• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن الكريم وأسرار الكون

د. محمد ناصري/ تعريب: جعفر الهادي

القرآن الكريم وأسرار الكون
◄لقد حثّ القرآن الكريم الناس ضمن آيات عديدة وبأشكال مختلفة على اكتساب العلوم، وتحصيل المعارف، ودعاهم إلى التمعن في أسرار الخليقة بهدف الوقوف على آثارها، وليكون ذلك نقطة بداية على طريق تنمية المواهب، وترقية العقول، وترشيد القابليّات، وليتجلّى من خلال التعمّق والتمعّنَ في هذه الأسرار طريقُ إلى اكتشاف الرموز المودَعة في العالم وبالتالي التعرّف على القدرة الإلهية المطلقة.

على أنّ ثمّ نقطة واضحة جدّاً وهي أنّ هذا الكتاب السماويَّ العزيزَ لم ينزل لكي يعلّم البشرية الحساب والرياضيات ويوقفهم على علوم الفيزياء والكيمياء، والجبر والهندسة أو الهيئة والنجوم، بل القرآن كتاب هداية، وإرشاد فحسب، غاية ما هنالك انّه يتعرض خلال آياته الشريفة، وبين الفينة والأخرى إلى مثل هذه المسائل العلمية في شكل إيماءات إرشادية، وإشارات منبِّهة، واصطُلِح على تسميتها بمعجزات القرآن العلمية التي يمكن – بالإمعان فيها – الاهتداء إلى جذور الكثير من العلوم، وهو ما فعله علماءُ الإسلام إذ بدأوا نهضتهم العلمية من بدايات القرن الثاني الهجري مستلهمِين من هذه الآيات الكريمة، وشغلوا مركز الصدارة في عصرهم في بعض العُلوم، وفي هذه المقالة نشير إلى بعض تلكم الآيات:

1-  (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (الشعراء/ 7).

وهناك آيات عديدة أخرى في القرآن الكريم استعملت لفظةُ "زوج"، و"الزوجية" في مجال النباتات[1] وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أنّ المراد من لفظة الزوج هو النوع[2] وقد فُسِّرت لفظةُ الزوجين في كتب اللغة هكذا (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) (الذاريات/ 49)، فتنبيه على أنّ الأشياء كلّها مركّبة من جوهر وعرض ومادة وصورة[3] (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (الرعد/ 3)، أي خلق فيها من جميع أنواعها زوجين أسود وأبيض وحلوا وحامضاً ورطباً ويابساً[4].

إنّ مسألة الزوجية والتصريح بأنّ هناك ذكراً وأنثى في عالم الحيوان والنبات من المسائل العجيبة جدّاً في عالم الطبيعة، والموجبة للتناسل والتكاثر، والتوالد الموجب بدوره لبقاء النوع البشري واستمراره.

ومع أنّ هذه الحقيقة قد بُيّنت بمثل هذه الصراحة في آيات عديدة من القرآن الكريم ومع أنّه قد اتضحت أساساً وإلى درجة كبيرة قضيّة اللقاح والتلاقح في عالم النباتات عن طريق الرياح[5] وعن طريق الحشرات، وبخاصّة في مجال النخيل فإنّ أغلبية المفسرين والمحققين في علوم القرآن – مع ذلك – لمّا بلغوا إلى لفظة "زوج" فسّروها بالنوع والصنف، في حين أنّ هذه اللفظة لا تفيد إلّا معناها المعروف "الذكر والأنثى" وهذا يبدو أجمل كما يكون أفضل في شرح أسرار القرآن العلمية.

من بين علماء النبات المحققين كان "شارل لينه"[6] ذا رَغبة شديدة في التعمق في أسرار النباتات وهو أوّل من صنّف النباتات – وللمرّة الأولى – على أساس الزوجيّة، وأسّس إحدى تقسيماته في عالم النبات على هذا الأساس.

ولهذا سمّى في كتابه المعروف "أنواع النباتات" أكثر من سبعة آلاف وثلاثمائة نوع من النباتات[7].

إنّ هذه العالم الطبيعي السويدي توصّل في تحقيقاته المفصلة في مجال علم النبات، وفي القرن الثامن عشر الميلادي إلى اكتشافَ هذه الحقيقة وهي أنّ مسألة الزوجيّة وقصّة الذكورة والأنوثة العجيبة في عالم النبات واقع مسلّم، وحقيقة ثابتة ومن القوانين غير القابلة للتغيير في عالم الطبيعة.

إنّ هذا العالم ومن خلال جهوده الدؤوبة وسعيه المضني توصّل إلى أسرار في عالم النباتات، وأثبت وبأدلة علمية ثابتة أنّ النباتات شأن أغلب الحيوانات تتكاثر عبر التلاقح بين نطفتي الذكر والأنثى وتؤتي أكلها الطيِّب اللذيذ والنافع كلّ حين.

إنّ تحقيقات "لينه" الجميلة الرائعة غيِّرت رؤية علماء النبات حول أنواع النبات، وخلّفت آثاراً وفوائد قيمة أفادت التحقيقات العلمية النباتية اللاحقة.

ولكن القرآن الكريم أشار – قبل لينه وتحقيقاته القيمة بقُرون وأعوام مديدة – وضمن آيات عديدة إلى هذه الحقيقة العلميّة في عالم النبات وذكر إلى جانب ظاهرة النمو والحياة في عالم النبات لفظة "الزوج" أيضاً... والأجمل أنّه ربما أشار إلى حقيقة أكثر عموميّة وشموليّة، وقال في صيغة عامة (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) (الذاريات/ 49).

ولقد ثبت – حسب التحقيقات والكشوف العلمية الحديثة – اليوم أنّه ليس الإنسان وحده، ولا الحيوانات وحدها مخلوقة من ذكر وأنثى، بل الحشرات والنباتات هي الأخرى مركبة من ذكر وأنثى، مع فارق أنّ مسألة الزوجية في عالم الأحياء تتمثل في الذكر والأنثى، وفي عالم الموجودات الجمادية تتمثلُ في الجذب والدفع، والسالب والموجَب، وهي قضية تحتاج إلى توضيح أكثر في مكان آخر.

 

مشهد من عملية اللقاح:

كشف "موريس مترلينك"[8] الكاتب البلجيكي المعروف في إحدى كتاباته تحت عنوان "ذكاء الزهور" عن عملية اللقاح الجميلة بين وردتين ويكتب في هذا الصدد قائلاً:

إنّ عناصر الذكورة "المتك" هادئة وساكتة على الدوام، وهي في أغلفة صفراء اللون وتصطف بصورة دائرة داخل كأس كبير ومخملي... وبمجرد أن تحين ساعة اللقاح، فكأنّ المعشوق يناديها واحداً واحدا باسمه، يقترب أوّل عنصر من عناصر الذكورة "المتك" هذه وبرفق إلى عنصر الأنوثة "الميسم" ويحصل التماس والإتصال، ثمّ الثالث فالخامس فالسابع فالتاسع إلى أن تنتهي الأعدادُ الفردية، ثمّ يأتي دور الأعداد الزوجية، فيتقرب الثاني فالرابع فالسادس فالثامن، ويحصل الإتصال بينها وبين المعشوق كما حصل من قبل بين مثيلاتها من الأفراد، وهكذا تتم عملية اللقاح بين جهازي الذكورة والأنوثة في نسق عجيب غاية في البداعة والغرابة والدقة، ويذهب علماء النبات إلى أنّ هذا النوع من النبات يعرف عملية العَدّ والإحصاء.

إنّ وردة "الواليز" تنبت في قعر الماء، وهي دائماً في حالة رقاد وغيبوبة، إلى وقت اللقاح والإخصاب، في هذه الحالة تتحرّك وتتملل... إناث هذا النوع من الورود مثل الفتيات تبلغ أسرع من الذكور ثمّ تصعد بسرعة إلى سطح الماء، وتزيح عن نفسها حجاب الاقحوان، وترقد على فراش الماء أمام الشمس مليئة بالعشق تفيض سُكرا. فيما يرمقها عنصر الذكر مثل عاشق ولهان، ولكن مهما يجتهد لا يستطيع أن يصل إلى سطح الماء وكأنه يدرك أنّ لقاء المعشوق ووصاله بحاجة إلى جهد أكثر وسعي أكبر، ولهذا ينقطع من ساقته دفعة واحدة، ويمضي في الارتفاع حتى يوصل نفسه إلى سطح الماء، ثمّ يدور حول معشوقته، ثمّ يلقي بنفسه المتعبة على جسد المعشوقة بشوق وعشق كبيرين، وتقدِمُ المعشوقة بدورها على ضمّ زوجها واحتضانه وجمع أوراقه، والعودة به مرة أخرى إلى أعماق الماء في رحلة حبّ بعيدة، ليتمّ تربية وتنمية حصيلة هذا اللقاح في قلب الماء، ثمّ تقوم فيما بعد بتقديمه في صورة جميلة جدّاً إما إلى الماء وإما إلى سطح الماء.

2-  (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) (التكوير/ 1-2).

وكوّرت من مادة التكوير وهي في اللغة بمعنى الجمع واللفّ[9] والمراد من الآية حسب رأي المرحوم الطبرسي هو الوقت الذي ينتهي فيه نور الشمس، ثمّ تفنى الشمس بعد الظلمة[10].

و"انكدرت" من مادة "الانكدار" بمعنى التهافت والانتشار والتحطّم والتلاشي، واعتبرها البعض مشتقة من التكدر والكدورة في مقابل الصفو والصفاء. وهو بمعنى فقدان الشعاع واللمعان، والإشراق[11]. وهما يشتركان في جامع واحد، لأنّ النجوم والكواكب – حسب نظر العلماء وتكهُّناتهم ومحاسباتهم العلمية – تفقد في نهاية هذا العالم نُورَها وضوءَها كما أنها تتحطَّم وتتلاشى وتسقط مع تبعثر نظام الكون العامّ، ولكن المرحوم الطبرسي رجّح القولَ الأوّل وفضّله[12].

3-  (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) (الإنفطار/ 1-2).

و"انفطرت" من مادة "الانفطار" يعني الشق، و"انتثرت" من مادة "الانتثار" بمعنى التبعثر وانفصام العرى[13] وكلتا الآيتين ترتبطان بنهاية هذا العالم، ومآله.

إنّ من المتِّفَق عليه أنّ العالم سينتهي ذات يوم، وتتغير أوضاع الكون، وتنقلب، وينهدم النظامُ الكوني ويتهاوى، وتتبدل الشمسُ والقمرُ والنجوم، ولكن ليس من المعلوم جيِّداً أنّ هذا الانقلاب والتبدل يحصل تحت تأثير أي عامل أو عوامل، هل يحصل على أثر الاختلال في توازن الدفع والجذب، أم أنّ قضية الانبساط التدريجي للكون هي التي توجب وقوع هذه النهاية المأساوية في العالم، ولكنّ ما هو متفق عليه – على كلِّ حال – هو أنّه ستقع ذات يوم انفجارات هائلة في جميع الكواكب، ويتغير النظام العام السائد على جميع المنظومات وعلى أثر اصطدام بعضها ببعض تتلاشى وتتحطم، وفي هذا الوقت ينتهي عُمُر الكون.

إنّ الشّمس كرة ملتهبة وساخنة جدّاً تعطي النور للعالم، وتنير الكون بأنوارها وأشعتها الساطعة.

ووفقاً لحسابات العلماء الدقيقة تتناقص حرارة الكون وأشعته مع ذهاب العالم إلى نهاية عمره، كما يتضاءل حجمه ويتقلّص شيئاً فشيئاً.

لقد شرح العلامة الفلكي المعروف "كوبرنيك"[14] في تحقيقاته العميقة أسراراً عن حركة الشمس ومركزيتها وكيفية حياتها، وبالتجديد الذي أحدثه في الدراسات المتعلقة بعلم النجوم عمد إلى دراسة ونقد نظريات بطليموس في المجسطى، وكشف عن جميع المشكلات والتناقضات الموجودة في النظام البطليموسي، وبالتالي عن عدم التناغم والانسجام بين الدوائر الطليموسيّة[15].

ولكن يمكن الوقوف على أفضل دراسة حول الشمس وبدايتها ونهايتها، بعد "كوبرنيك" في مؤلَف "جورج غاموف" المنشور تحت عنوان "ظهور وموت الشمس" والذي يثبت فيه بالأدلة العلمية أنّ موت الشمس أمر حتمي، وواقع لا محالة.

لقد كان قدامى الحكماء – كما هو معروف – يعتقدون أنّ الأفلاك وكلّ ما فيها باقية دائماً، وغير قابلة للزوال والاندثار، وانها لا تتعرض للفساد والبطلان. ولكن المختصّين في علم النجوم، والفلاسفة الغربيّين أبطلوا – بفضل ما أوتوا من إمكانيات علمية وتحقيقات فضائية عميقة – هذه الأفكار والمقررات القديمة، ويرون أنّ جميع الأجرام سواء الشمس والقمر والكواكب أو غيرها قابلة ذاتياً للكون والفساد وأنها كانت مسبوقة بالعدم، يعني أنّه كان ثمة يوم لم يكن فيه أي واحد من هذه الأجرام البتة، وسيأتي يوم لا يكون فيه شيء من هذه الأجرام أيضاً، وستتعرض جميعها على الاطلاق للعدم والفناء.

ولقد لقيت هذه الحقيقة التأييد من قِبَل الدين من بدء بزوغ الإسلام وهي أنّ العالم حادث، وانّ جميع أجزائه مسبوقة بالعدم، وانها تسير – في حركتها – على طريق العدم، انّ الشمس والقمر والأنجم وجميع الكرات في معرض الفناء والعدم، وانّ القرآن الكريم يعلن بصراحة كاملة عن ذلك اليوم ويقول: في ذلك اليوم يتعرض فيه الشمس والقمر، والنجوم للزوال.

وهذه الحقيقة يؤيّدها اليوم العلمُ الحديث ويذهب عالم مثل "البروفيسور كوذيت" وهو يرصد الفضاء من خلف عدسة مرصد جبل "بالومار" في "تازوني": إنّ هذه المجرّة التي تلاحظونها في السماء مثل سحابة بيضاء تتحرك يميناً وشمالاً، ليست بهذه الصورة التي تلاحظون... إذا كنتم تلاحظون هذه المجرة بهذا الشكل فإنما هو لأجل أنّ هذه المجرّة تقع فوق رؤوسكم، ولو أنكم كنتم تواجهونها وجهاً لوجه لشاهدتم مجرتنا هذه في صورة لعبة نارية تدور بسرعة في دائرة، وتتناثر فيها حالة دورانها ذرات نارية في كلِّ اتجاه كما تتناثر ذرات النار من اللعَب النارية في ليالي الاحتفالات والأفراح، مع فارق هو انّ كلّ ذرة من الذرات المتناثرة من المجرة تكوّن عالماً شمسياً.

أنا وأنت والعالم الشمسي إحدى تلك الذرات الصغيرة التي تناثرت حول تلك اللعبة النارية الكبرى، ونبتعد عنها بسرعة 30.000 كيلومتر في الثانية، يعني بسرعة تعادل ثلاثة آلاف مرة ضِعف سرعة الريح الحاصل من انفجار أضخم القنابل. أجل بهذه السرعة العجيبة والهائلة نبتعد عنها يعني مع المنظومة الشمسية وحفظ نظام السيارات، وكما تختفي الذرات النارية في ليلة الاحتفالات حول اللعبة النارية كذلك نحن، يعني أنّ دنيانا الشمسية ستختفي أيضاً. وعلى هذا الأساس إذا كنتم قد سمعتم ذات يوم انّ الدنيا قد انفجرت، أو أنها في حالة إنفجار فلا تندَهِشوا أبداً ولا تتعجبوا لأنّه عندما تنفجر قنبلة فإنَ ريح الإنفجار تنتثر وتنطلق في الاتجاهات المختلفة بسرعة عشر كيلومترات في الثانية، ولكننا نتناثر نحو الاتجاهات المختلفة بسرعة ثلاثين ألف كيلومتر في الثانية[16].

4-  (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا) (الرعد/ 2).

والعمد جمع عماد وعمود وحول جملة "ترونها" ثمّة احتمالان[17]. الأوّل أنها جملة مستقلّة والثاني أنها صفة للعمد، وفي هذه الصورة يكون معناها: انّ الله أقام السماوات من دون عمد مرئيّة، وهذا يستلزم وجود أعمدة غير مرئيّة للسماوات، والمسألة حينئذ تستدعي تحقيقات ودراسات علمية.

في الوقت الذي كانت فيه الهيئة البطليموسية[18] تسيطر على الأوساط العلمية العالمية، وتمسِك بزمام التفوق، كان علماء الفلك يتبعون هذه النظرية وهي أنّ السماوات مخلوقة على هيئة خاصة وهي هيئة البصل أي أنّ كلَّ سماء تقع داخل سماء أخرى بحيث يلاصق ظهر كلّ سماء بطن سماء أعلى منه، وتعتمد كلُّ سماء على سماء أخرى.

ولكن التقدّم العلمي، والتحقيقات المفصّلة التي قام بها علماء الفلك في القرون اللاحقة، سخّفوا هذه النظرية، وأثبتوا من خلال إظهار النظريات الحديثة انّ الاعتقاد بالأفلاك البصلية الشكل وهم برمّته لأنّ قوة تعادل القوة الجاذبة (الجاذبية) هي التي تحفظ – في صورة قوة غير مرئيّة – كلّ كرة في موضعها.

قال البروفيسور "كوزيت": إلى يوم لم يكن فيه قد صنع بعد عدسة مرصد جبل "بالومار" العظيمة، لم تكن سعة الكون الذي نلاحظه تبلغ أكثر من خمسمائة مليون سنة ضوئية، ولكن العدسة (والتلسكوب العظيم) أوصل عالمنا إلى ألف مليون سنة ضوئية[19]، وفي المآل اكتشفت ملايين المجرات الجديدة التي يبتعد بعضها عنّا ستمائة مليون سنة ضوئية، وبعضها سبعمائة مليون وبعضها تسعمائة مليون وبعضها ألف مليون سنة ضوئية وهذا النور الذي يشرق الآن على عدستنا ويظهر صورة المجرة قطعَ مسافة ألف مليون سنة ضوئية حتى وصل إلى الأرض.

وخلف ذلك الحد الذي يبتعد عنّا بمقدار ألف مليون سنة ضوئية هناك فضاء عظيم ورهيب ومظلم لا يرى فيه أي شيء... لا يعبُر منه أي ضوء تتأثر به صفحة مصوّر عدسة المرصد، ولكن ومن دون شك ثمة في ذلك الفضاء الرهيب المظلم مئات الملايين من المجرّات التي تحفظ بقوة جاذبيّتها العالم الذي في هذا الجانب (أي عالمنا الذي يقع في هذا الطرف على بعد ألف مليون سنة ضوئية) لأنّه إذا لم تكن هناك عوالم واسعة وعظيمة ورهيبة تحفظ بقوة جاذبيّتها عوالم هذا الطرف لكانت جميع دُنى وعوالم هذا الجانب تزول مثل قشة في مهبّ العواصف والرياح الشديدة وتنهار دفعة واحدة، لأنّ القوة الجاذبة (الجاذبية) وحدها هي التي تحفظ هذه العوالم بعضها البعض لكون كلّ واحد منها جاذباً ومجذوباً[20].

ومن جملة التحقيقات الطريفة التي عرضها هذا العالم المحقق هو أنّ في فضاء ذلك الحدّ الذي يبتعد عنا بألف مليون سنة ضوئية فضاء رهيب ومظلم لا يرى فيه أي شيء مضيء، وهذه القضية هي الأخرى من أسرار القرآن العلمية التي أعلن عنها القرآن الكريم قبل أربعة عشر قرناً.

5-  (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات/ 6).

إنّ مشهد النجوم والكواكب الساحر وتلألؤها الجميل وبخاصة في ليالي الصيف المظلمة، لمشهد جميل وخلاب، ولكن حسب رؤية القرآن تختص هذه النعمة بالسماوات لا جميع الكرات، لأنّ وصف السماء الدنيا بالزينة مشعر بأنّ هناك عالماً، وكرات أخرى ولكن من دون كواكب وهذه العوالم مظلمة، وقد أخبر القرآن عن هذه الحقيقة يوم لم يكن هناك نظرية أو فرضية،ولذلك يمكن اعتبار ذلك من أسرار القرآن العلمية ومعجزاته القطعية.

وفي الختام ينبغي أن أكرر أنا أيضاً ما قاله رئيس مرصد "بالومار" إذ يقول: ومع ذلك فإنني غير واثق بأن لا يكون وراء فضاء العالم الثاني، عالم آخر، إذن لابدّ أن نطأطىء رؤوسنا تعظيماً أمام العلم الذي هيأ فكرنا إلى هذه الدرجة لاستيعاب عظمة هذا العالم، والخالق الذي خلق العالم.

الهوامش:


[1]- (اهتزّت وربت وأنبتت من كلّ زوج بهيج) (الحج/ 5).

(وأنزلنا من السماء ماءً فأنبتنا فيها من كلّ زوج كريم) (لقمان/ 10).

(وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) (ق/ 7).

(ومن كلّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) (الرعد/ 3).

(سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض) (يس/ 36).

(وأنزل من السماء ماءً فأخرجنا به أزواجاً من نبات شتّى) (طه/ 53).

[2]- ومن كل زوج معناه من كل نوع (مجمع البيان 7: 184).

[3]- المفردات للراغب (زوج).

[4]- مجمع البحرين (زوج).

[5]- (وأرسلنا الرّياح لواقح) (الحجر/ 22).

[6]- 1778-1707م.

[7]- تاريخ علوم: 401 (ترجمة صفاري)، ط/ طهران، 1349ش.

[8]- 1862-1949م.

[9]- المفردات للراغب.

[10]- مجمع البيان 10: 442.

[11]- المرجع نفسه.

[12]- مجمع البيان 10: 443.

[13]- مجمع البيان 10: 448.

[14]- 1473-1543م.

[15]- تاريخ علوم: 194، ط/ طهران 1329.

[16]- صفحة آسمان (بالفارسية) (صفحة السّماء): 66.

[17]- مجمع البيان 5: 274.

[18]- بطليموس منجّم وفلكي يوناني معروف (90-168م).

[19]- السنة الضوئية عبارة عن الفاصلة التي يقطعها النور بسرعة ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية خلال عام واحد، وحيث أنّ النجوم تبتعد عنّا كثيراً، ولهذا فإنّ المقاييس التي نمتلكها لا تكفي لبيان مقدار المسافات العظيمة هذه، ولذلك توصّل أصحاب النجوم والمختصون في هذا المجال بالمسافة التي يقطعها النور في السنة لتعيين مدى الفواصل بين الأنجم والكواكب وجعلوه الوحدة التي يتمّ على ضوئها الحساب في هذا الصعيد وأطلقوا على هذه الوحدة اسم السنة الضوئية.

[20]- صفحه آسمان: 68.

المصدر: مجلة رسالة القرآن/ العدد السادس لسنة 1412هـ

ارسال التعليق

Top