إنّ القيم الإسلامية الكبرى تفرض سلطانها على كلّ العصور، تستوي في ذلك عصور الازدهار والتسامي، وعصور التخلف والتدهور، لأنّ هذه القيم مرتبطة أوثق الارتباط بالعقيدة الإسلامية وبمنهجها، والعجيب أيضاً أنّها تبسط هيمنتها على كلّ الذين يعيشون على أرض الإسلام، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين، لأنّها في حقيقة الأمر قيم حضارية عامّة، تتغلغل في النظر إلى الأشياء، وفي الفكر والسلوك، وفي العلوم الدنيوية والدينية، وفي التشريع والسياسة والحرب والسلم والاقتصاد، وفي الهدف والوسيلة، وفي آداب الكلمة أيضاً، وقد يشذ الأفراد، أو تضل الجماعات، أو يضعف السلطان وتختل الموازين، لكن هذه القيم تظل واضحة بارزة مهما ظل بعض فعلها معطلاً، فهي باقية ما بقيت السماء والأرض، صامدة صمود القرآن العظيم، تشع بأنوارها الباهرة عبر العصور المتلاحقة، لأنّها نابعة أوّلاً وأخيراً من الرسالة الخاتمة، ومن الكلمة الأخيرة التي نزلت من السماء إلى الأرض.
وتتميز هذه القيم بأنّها تضمّ تصوّراً كاملاً شاملاً نموذجياً لكلّ نواحي الحياة، فالفضيلة خلق شخصي، وسلوك اجتماعي، ومنهج عملي، وحكم راشد، وعدالة سمحاء، وجهاد وعرق، وإبداع وتطوّر، وسياسة أمينة، وعاطفة نقية، لا تلبس الحقّ بالباطل، ولا تغرق في متاهات اللذة الآثمة، والجشع القاتل، والسيطرة الجائرة، والحرّية الضالة، والأنانية المدمرة، والمادّية الفتاكة.. من هنا استطاعت هذه القيم أن تصنع حضارة فذة، وتقدّم تجربة حيّة رائدة، ثم اعتورتها عوامل الضعف والقوّة، والارتفاع والانخفاض، والنصر والهزيمة، لكن هذه التغيرات كانت تعكس دائماً مدى الالتزام بهذه القيم أو التحلل منها، كانت حركة الإنسان سلباً أو إيجاباً، وانحرافاً أو تطابقاً، هي المؤشر لظاهرة النجاح والفشل في أي عصر من العصور.
وكان طبيعيّا أن تفرز هذه القيم أدباً..
وكان منطقياً أن نطلق على هذا الأدب مصطلح "الأدب الإسلامي"، تماماً كما وضع المسلمون مصطلحات أخرى وثيقة الصلة بتلك القيم، كمصطلحات: الفقه الإسلامي، والاقتصادي الإسلامي، والحكم الإسلامي، والتاريخ الإسلامي، والفتوحات الإسلامية... إلخ، فالإسلام هو الأب الشرعي، دفع في هذه "الكائنات" من روحه ودمه، فجعلها تعيش وتنمو، وتغلغل في أعماق التحرك التاريخي، وتصبغ الفكر والسلوك والتصوّر، وتصنع المنهج الضابط لهذه النشاطات وغيرها.
وإذا كانت العلاقة بين بعض المدارس الأدبية والفلسفة التي تنتمي إليها علاقة تبدو أحياناً مخلخلة أو مفتعلة أو متناقضة، أو قل غير مقنعة، فإنّ علاقة الأدب الإسلامي بأبيه الشرعي الإسلام علاقة عضوية وثيقة لا يمكن فصمها إلّا في الفترات الشاذة العصبية، وفي عصور الجهل الإيديولوجي والمحن السياسية والاستعمارية، وهذا راجع لسبب أساسي ورئيس وهو أنّ الإسلام ليس فلسفة تجريدية، ولا منهجاً فضولياً يسمح له بالولوج إلى جهة، ويمنع من الدخول إلى جهة أخرى، بل هو صيغة شاملة كاملة تغطي جوانب الحياة كلّها، كما أنّ الإسلام ليس مجرد فرضية أو نظرية تقف في استعلاء على ربوة منعزلة، وتنتظر مَن يتوسل إليها بالقرابين والكلمات، ولكنّه واقع حيّ معاش، فيه عظمة العصمة الإلهية، والاستجابة الصحيحة لواقع الحياة الإنسانية بما فيها من استقامة وشذوذ، وقوّة وضعف، ومادّة وروح، وفيه أيضاً انفتاح واعٍ على تجارب البشر، ومستجدات الحياة، دون شعور بالخوف والتردد، أو عقد من نقص ومهانة.
ومن الطبيعي والمنطقي أنّ "الأدب الإسلامي" ينمو ويترعرع في ظل "القرآن الكريم" ورحابه، ينهل من فيضه، ويغتني بمنهجه وأسلوبه ونماذجه، ويستمد منه عناصر الصدق والطهارة والقوّة والدقة والأمانة، ويستشرف منه الغاية، ويغتنم الوسيلة، وفي فجر الدعوة الإسلامية، أقام الرسول (ص) للشعر منبراً في المسجد، كما قال عن شاعره حسان: "إنّه ينطق بروح القدس"، كما قال (ص) أيضاً: "إنّ من الشعر حكمة، وإنّ من البيان لسحراً".
وعلى الرغم من وجود فئات ظلت معتنقة للنصرانية أو اليهودية في إطار المجتمع المسلم إلّا أنّ هذه الفئات - مع ولائها لدينها - ظلت معتنقة لتقاليد الحضارة الإسلامية وفية لمنهجها وسلوكها، فصدرت عن هؤلاء آداب وفنون وعلوم لا تختلف كثيراً عن نتاج القرائح المسلمة الملتزمة، وهكذا طغى عليهم النصر التاريخي النادر المثال للحضارة الإسلامية، ولو لم يفعلوا ذلك لانقرضوا وما سمع بهم أحد، وهذه الظاهرة فيها أيضاً ما يدل دلالة واضحة على تسامح الإسلام وشموخه، كما أنّ فيها أنّ النصر لا يكون بالحديد والنار، وإنما بعظمة المبادىء الإلهية الخالدة التي تنحني أمام عظمتها الرؤوس.
واللغة العربية تستمد بقائها وتميزها من القرآن الكريم الذي كُتب بها، فزادها شرفاً ورفعة، وربطها بأعظم قيم الوجود وعقائده، وجعلها تمتد بين السماء والأرض أبد الآبدين، ومن ثم فإنّها اللغة الطبيعية والأساسية للأدب الإسلامي، ولكن هذا لا يعني قصر الأدب الإسلامي عليها وحدها، لأنّ تباين العالم الإسلامي واختلاف لغاته يجعل من الضروري لهذا الأدب العالمي أن يُكتب بلغات أخرى كالفارسية والأوردية والتركية، بل والإنجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها من لغات الدنيا، ولا غرابة في ذلك، فأدب الواقعية الاشتراكية، وكذلك الأدب الوجودي وغيره يُكتب بمختلف اللغات، وفي كلّ لغة جمالياتها وقدرتها التعبيرية المؤثرة، والواقع أنّنا نطرب لكلمات الشاعر الفيلسوف إقبال كما نطرب لأشعار ابن الفارض والبوصيري وشوقي وغيرهم، ومن المعروف أنّ لغات العالم الإسلامي قد تطعمت بالكثير من الألفاظ العربية وأساليب لغة القرآن وجمالها، واستلهمت قيمه البلاغية والفصاحية، ونهلت من مضامينه الفكرية الخالدة.
والأدب الإسلامي بداهة لا يرتبط بعصر دون عصر، إنما هو أدب كلّ العصور، لكن مفهومه الواضح المتصل بالعقيدة، يتشكّل تبعاً لأحداث التطوّر، وترادف الإبداعات المتجددة، ونحن نرى المذاهب الأدبية الغربية نفسها ترتدي أثواباً جديدة من وقت لآخر، فالكلاسيكية القديمة اتخذت عند عصر البعث الأوروبي شكل "الكلاسيكية الحديثة"، كذلك تعدّدت "الواقعية" وتطوّرت، وأصبح لها عشرات الأسماء والمفاهيم، "الرمزية" تنوّعت، بل إنّ أُدباء المذهب الواحد، في العصر الواحد، كانوا أنماطاً متمايزة ولم يتقوقعوا في قوالب محددة جامدة من صنع المذهب.
المصدر: كتاب مدخل إلى الأدب الإسلامي
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق