• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عندما تكون الحياة لله

د. ياسر العيتي

عندما تكون الحياة لله

◄(قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 162).

إنّ أوّل وأهم مكوّن من مكونات الذكاء العاطفي هو إدراك الذات، أي أن يعرف الإنسان من هو؟ ما غايته في هذا الوجود؟ ما مبادئه وقيمه؟

لقد تحدث المؤلفون الغربيون الذي كتبوا في مواضيع النجاح وتنمية الذات كثيراً في موضوع إدراك الذات وذكروا أنّ أهم سبب من أسباب النجاح في هذه الحياة هو أن تكون لدى الإنسان أهداف واضحة يحقق ذاته من خلال السعي إليها، ومبادئ ثابتة تقوم حياته على أساسها. لكن الغربيين لا يحددون لك طبيعة هذه الأهداف والمبادئ. لقد حدد الإسلام غاية واحدة يعيش المسلم من أجلها (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56).

وشرح العلماء العبادة على أنها كلّ عمل يُقصد به إرضاء الله تعالى. فهدف المسلم واضح جلي لا لبس فيه ولا غموض (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 162-163).

لكن كيف يمكن أن يتحول العيش لإرضاء الله تعالى إلى مشروع حضاري يساهم فيه المسلم في بناء الحضارة الإنسانية وفي تحرير الإنسان من أغلال الشهوات والطواغيت؟

يقول تعالى في كتابه العزيز: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107). ويقول أيضاً: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25). ويقول: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70).

فالرحمة وهي عكس القسوة، والقسط أو العدل وهو عكس الظلم، والكرامة وهي عكس الإذلال، ثلاثة مقاصد شرعية أساسية أرسل الله الرسل والأنبياء لتحقيقها في واقع الحياة، وحركة المسلم في الواقع يجب أن تكون لتحقيق هذه المقاصد الثلاثة، فهو يتحرك لكي يجعل حياة الناس أكثر رحمة وعدلاً وكرامة، وهكذا تتحول حركته إلى فعل حضاري، وليس إلى مجرد طقوس وشعائر. إنّ المسلم الذي ارتضى السجود لله أراح نفسه من مئات السجدات التي يسجدها الآخرون لغير الله، فهو لا يسجد لشهوة، ولا يسجد لخوف، ولا يسجد لطمع، ولا يسجد لطاغوت. هو يعيش حريته في أسمى معانيها ويعيش إنسانيته في أسمى أشكالها.

أطلقيني من إِسارٍ وثيقِ *** إنّني أهوى حياةَ الطَّليقِ

سجدتي لله فيك حياتي *** ونجاتي من هلاكٍ محيقِ

فجّري في خافقي ألفَ نبعٍ *** فالجفافُ قد سَرَى في عروقي

أسطعي في أضلعي ألفَ شمسٍ *** فالظَّلامُ جاثمٌ في طريقي

ارفعيْني من حضيضٍ بليدٍ *** نحوَ أُفْقٍ عاصفٍ بالبروقِ

إذا كان الذكاء العاطفي هو أن تعيش ولك هدف وغاية فإنّ المؤمن يعيش لله في كلِّ حركة من حركاته وفي كلِّ سكنة من سكناته، وبهذا وصف هشام بن عبدالملك ابن عمه عمر بن عبدالعزيز الخليفة الأموي فقال: "ما أحسب عمر خطا خطوة قط إلا وله فيها نية" لذلك استطاع عمر بن عبدالعزيز أن يصلح دولة بأكملها في مدة حكمه القصيرة التي لم تتجاوز العامين.

عندما تصبح حياة المسلم لله تعالى فإنّه سيشعر بلذة الحب لخالقه، فالحب ليس شعوراً فقط، إنما هو شعور يغذيه الفعل الحب = شعور + فعل فالإنسان الذي يرعى نبتة صغيرة في حديقة منزله حتى تصبح شجرة باسقة سيمتلئ قلبه بحب هذه الشجرة، لأنّه بذل الكثير من الجهد في تنميتها ورعايتها، كذلك المسلم لا يشعر بلذة الحب لله إلا بمقدار ما يبذل في سبيل هذا الحب من مجاهدة للنفس، وإعراض عن الشهوات، وإقبال على الطاعات، وعمل دؤوب لنصرة دين الله وإعلاء كلمته.

يقول الإمام الغزالي في هذا المعنى: كلّ عمل تقوم به الجوارح يرشح منه على القلب أثر. فالطاعات والمجاهدات تترك أثرها في القلب، وفي هذا المعنى يقول تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت/ 69).

عندما يتوهج قلب المؤمن بالحب لله تعالى يهون عليه ما يلقاه في سبيل الله من تعب وألم، بل يصبح التعب راحةً، والألم لذةً، وكما أنّ متسلقي الجبال يشعرون بنشوة الانتصار والإنجاز وهم يقتحمون الأخطار والمهالك كذلك المؤمن تشغله اللذات الروحية العظيمة عن اللذات الحسية الصغيرة كما يقول عبدالله عزام:

"الفكر لا يُحد، واللسان لا يصمت، والجوارح لا تسكن

فإن لم تشغلها بالعظائم: شغلتها الصغائر

وإن لم تُعملها في الخير: عملت في الشر

إنّ النفس ركوناً إلى اللذيذ والهين، ونفوراً عن المكروه والشاق، فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق، ورضها وسسها على المكروه الأحسن حتى تألف جلائل الأمور، وتطمح إلى معاليها، وحتى تنفر من كلِّ دنية وتربأ عن كلِّ صغيرة..

علِّمها التحليق: تكره الإسفاف

عرِّفها العز: تنفر من الذل

وأذقها اللذات الروحية العظيمة، تحقر اللذات الحسية الصغيرة".

أدركْتُ معنىً للحياة وأنها *** تحلو بقربِ الله في السَّجداتِ

تحلو الحياةُ تسامياً وتعالياً *** وجهادَ أهواءٍ وطولَ ثباتِ

تحلو الحياةُ تحدياً وبطولةً *** وركوبَ أهوالٍ وعيشَ أباةِ

هذي لذائذنا وهذا دربُنا *** أكرم بها في العيش من لذاتِ

ويتحدث جلال الدين الرومي عن شعلة الحب لله تعالى وما تفعله هذه الشعلة عندما تتقد في قلب المؤمن "الحب شعلة إذا التهبت أحرقت كلّ ما سواها، فلا كبر، ولا خيلاء، ولا جبن، ولا خوف، ولا حزن، ولا حسد، ولا بخل، ولا عيب من العيوب النفسية، إنّ موجة الحب تسري في النفس سريان النار في الهشيم. إنّ الحب شعلة تحرق كلّ ما سوى المحبوب. إنّ التوحيد سيف إذا سله صاحبه قطع كلّ ما عدا الله. فحياك الله وحياك أيها الحب الذي لا يحتمل الشرك".

وعندما يبلغ هذا الحب ذروته في قلب المؤمن لا يجد بذلاً يليق بمحبوبه أقل من بذل الروح! سُئل أحد الصالحين عما يتطلبه السير إلى الله تعالى فقال: هو بذل الروح، وإلا فلا تشتغل بترهات!

حببتُكَ خالقي والحبُّ مني *** عنيفٌ لاهبُ الأنفاسِ راقِ

وما كلُّ ادعاءٍ بالهُيام *** يتوَّجُ صدقُه بدم مُرَاقِ

فحبٌّ لا يكلِّفُ غيرَ دمعٍ *** وحبٌّ ينتهي بالإحتراقِ

وعندما يجد الله من المؤمن هذا الصدق وهذا الحب يحبه ويجعله من أوليائه "وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينَّه ولئن استعاذني لأعيذنَّه" – رواه البخاري – وعندما يحب الله عبده يفتح أمامه أبواب البشرى ويحجب عنه الهم والأحزان (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس/ 62-64).

إنّ المؤمن يعيش لله ويغذي حب الله في قلبه بالأعمال لا الأقوال وهو يسعى لإرضاء الله تعالى بالعمل على تحقيق ما أراده للإنسانية من رحمة وعدل وكرامة.

وأختم هذا الموضوع بوصف لأحباء الله سطره الدكتور مصطفى السباعي – رحمه الله – يقول فيه:

أحباء الله..

إنّ لله عباداً قطعوا علائق الشهوات، وأسرجوا مراكب الجد بصدق العزمات، وامتطوا جياد الأمل، واتجهوا إلى الله علا وجل، وتزودوا إليه بصالح العمل، مع إخلاص النية، وتوسلوا إليه بصفاء القلب وصدق الطوية، فمروا بالخضرة الفاتنة مسبحين، وبالحطب اللاهب مستعيذين ولم يعبؤوا بالعقبات، ولم يلتفتوا إلى المغريات، قد صانعوا وجوههم عن الابتذال، وطهروا أقدامهم من الأوحال، استعانوا بالله على مشقة الطريق فذلل لهم صعابه، وعلى بعد المدى فلملم لهم رحابه، فلما اجتازوا الصعاب، سألوا الله ففتح لهم بابه، فلما دخلوه استضافوه فقرّبهم ورفع دونهم حجابه، فلما استطابوا المقام بعد طول السرى قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (الزّمر/ 74)، أولئك أحباء الله صدقوه العهد فصدقهم الوعد ومحضوه الحب فمنحهم القرب. اللّهم اجعلنا منهم.

 

المصدر: كتاب مافوق الذكاء العاطفي/ حلاوة الإيمان

ارسال التعليق

Top