• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ثقافة السلام

ثقافة السلام

لعلّ الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي عُني عناية فائقة بالدعوة إلى السلام كثقافة وجعلها دعامته الأولى، وقد تناول كتابه القرآن الكريم «السلم والسلام» في عشرات من آياته المحكمات.

ليس ذلك فحسب، بل إنّ السلام اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته (هُوَ اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ) (الحشر/ 23)، وجعله تحيّته إلى عباده، وأمرهم بأن يجعلوا السلام تحيتهم يلقيها بعضهم على بعض وشعارهم في جميع مجالات الحياة. وسمَّى الجنّة دار السلام: (وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ) (يونس/ 25). والآيات التي تناولت السلام كثيرة، منها: (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (يس/ 58)، (سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ) (الصافات/ 79)، (سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الصافات/ 109)، (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف/ 89). من هنا كان الإسلام شعار المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها منذ ظهور الإسلام حتى الآن. وهو شعار يُلقيه المسلم على صاحبه كلّما لقيه وكلّما انصرف عنه، فيقول له: «السلام عليكم»، ويلقيه المسلم كلّ يوم خمس مرات على الأقل في الصلوات المفروضة حين يصلي ويقرأ التحيات ويختم صلاته بقوله: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» مرّتين، مرّة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال.. لابدّ ـ إذن ـ أن يكون هذا الشعار الذي يردّده المسلم كلّ يوم وكلّ ساعة، من أعظم القيم الدينية. نحن إذن ـ عندما نلقي بالتحيّة على غيرنا ـ إنّما نُلقي اسماً من أسماء الله يحفظهم، وكأنّنا ندعو لهم أن يكونوا في صفاتهم قريبين من صفة السلام، وهي السلامة عن العيب والنقص: (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) (النساء/ 94). إنّ الإسلام من السلام الذي هو ضد العدوان.. سلام ـ أوّلاً بين العبد وبين نفسه، ثمّ سلام ـ ثانياً بينه وبين الله تعالى، ثمّ سلام ـ ثالثاً بينه وبين غيره من الناس.. فالإسلام دين يدعو إلى السلام ويضع هذه القيمة على رأس القيم التي فيها صلاح العالم وخيره والأخذ بيده.

ثقافة السلام، كلمة ليس بالهيّن إطلاقها، أو حصرها في مشاريع ولقاءات ومناسبات من هنا وهناك؛ ولكن ما تقوم به بعض المؤسّسات الإقليمية والعالمية من مشاريع ثقافية وإعلامية، لإبراز ثقافة السلام، مهمّ، على الأقلّ لتذكير مَن يهمّه الأمر بأهميّة السلام كقيمة إنسانية يفتقدها العالم.. ثقافة السلام مهمّة، ويجب نشرها بالأسلوب الذي يؤثِّر إيجاباً في الواقعٍ.. لذا، ما يهمّ هو الكيفيّة التي تمارس التأثير بها في أصحاب النفوذ والقرار.. إنّها مسؤولية كبيرة أن تزرع ثقافة السلام في المجتمعات المتعطّشة لها، وأهمّ من ذلك، صناعة جيلٍ واعٍ لأهميّة السلام وقيمته؛ جيل مسؤول يعتبر السلام غايةً وهدفاً فوق كلّ الاعتبارات، وهو ما نادت به جميع الرسالات السماوية، والتقت حوله كقيمة تبرز أصالة الإنسان، وتسمح لإمكاناته بالإبداع والعطاء، بعيداً عن لغة الحسابات الضيِّقة الحزبية والعائلية والقبلية؛ ليكون هناك جيل يؤمن بأنّ التربية التي تربّي الجيل الصاعد على أهميّة السلام، لابدّ من أن تترك الأثر، ولو بعد حين، في إعادة رسم المشهد العام، وليس فقط المؤتمرات والندوات التي هي في كثير منها مجرّد بروتوكولات، سرعان ما تنتهي في لحظتها.

ويبقى الواقع يتخبّط في تعقيداته، ما لم يصنع إنساناً محبّاً للسلام، واعياً لمعناه ودوره، فمن الصعب أن تعيد السلام إلى أرض تتآكلها الصراعات والاضطهادات، ولم يعرف أُناسها يوماً مذاق السلام المعدوم. السلام ليس مجرد كلمة عابرة، بل هو أساس من أساسات استقرار الدول، وركيزةٌ مهمةٌ تستند عليها حياة الشعوب، فبلا سلام لا توجد حياة مستقرة، وبلا وجوده أيضاً تنعدم أسباب الرخاء، وتتراجع كلّ فرص الحياة إلى الخلف، من تعليمٍ، وصحّة، وتطوّر، وحياة، لأّنّ الحرب وهي نقيضة السلام، تدمي القلوب، وتشعل الفتن، وتنهي حياة البريئين، وتسبب في أن يكون الحزن عاماً وطاماً على الجميع.

عبر الزمن تبلورت فكرة ثقافة السلام لتتجاوز حدود بحوث السلام بمعناه التقليدي والتي كانت تهدف إلى منع نشوب الحرب، لتصبح ثقافة السلام دعوة عالمية فعّالة تهدف إلى تأكيد القيم الإيجابية للتعايش الإنساني والنظر إلى الثقافات المتنوّعة في العالم باعتبارها مصدر إثراء للتنوّع البشري الخلّاق. إنّ ثقافة السلام تهدف إلى تغيير اتجاهات البشر للقضاء على النزاعات العدوانية ونقد ما يمكن تسميته ثقافة الحرب وترسيخ قيم احترام الآخر من خلال حوار فعّال بين الثقافات بدلاً من الدعوات العنصرية للصراع بين الحضارات.

إنّ علاج أمراض المجتمع يبدأ من إحلال ثقافة السلم والرحمة محلّ ثقافة العنف والنقمة، وتحية «السلام» إذا فقهنا معناها وأصبحت تجسيداً لتصوّر عقيدي واضح كفيلة بطرد المشاعر السلبية من النفوس وتحويلها إلى مشاعر إيجابية تبعث على البناء بدل الهدم والجمع بدل التفريق. إنّ السلام المنتج للمحبّة ثقافة، وهو جزء أصيل من العملية التربوية يجدر الإقبال على توضيحه وترسيخ معانيه وأبعاده وردم الفجوة بين كلمة «السلام» وواقعنا.

تعليقات

  • 2023-06-14

    محمد رموز

    ثقافة السلام تتجلى في علاقة الإنسان بربه و مع نفسه ومع غيره. والسلام من أحب الأسماء إلى الله تعالى. وأصل الإسلام نشر السلام في الدنيا والآخرة وليس نشر ثقافة الحرب والدمار التي تدمر الحضارات والعمران قال صلى الله عليه وسلم :"ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيت ورسولا:"

ارسال التعليق

Top