للحضارة جانبان: (مادي) و(معنوي). أما المادي فيتمثل في التطور العلمي والعملي في استثمار الطبيعة وإعداد لوازم الرفاه البشري. وأما الجانب المعنوي فيتمثل في الدين والقيم والأخلاق التي تنظم ارتباط الإنسان بنفسه وبربه وبالطبيعة، ولو فقدت الحضارة جانبها المعنوي لم تعد حضارة وسميت حينئذٍ (مدنية).
وقد سخر الله الطبيعة للإنسان وكشف له بعض أسرارها ووضع له شريعة وأحكاماً للتعامل معها في إطار هدف رباني من وراء مسيرته الحضارية.
إنّ حضارة الإنسان المعاصر هي أحوج ما تكون إلى (الإسلام) وذلك لأنّها اليوم تائهة لا تحظى بأهداف موضوعية لحركتها بل هي مقطعة الأوصال فهي بين شعوب تحمل القيم التي تؤهلها لإدارة المجتمع البشري لكنها فاقدة لعوامل التمدن، وبين شعوب متمدنة بعيدة كل البعد عن القيم الإنسانية تتحكم بمصير الحياة البشرية على الأرض وتحقيق الدمار بالطبيعة وتمتص مواردها بجشع كبير إرضاءً لشهواتها.
وفي هذا المقال حاولنا تصوير الواقع الحضاري وتبيين ما يمكن أن يقدمه الإسلام لإنقاذ حضارة الإنسان المعاصر من الدمار.
- تعريف الحضارة:
الحضارة لغة خلاف البداوة (وحضر، حضارة أقام بالحضر، وتحضّر البدوي تشبه بأخلاق الحضر).
أما المصطلح عليه اليوم، ففي تحديد مفهومه اختلاف كبير توصلنا من خلال مراجعة بعض المراجع إلى النتائج التالية:
1 ـ هناك ارتباط وثيق بين مفهوم (الحضارة) و(المدنية) و(الثقافة).
أما (المدنية) فتستعمل للتعبير عن التطور المادي والتقني والفني وكل ما يتصل برفاه الإنسان وراحته ورقيه من خلال سيطرته على الطبيعة. وأما (الثقافة) فتستعمل للتعبير عن التطور المعنوي في السلوك ونمط الحياة وطريقة العمل والتفكير والشعور.
وأما الحضارة فقسم يستعملها لما يرادف (الثقافة) وقسم آخر يستعملها لما هو أعم من ذلك فيجعل للحضارة جانبين؛ جانباً مادياً وجانباً معنوياً، وبه يصبح مفهوم الحضارة أعم من الاصطلاحين معاً أعني (المدنية) و(الثقافة).
يقول محمد محمد حسين في كتابه (الاسلام والحضارة الغربية): (الحضارة أعم من الثقافة التي تطلق على الجانب الروحي أو الفكري من الحضارة فقط في حين تشمل الحضارة الجانبين الروحي والمادي أو الفكري والصناعي وكما لوحظ فيها أنّ النشاط البشري في مختلف جوانبه، ومواهبه يكون في أرقى حالاته في الحواضر والمدن).
2 ـ يمكن التفريق بين (المدنية) و(الحضارة) بالأمور التالية:
أ) تتحقق (المدنية) بالرقي المادي فقط، وأما (الحضارة) فتحتاج إلى الرقي المعنوي أيضاً.
ب) تقاس درجة المدنية بموضوعات محددة ومحسوسة، أما الحضارة فقد يتعذر قياسها بسهولة لاشتمالها على قضايا معنوية.
ت) قد تكون (المدنية) مقدمة للدخول في (حضارة جديدة) إذا قارنها تطور معنوي، ولكنها هي بنفسها مقدمة لسقوط الحضارة إذا فقدته.
يقول (شبنغلر) ـ وهو من كبار الفلاسفة المعاصرين الألمان وأحد المتخصصين في دراسات الحضارة ـ : (إنّ دورة أية حضارة لا يمكن أن تتعدى الألف عام ومعنى ذلك انّ الحضارة الغربية كانت قد بدأت مرحلة الأفول الروحي بدخولها مرحلة الركود والراحة المادية والتي أطلق عليها (بالمدنية) وهي المرحلة التي تسبق انهيار الحضارة وزوالها، بهذا فالحضارة هي العطاء والازدهار الروحي حيث تمر في دورها الأول، أما المدنية فهي مرحلة الشيخوخة والهرم وفقدان الحضارة مناعتها ومقوماتها الروحية وقيمها الأخلاقية).
وبهذا يعد (الجانب المعنوي) جوهر الحضارة وروحها وحافظ كيانها ولا يبقى (للمدنية) دور أساس منها، بل يعتبره سبباً لتضعيف مناعتها مع غياب الثقافة. ومن هذه النقطة ننطلق لتصوير الأزمة الحضارية المعاصرة.
- تصوير الأزمة الحضارية المعاصرة:
تتمثل الأزمة الحضارية المعاصرة بغياب مَن يجمع بين (المدنية) و(الثقافة) في آن واحد ويأخذ زمام المبادرة في المجالين (التقني) و(المعنوي) ويوجد توازناً طبيعياً بينهما. والعالم ـ اليوم ـ بين ثقافات دينية وفلسفية ضخمة لكنها لا تمتلك درجة كبيرة من عوامل المدنية الحديثة، ودول متمدنة غير مثقفة متفردة بتقرير مصير الشعوب تفرض عليها سلوكياتها الاجتماعية ونظمها السياسية والاقتصادية مع أنّ تلك الشعوب تمتلك طاقات حضارية ذاتية ـ موجودة بالفعل لا بالقوة ـ تؤهلها لأن تكون في موضع الريادة والمساهمة في حل المشكلات التي تعصف بالمجتمعات المعاصرة.
ولهذا فالمجتمع البشري ـ باعتباره كلاً واحداً ـ ليس بربرياً مجرداً من الثقافة ولا بدائياً خالياً من المدنية، وأزمته الحالية هي في الجمع بين المدنية والثقافة وايجاد التوازن الطبيعي بينهما. وقد نشأت هذه الأزمة من أفول الحضارة الغربية التي كانت تجمع بين الأمرين:
1 ـ غروب الحضارة الغربية:
لم يعد بالامكان تسمية الوضع الغربي ـ اليوم ـ (بالحضارة الغربية) لأنّه يفتقد الريادة المعنوية التي تمثل أساس الحضارة. يقول الدكتور إبراهيم الحيدري: (الواقع انّ أزمة الحضارة الغربية لا تنطلق من التقييم السلبي للحضارة، ولا من بؤس المدنية الصناعية ومنظومتها الفكرية والفلسفية فحسب، بل من قدر الحضارة الغربية الذي حولها إلى (مدنية بلاستيكية) بائسة في مجتمع استهلاكي يطحن الإنسان ويجرده من كل طاقاته الخلاقة، مثلما يجرده من قيمه الروحية والأخلاقية). وليس هذا تقييم الدكتور إبراهيم الحيدري كمسلم يزن الحضارة الغربية بموازين خاصة، وإنما هو حكم مجمع عليه من قبل المتخصصين على اختلاف موازينهم. يقول (ادغار موران): (إنّ سيادة التكنولوجيا تدمر اليوم كل خصوصية حضارية وبهذا فقد أنتج الغرب، ولأول مرة في التاريخ، مقومات فنائه بسبب الانحلال والضعف وبمعنى آخر بسبب (إرادة الهدم).. حيث سببت المدنية الصناعية (اجتثاثاً حضارياً) هو رديف للمغامرة والموت).
وهذه حقيقة جديرة بالاهتمام، فالفكر الغربي وبسبب ما توصل إليه من تطور تكنولوجي واكتشاف علمي عظيم جعله يتشبع بالمادية والمنطق التجريبي وصار يتعامل مع الواقع على أساس (انّ كل شيء لك كاذب حتى تثبت صحته بالتجربة) وهكذا شكك بقيمه ومبادئه المعنوية ثم تجرد منها لما عجز عن إثباتها بالتجربة.
والنتيجة التي نصل إليها أن أزمة الحضارة الغربية ليست أزمة تمدن وإنما هي أزمة (أخلاق) و(معنوية) و(دين).
2 ـ خيارات الحضارة الغربية:
ويمكن أن نذكر هنا ثلاثة خيارات أمام الغرب للخروج من الأزمة الحالية:
الأول: الانتحار الحضاري، وهو خيار مرفوض من الأساس، لكنه قد يصبح نتيجة حتمية إذا تعصب الغرب لأفكاره المادية ولم يعالج واقعه. ففي أواخر الثمانينات مرّ الاتحاد السوفيتي بالمرحلة نفسها التي يمر بها الغرب اليوم من جهة أخرى (غورباتشوف) نظر إلى الجانب المادي من أوضاع العالم الاسلامي المتردي وقال: (لو كان في الإسلام ما ينفع لأصلحوا به واقعهم البائس) ولم يلتفت إلى أنّ أزمته معنوية علاجها في الإسلام، وأزمة المسلمين مادية (مدنية) والنتيجة انّه فضّل الانتحار الحضاري.
الثاني: فرض الواقع الثقافي الغربي على جميع الشعوب الإنسانية من خلال هجوم ثقافي واسع. وهذا ما اختارته الحكومات الغربية اليوم، وهو حل غير معقول أيضاً، لأنّه لا يملأ الفراغ المعنوي، بل ويدفع مستقبل الحضارة الإنسانية نحو مستقبل غامض، فالغرب يهرب من أزمته الحضارية إلى تدويلها وتعميمها.
الثالث: العودة إلى الدين، وهو الحل الطبيعي للخروج من الأزمة لكن الحكومات الغربية ترفض ذلك لأسباب معينة. يقول (جيري فولوي): (إنّ أميركا بحاجة إلى إنقاذ روحي وأخلاقي إذا كانت لا تريد أن تهلك في القرن العشرين).
3 ـ التبادل الحضاري:
وقبل الحديث عن دور الإسلام في بناء الحضارة الإنسانية، لابد من الإشارة إلى امكانية التبادل الحضاري وعدمه، فهناك مَن يعتقد بعدم إمكان ذلك، ويعتبر أنّ لكل أمة خصائصها الحضارية التي تنطلق من صميم الواقع الذي تعيشه ويستحيل نقله إلى واقع آخر غريب عنه. يقول مالك بن نبي: (إنّ مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية ولا يمكن لشعب أن يفهم، أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها والآية الكريمة في خطابها الصريح (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11)، تؤكد هذه الحقيقة باعتبار انّ مفتاح القضية يكمن في روح الأمة)، وكذا يمكن الاستدلال بالآية الشريفة (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا..) (المائدة/ 48).
فقد ورد في تفسير هذه الآية انّ للإسلام شريعته الخاصة وحضارته، ولا يجوز خلطها بسائر الحضارات ولا سائر الشرائع حتى وإن كانت سماوية. يقول د. إبراهيم الحيدري: (لقد نظر شبنغلر إلى خصوصيات الأمم والشعوب فاعتبر انّ أية حضارة هي دائرة مغلقة لا ترتبط بأي اتصال حضاري ولذلك فلا تأخذ من سواها ولا تعطي لغيرها وبهذا ألغى أهمية الاتصال الحضاري). وحتى لو فرضنا إمكانية التبادل الحضاري فإلى أي حد ستهتم الحضارة الغربية وغيرها بالحلول الإسلامية؟ وكم ستطبق من الشريعة الإسلامية؟ الحقيقة انّ واقع المسلمين لا يشجع الآخرين على التأسي بالإسلام، ولو أردنا أن نقدم الإسلام نموذجاً حضارياً، لابد أن نغير واقعنا أولاً، بل نصحح واقعنا، لا بل نؤسلمه. فالإسلام جذاب ـ رغم سلبيات الواقع ـ لأنّه دين الفطرة الإلهية ودين الصدق ودين المحبة. يقول الدكتور وجيه كوثراني: (في الغرب الآن يتذمرون من التكنولوجيا لأنّها خلقت التلوث وحولت الإنسان إلى آلة وشيّأت الإنسان ـ أي جعلته شيئاً كسائر الأشياء ـ )، وهذا يعني انّ الغرب متذمر حتى من مدنيته التي تبقت له بعد الابتعاد عن الدين، فهو يبحث حقيقة عن سبيل الخلاص الذي يوازن له بين متطلبات الروح والجسد بمنتهى الدقة، ويتطلع إلى الإسلام واقعاً، وقد جاء هذا في تصريحات بعضهم. يقول ولي العهد البريطاني الأمير (تشارلز): (إنّنا نريد أن نتعلم من الإسلام، فهم الحياة وطريقة التعامل معها بعد أن عجزت المسيحية عن ذلك).
4 ـ دور الإسلام القادم:
يقف المسلمون اليوم أمام فرصة تاريخية عظيمة لخوض التجربة الحضارية من جديد وذلك للأمور التالية:
1 ـ الفراغ المعنوي السائد في العالم المتمدن وحاجته إلى الدعم الإنساني.
2 ـ اشتمال العالم الإسلامي على أهم مكامن القوة وهي من قبيل:
أ) امتلاكه ثلثي احتياطي النفط في العالم.
ب) أكثر من خمس سكان العالم من المسلمين.
ت) الموقع الاستراتيجي المهم.
ث) الثروة الفكرية والروحية.
3 ـ التذمر من الفساد الإداري والأخلاقي وشيوع الأنانية وغيرها وحاجة المجتمع البشري إلى الطمأنينة النفسية والاجتماعية.
4 ـ الإقبال الشديد نحو الإسلام، وخاصة من قبل المرأة المضطهدة التي تحولت في الحضارة المادية إلى أداة لهو ومتاجرة.
هذه وغيرها كلها عوامل تزيد من أهمية الدور الإسلامي في الحضارة القادمة، ثم انّ العودة إلى الريادة الحضارية لها ثمن، وثمنها ـ حسب نظرية المؤرخ الشهير (توينبي) في (الاستجابة والتحدي) ـ هو الاستجابة للتحديات المصيرية التي تواجهها البشرية اليوم والتغلب عليها.
يعتقد (توينبي) بأنّ كل حضارة تنشأ من تحدٍ معين، فإذا كانت الاستجابة لهذا التحدي ناجحة، فإنّ الحضارة تتقدم وتزدهر وتولد بدورها استجابة ناجحة أخرى وهكذا دواليك غير أنّ الحضارة تنهار حين تكون استجابة الأفراد للتحديات الجديدة غير موفقة وذلك بفعل ما يصيبها من انحطاط بسبب عجز (الأقلية المبدعة) عندها.. غير انّ الاستجابة نفسها تفترض وجود مستوى عقلي وعلمي عند الإنسان يستطيع بموجبه تقديم أجوبة على تحدي البيئة والطبيعة).
إننا نعتقد انّ هذا المستوى موجود في الاسلام باعتباره ديناً وفي المسلمين أيضاً.
أما الإسلام فهو أكمل الرسالات السماوية (جاء لكي يرتب الشأن الإنساني كله بجوانبه المادية والروحية والأخلاقية ولكي يضع بين أيدي البشر الصيغة الأخيرة للتصور الإلهي للكون التي تكمن فيها مفاتيح البشرية المنشودة في الدنيا والآخرة.. من هذه الزاوية فالذين يحاولون حصار الإسلام في الروحيات يسعون من حيث لا يشعرون إلى تفريغ الرسالة من وظيفتها وتحويلها إلى نسخة أخرى من المسيحية الأمر الذي تفتقر في ظله الحكمة الإلهية التي لأجلها نزل الإسلام).
أما المسلمون فبعد فترة طويلة من (التبعيد) عن مجريات الحياة عادوا اليوم إلى ميادين الواقع ليثبتوا وجودهم وحيويتهم وتفاعلهم مع الحياة، وقد سميت المرحلة لأجلها (بالصحوة الإسلامية).
أما ما يسميهم (توينبي) بـ(الأقلية المبدعة) فنحن نسميهم بـ(الأمة الداعية للخير) استناداً إلى قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104)، فالأمة الداعية للخير هي قوام ريادة الإسلام لحركة الحضارة بدليل قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران/ 110)، وكأن الآية الشريفة تستدل على (تقدم الأمة ورقيها) بثلاثة أمور:
1 ـ الأمر بالمعروف.
2 ـ النهي عن المنكر.
3 ـ الإيمان بالله.
وقد ورد في تفسير هذه الآية: (إنّها تكريم للأمة المسلمة بجعلها خير أمم الأرض لأنّها تحمل خاتمة الرسالات لا لنسب أو قومية ـ كما نجد ذلك عند اليهود ـ والمسلمون يحتلون هذا المنصب ما داموا يحملون الرسالة فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون حياتهم على الإيمان بالله).
كلمة أخيرة أقولها هي انّ حضارة الإنسان ـ بجميع مظاهرها المادية والمعنوية ـ بحاجة إلى رعاية وتخطيط، ولو ترك مصير الحضارة للصدفة في اكتشاف الطبيعة ولم يكن هناك هدف معقول أمام المسيرة الحضارية قد تصل الأمور إلى طريق مسدود أو قد تكون النتيجة هي الدمار الحضاري بدلاً من البناء الحضاري وهذا ما وصلت إليه الحضارة المعاصرة بالفعل.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق