء في الصباح أو في المساء، وحتى في أوقات متأخرة من الليل إذا اقتضى الحال ذلك في إطار مناسبة اجتماعية متمثلة في عرس أو عقيقة أو ما شابه ذلك. كما يقدم في الفنادق والمطاعم الراقية، حيث يتخذ بعداً سياحياً وثقافياً، فتجد متخصصين في تحضير الشاي بلباسهم التقليدي يصبون الشاي في الكؤوس بمهارة، ويتفننون في تقديمه للسياح الأجانب. ولا غرو في ذلك ما دامت عادة جلسات شرب الشاي في المغرب متجذرة وراسخة بطقوسها في المورث الثقافي والحضاري المغربي.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق