في سورة "الحديد" نقرأ هذه الآية:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد/ 26). سورة الحديد.. يا لها من تسمية!! هل ثمّة أكثر دلالة على ارتباط المسلم بالأرض، من تسمية سورة كاملة باسم خام من أهم وأخطر خاماتها؟ هل ثمة أكثر إقناعاً لنزعة التحضر والإبداع والبناء التي جاء بها الإسلام لكي يجعلها جزءاً أساسياً من أخلاقيات الإيمان وسلوكيته في قلب العالم، من هذه الآية التي تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة، أنزلها الله لعباده.. وتعرض معها المسألة في طرفيها اللذين يتمخّضان دوماً عن حديد: "البأس الشديد" متمثلاً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والإعداد العسكري، "المنافع" التي يمكن أن يحظى بها الإنسان من هذه المادة الخام في كافة مجالات بنائه ونشاطه "السلمي"؟! وهل ثمة حاجة للتأكيد على الأهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن في مسائل الحرب والسلم، وأنّه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة من أهم الوسائل في موازين القوى الدولية سلماً وحرباً؟! إنّ الدولة "المعاصرة" التي تملك خام الحديد تستطيع أن ترهب أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل، وتستطيع – أيضاً – أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري لصناعاتها وغناها. إننا هنا بإزاء الحلقة، أو المستوى الثالث، من مستويات المنهج القرآني في التعامل مع الطبيعة، تلك المستويات التي يعمل أوّلها في الإطار الفلسفي حيث التأمل العميق في الكون والعالم من أجل الوصول إلى الله، وإدراك قدرته الخلّاقة، وإحاطته الشاملة، ويعمل ثانيها وثالثها في الإطار "العلمي"، إذ بينما يتجه أحدهما إلى حثّ الإنسان المسلم على دراسة الكون والعالم للكشف عن القوانين التي تحكمهما ومحاولة الإحاطة بأكبر قدر منها، فيما يعرف اليوم بالعلوم النظرية أو "المحضة"، يتجه آخرها إلى تحريك الإنسان المسلم باتجاه استخدام هذه المعرفة العلمية للقوانين الطبيعية استخداماً تطبيقياً في واقع حياته، من أجل تغيير هذا الواقع صوب الأحسن والأرقى.. وليس هذا الموقف من خام "الحديد"، بأبعاده المختلفة، سوى مثل من الأمثال العديدة المنبثة في القرآن الكريم حول هذه الحلقة الثالثة من حلقات التعامل مع الطبيعة والعالم.. إنّ كل "موقف" قرآني، يشكل وحدة عضوية لا تنفصم عراها، يمكن أن نحظى بأبعادها، وصيغتها النهائية، بمجرد أن نجمع إلى بعض كل الآيات التي تغذّي هذا الموقف وتشكل مادته الحية.. في الاقتصاد.. في الاجتماع.. في السياسة.. في الإدارة.. في النفس.. في العلاقات الدولية.. في استراتيجية الحرب.. في العقائد.. في المعاملات.. في الآداب.. إلى آخره.. في كل قطاع من هذه القطاعات نلتقي بعدد من المواقف المتكاملة المحبوكة، التي تصنعها وتصورها، وتمنحها شكلها النهائي، مجموعة من الآيات المنبثة، لأكثر من سبب موضوعي أو جمالي، في ثنايا القرآن. والآن، ونحن نتكلم عن "الحديد" نلتقي بسورة كاملة تسمى بهذا الاسم، ونتذكر – في الوقت نفسه – الآيات السابقة من سورة "سبأ" التي تذكر نعمة الله على نبيه وعبده داوود بتسييل الحديد له، أو بتعليمه كيف يسيّل الحديد!! وهي بصدد الحديث عن البناء والإعمار والتصنيع.. ونتذكر أيضاً "ذا القرنين" وهو ينادي الجماعة المضطهدة: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) (الكهف/ 96-97)!! وتعرض آية أخرى نفسها لإتمام الصورة، تلك التي تنادي الجماعة الإسلامية: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ...) (الأنفال/ 60)، لكي ما يلبث الإنسان المسلم، والجماعة المسلمة، أن يعتمدا الحديد، هذا الخام الخطير، المذكور في عدد من المواضع، والتي سميت إحدى السور باسمه، مادة أساسية لإعداد "القوة" وإرهاب الأعداء في عالم يضيع فيه ويداس من لا يملك القدرة على "إرهاب" أعدائه!! ثمّ، ألا يلفت أنظارنا هذا التداخل العميق والارتباط الصميم، في آية الحديد، بين إرسال الرسل وإنزال الكتب معهم، وإقامة الموازين الدقيقة لنشر العدل بين الناس، وبين إنزال الحديد الذي يحمل في طياته "البأس" و"المنفعة"، ثمّ التأكيد على أنّ هذا كله إنما يجيء لكي يعلم الله (مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) (الحديد/ 25)، و(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد/ 25)؟. إنّ هذا الموقف المتداخل يعود بنا – ثانية – إلى ما سبق وأن ذكرناه في أوّل هذه الملاحظة من أنّ الإسلام جاء لكي يشد الإنسان إلى الأرض، ويدفعه إلى التنقيب فيها من أجل إعمارها وحماية هذا العمران.. وإلى أنّ المسلم لن تحميه وتنصره إلا يده المؤمنة التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتصوغه من أجل الحماية والنصر.. وأنّه بمجرد أن يتخلى عن موقفه الفعّال هذا ويختار مواقع الفرار والاتكال والانتظار السالب لمعونة الله، فإنّه يتناقض مع نفسه وعقيدته، وإنّه سينهزم لا محال، ما دام قد أشاح عن هذه الحقائق القرآنية التي تكاد تصرخ بأعلى نبرة: إنّه بدون الاعتماد الواعي المسؤول البصير بمصادر القوة والبأس فلن يكون هناك "نصر" أو "حماية" للموازين العادلة التي جاء الأنبياء (ع) بكتبهم وتعاليمهم لتنفيذها في الأرض.. حتى ولو حبس المؤمنون أنفسهم في المساجد، السنين الطوال، يبكون ويتضرعون!! المصدر: كتاب آفاق قرآنيةمقالات ذات صلة
ارسال التعليق