تهذيب سلوك الأفراد، وتوجيههم نحو المثل الأعلى – هو الأسلوب الصحيح لإيجاد عناصر صالحة تستطيع أن تقوم بدور خطير في الحياة وتسهم بنصيب كبير في تزويدها بما هو أنفع وأرشد.
والدين بما له من سلطان على النفوس والقلوب، وتأثير على المشاعر والأحاسيس، وبما وضع من خطط عملية، وتوجيهات حكيمة – يستطيع أن يحقق هذه الغاية، ويبلغ هذا القصد دون تعثر أو انحراف.
والدين في جملته وتفصيله ما هو إلّا إرشاد لما يجب أن يكون عليه الإنسان ليأخذ من الكمال بحظ وافر في هذه الحياة. وليعد نفسه لجوار ذي الجلال في حياة أبقى وأرقى.
وفي هذا الحديث الذي نحن بصدده تتجلى هذه الحقيقة وتظهر بوضوح.
1- ففي الأمر بملازمة التقوى، أمر باتباع كلّ خير، ومجانبة كلّ شر.
إذ أنّ التقوى – بمفهومها اللغوي ومدلولها الشرعي – لا تحتمل غير هذا المعنى، فهي مأخوذة من الوقاية بمعنى الحفظ.
والإنسان لا يقي نفسه ولا يحفظها إلّا إذا أتى بما أمر الله به من فضيلة، واجتنب ما نهى الله عنه من رذيلة.
في هذا سمو للنفس، وعروج بها في معارج القدس والكمال.
ومن ثم عظيم الشارع أمر التقوى، وجعلها جماع كلّ خير، ومصدر كلّ بر، وأصل كلّ صلاح للأفراد والجماعات.
ولابدّ لتحصيل التقوى، من فقه في دين الله، ومعرفة ما فيه من سمو وحكمة.
يضاف إلى ذلك قوة إرادة ومضاء عزيمة لحمل النفس على الاضطلاع بالتبعات والتكاليف.
وبالمعرفة من جانب، والإرادة الحازمة من جانب آخر، يستطيع المرء أن يبصر الطريق، ويسير على الجادة دون تعثر أو انحراف.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذين الأمرين في معرض الثناء على بعض الأنبياء فقال:
(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأيْدِي وَالأبْصَارِ) (ص/ 45).
أي أنّهم أولو قوة في الدين، وبصرٍ به.
وفي الحديث، يقول الرسول (ص): "لن يبلغَ أحدُكم أن يكونَ من المتقين حتى يدع ما لا بأس به، حذراً مما به بأس".
2- ولا يكفي أن يجاهد الإنسان نفسه من أجل حملها على الفضيلة وأخذها بها.
بل لابدّ من الجهاد، من أجل استقرار هذه المبادئ الكريمة والتمكين لها حتى تكون هي القاعدة العامة، والعرف، الذي يتقيد الناس به ويصدرون عنه.
وهذا هو المعبّر عنه بالجهاد في سبيل الله.
وسبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته.
وهذا الجهاد يقتضي التضحية بالنفس والمال وكلّ عزيز وغالٍ.
لأنّ محاربة الانحراف، والشذوذ، والعادات السيئة، والتقاليد الفاسدة، والأهواء المُضِلّة، والعقائد الزائفة، ليس بالأمر السهل الذي يتم بكلمة تذاع، أو مقال ينشر.
ومن أجل ذلك أطلق الشارع على محاربة المنكر ومحاولة تغييره لفظ "الجهاد"، المأخوذ من الجهد والمشقة، وجعل ثواب المجاهدين المغفرة والجنّة.
وقد أراد نبيّ الإسلام (ص) أن يبيّن في هذا الحديث حقيقة الرهبانية، وأنّها ليست اعتزال الناس ولا الانطواء على النفس؛ ولا هجر ما أحل الله من الطيبات من الرزق، ولا ترك ما أباحه من متع الحياة؛ وإنما هي تضحية كريمة من أجل الحقّ، واقتحام للشدائد في سبيل الإنسانية، وحمل للتبعات الجسام إعلاءً لكلمة الله.
هذه هي معنى الرهبانية في الإسلام، وأنّها عمل إيجابي، ومخاطرة يتعرض الإنسان فيها لإتلاف نفسه، وإزهاق روحه، أداءً للواجب وانتصاراً للحقّ.
أما معنى الرهبانية السلبي فليس من الإسلام في شيء، لأنّه لا يجلب خيراً ولا يمنع شرّاً، "لا رهبانية في الإسلام".
3- وكثيراً ما تعتري النفس الغفلة، ويعرض لها الذهول والنسيان، فهي في حاجة إلى مَن يذكِّرها إذا نسيت، وينبِّهها إذا غفلت، ويوقظ فيها حاسة الخير لتنبعث إلى غايتها، دون توقف أو إبطاء. وليس أنفع لها، ولا أجدى عليها من تلاوة كتاب الله، ومداومة الذكر، فهما ربيع القلوب، وجلاء الأحزان والهموم.
إذا مرضنا تداوَيْنا بذكركم *** ونترك الذكر أحياناً فننتكس
وذلك أنّ مناجاة الله عن طريق التلاوة والذكر تقوِّي العزائم وترهف المشاعر والأحاسيس، وتسمو بالإنسان إلى الذروة من الروحانية والكمال؛ فيبدو الإنسان إنساناً متكاملاً، هيناً، ليناً، متفائلاً، لا يني عن الخير، ولا يقصِّر عن غاية.
4- وهذه المعاني الكريمة، والوصايا الحكيمة، لا ينتظم أمرها إلّا إذا ضبط الإنسان نفسه وملك لسانه. فما كان من خير نطق به، وما كان من شر سكت عنه.
"رحم الله امرءاً قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم".
وكثير من الناس تخونهم ألسنتهم، فيكثرون من القيل والقال ويخوضون فيما ينبغي لهم أن يتنزهوا عنه، ويذيعون مقالة السوء، ويحرّفون الكلم عن مواضعه، دون مراعاة لأدب القول، ولا محافظة على أعراض الناس، ولا مراقبة لله، فضلاً عن ضياع أوقاتهم وأوقات غيرهم فيما لا طائل تحته ولا غناء فيه.
وهؤلاء الثرثارون لا يرجى خيرهم، ولا يؤمن شرهم، ولا يستحقون إلّا الازدراء والتحقير؛ فهم قذى العيون، وشجى الحلوق.
يقول رسول الله (ص): "وهل يَكُبُّ الناس يوم القيامة على وجوههم إلّا حصائِدُ ألسنتهم"؟..
ويقول أيضاً: "إنّ أبعدكم منِّي مجالس، يوم القيامة، الثرثارون المتفيهقون! قال: المتكبرون".
هذه هي المعاني الطيبة التي جاء بها الإسلام، والتي اتخذها سلفنا الصالح منهجاً عملياً لسلوكهم، فعاشوا في ظلها سعداء آمنين. قدموا للدنيا أحسن ما عندهم، وأخذوا منها أحسن ما فيها.
ثمّ خلف من بعدهم خلف جرّدوا هذه الألفاظ من معانيها، فبقيت ألفاظاً ميتة لا تحيي نفساً، ولا تنير قلباً، ولا تهذب خُلقاً.
فهل للمسلمين أن يحيوا هذه الألفاظ بإحياء معانيها في نفوسهم، حتى يهب الله لهم الجدة والحياة؟..►
المصدر: كتاب دعوة الإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق