إنّ العمل مع النفس ينبغي أن يكون وقائيّاً ومستمرّاً، أن يكون عملاً يوميّاً وفي كلّ ساعة، بحيث يسلِّط الإنسان كاميرا من ضميره لمراقبة نوازعه وأهوائه، ثم يعرض كلّ ذلك على قلبه: «استفتِ قلبك ولو أفتاك المفتون». الوقاية مطلوبة، كذلك الفحص الدائم للنفس مطلوب، وهذا ما تترجمه الاستقامة: (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) (فصلت/ 30)، فأوّلاً يأتي القول والإشهار، وبعدها تأتي الاستقامة. ومشكلتنا، ونتيجة التّربية والأفكار السّائدة وما درجنا عليه، أنّنا عادةً ما نكتفي بالإشهار: «ربّنا الله»، فنحن نمارس الطّقوس، ونلتزم بشكل معيّن، بحيث نتواجد في هذا المكان أو ذاك، ننتمي إلى هذه الجماعة أو تلك، وهذا كلّه له علاقة بالشّكل... أمّا الأصل والمضمون والجوهر، فمرهون بالاستقامة في الحياة؛ الاستقامة التي تعني استحضار الله في تفاصيل كلّ عمل نؤدِّيه: «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصيامهم، فإنّما هو شيء اعتادوه، فإن تركوه استوحشوا، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة».
والاستقامة تعني اعتدال السّير في الخطّ المستقيم الذي رسمه الله للحياة؛ خطّ العدل والإنصاف والنزاهة، أن نثبت عليه ولا نتنازل عنه لأيّ اعتبار. ومن هنا نفهم، لماذا طلب الله عزّوجلّ منّا أن ندعوه في كلّ صلاة: «اهدنا الصِّراط المستقيم»، مع أنّ المفروض أنّنا اهتدينا، ولهذا نحن نقف في الصلاة بين يدي الله ونلبِّي أمره، فالله يريدنا عند كلّ صلاة وقراءة الفاتحة، أن ندقّق جيّداً في مسارنا، وفي أيّ طريق نسلك، وإلى أين نتّجه، حتى لا نكون من المغضوب عليهم ولا نكون من الضالین. إنّ الطريق محفوفة بالمخاطر، وهناك من هو جاهز ليسحبك خلال سيرك إلى هذه الجهة أو تلك، ويقنعك بأنّك على الصِّراط المستقيم... ومن هنا، قد نجد في الواقع متديّناً يعرف قيم الإيمان، وقد يدرسها، ولكنّه يفتن أو يكذب أو يخون أو يرتشي، وحتى قد يقتل ويستبيح الدّماء... وهو في كلّ ذلك، يعطي أعماله غطاءً دينيّاً.
إنّ الأمر ليس بالسّهل أبداً، ومعاناة من اختار الاستقامة شديدة، لهذا تكمل الآية كتطمين ومكافأة من ربِّ العالمين: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13)، (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن/ 16). الاستقامة هي القيمة التي دعا الله إليها من استخلفهم في الأرض، ولم يستثنِ حتى الأنبياء والرسل ، لذا قال الله لرسوله في سورة هود: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ) (هود/ 122).
أيّ طريق نسلك؟!
تعالوا لنؤكّد الاستقامة في حياتنا؛ الاستقامة لعقولنا، فلا تقبل الأفكار الملتوية والمتخلّفة.. الاستقامة لقلوبنا، فلا تنبض إلّا بالمحبّة.. الاستقامة لألسنتنا، فلا تنطق إلّا بالحسنى.. الاستقامة لجوارحنا، لتعمر الأرض ولا تفسدها.. الاستقامة لنيّاتنا، فتصفو ولا تُسرّ غير ما تُعلن.. أن تستقيم رغباتنا، فلا تطلب إلّا ما أحلّه الله.. أن يستقيم ديننا، فلا نتّبع السّبل فَتَفَرّق بنا.
«العمل العمل، ثمّ النّهاية النّهاية، والاستقامة الاستقامة»، بها ناشد أمير المؤمنين أصحابه.. فالبداية عند كلّ من أعلن إيمانه معروفة، والنّهاية التي يرجوها معروفة، والمهم الخطّ الواصل بينهما، أيّ الطريق الذي نسلكه. ويبقى السّؤال: كيف نسلكه؟
اللّهمّ ثبّتنا على دينك ما أحييتنا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق