• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

برنامج التزكية

مركز نون للتأليف والترجمة

برنامج التزكية
◄هناك معركة كبيرة تدور داخل نفس الإنسان بين عقله وشهواته، وسنتحدّث عن هذه المعركة وحقيقة أطرافها بشيء من التفصيل، إذ لابدّ من التعرّف على هذا الأمر؛ لأنّ المشرف على المعركة هو نفس الإنسان، فلابدّ له أن يعلم بأطرافها ومدى قوّتهم ومكامن الضعف لديهم، ليعرف كيف يديرها بحيث تصبّ في مصلحته.

أمّا أطراف المعركة فالطرف الأوّل هو قوى النفس: الشهويّة والغضبية والوهمية، التي تقوم بدور الطاغي الشرير الذي لا يحبّ سوى أن يقوم بملذّاته غير عابئ بما يخلّف وراءه من الخراب والدمار. والطرف الآخر هو العقل الذي يمثّل الخير والمبادئ الصالحة. ولكلّ من هذين الطرفين جنود، فجنود الأهواء النفسية تُسمّى جنود الجهل أو جنود الشيطان، والعقل تُسمّى جنوده بجنود العقل أو الرحمن.

 

ما هو العقل؟

أجاب الإمام الصادق (ع) عن هذا السؤال بقوله: "ما عُبِدَ به الرحمن واكتُسب به الجِنان، فقيل له: فالذي كان في معاوية؟ فقال (ع): تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل".

ويُستفاد من الرواية أنّ العقل هو الذي يُنتج الخير ويأمر به، وأمّا الذي يتمادى في الشرّ ويخترع الحيل وأساليب المكر فإنّه ليس من العقل بل من الشيطان أي من القوّة الواهمة التي توجد في نفس الإنسان حينما يسخّرها لأجل تنفيذ أهوائه وشهواته، وقد سمّاها الإمام (ع) بالشيطنة.

ولذا ورد في رواية أخرى عن الإمام الصادق (ع): "مَن كان عاقلاً كان له دين، ومَن كان له دين دخل الجنّة".

وبما أنّ العقل على هذا القدر من الصلاح إذ يوصل الإنسان إلى معرفة الدين ومعرفة ربّ العالمين، فمن الطبيعي أن يكون متّصلاً بسائر الأخلاق، ففي الرواية عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) قال: "هبط جبرئيل على آدم (ع) فقال: يا آدم إنّي أُمرت أن أخيّرك واحدة من ثلاث فاختر واحدة ودع اثنتين، فقال له: وما تلك الثلاث؟ قال: العقل والحياء والدين، فقال آدم (ع): فإنّي قد اخترت العقل، فقال جبرئيل (ع) للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرائيل إنّا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما. وعرج".

لذلك كان العقل محلّاً للتكريم الإلهي، ففي الرواية عن الإمام الباقر (ع) قال: "لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له: أقبل، فأقبل، ثمّ قال له: أدبر، فأدبر، ثمّ قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحبّ إليّ منك، ولا أكملتك إلّا فيمن أحبّ، أما إنّي إيّاك آمر، وإيّاك أنهى وإيّاك أعاقب، وإيّاك أثيب".

وأمّا الجهل فهو عدم التعقّل، ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق (ع): "اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، قال سُماعة: فقلت: جُعلت فداك لا نعرف إلّا ما عرّفتنا، فقال أبو عبدالله: إنّ الله عزّ وجلّ خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيّين عن يمين العرش من نوره فقال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال له: أقبل فأقبل، فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً وكرّمتك على جميع خلقي، قال: ثمّ خلق الجهل من البحر الأُجاج ظلمانيّاً، فقال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال له: أقبل فلم يُقبل، فقال له: استكبرت. فلعنه".

 

دور العقل:

إنّ للعقل دوراً مهمّاً، يمكن تلخيصه بالنقاط التالية:

1- توجيه الميول والغرائز الإنسانية: حينما تكلّمنا عن قوى النفس، ولا سيّما القوّة الغضبية والشهوية قلنا إنّ العقل هو الذي يحاول أن يضع حدّاً للتمرّد الذي تقوم به هذه الغرائز، ويجعلها خاضعة لقانون المصالح العامّة، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (ع): "النفوس طلقة، لكنّ أيدي العقول تمسك أعنتها عن النحوس".

أي عن ارتكاب المخالفات التي تدمّر المجتمع.

2- الأمر بالخير: فإنّ العقل يأمر بكثير من الأمور الأخلاقية الأساس، كحسن الصدق والوفاء، وقبح الكذب والخداع، وإلى هذا المعنى أشارات الكثير من الروايات، منها ما رُوِي عن الإمام عليّ (ع) أنّه قال: "لو كنّا لا نرجو جنّة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنّها ممّا يدلُّ على سبيل النجاح".

وعن الرسول الأكرم (ص): "استرشدوا العقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا".

3- الصلاح الاجتماعي: إنّ تجاهل الإنسان لنداء العقل الداعي إلى الخير، والناهي عن الشرور والطغيان يؤدّي بالمجتمعات إلى التحلّل ومن ثمّ الانهيار، وخير دليل وشاهد على صحّة هذا القول ما نراه في الدول الكبرى التي نقمت على الدين واعترته كابتاً لحاجات الإنسان، وشرّعت الإباحية، فها هي اليوم تعاني الأمرّين من جرّاء ضياع النسل وتفكّك الأُسر وانقراض الحياة العائلية الأُسرية، ولو حاولنا أن نجد السبب الرئيس لهذه المشاكل لوجدنا الإجابة في أنّهم لم يُصغوا لنداء العقل، وعن أمير المؤمنين (ع): "فُضِّل العقل على الهوى؛ لأنّ العقل يملّك الزمان، والهوى يستعبدك للزمان".

 

نموذج عن معركة:

من المناسب أن نذكر نموذجاً من المعارك التي تجري في باطن الإنسان بين جنود العقل والجهل حتى تتبيّن لنا كيفية هذا الصراع بشكل أوضح.

فمن النماذج التي سلّط التاريخ عليها ضوءاً، نموذج عمر بن سعد حين وعده الخليفة الظالم يزيد بن معاوية (لعنه الله)، بإمارة الري، ولكنه طلب منه مقابل منحه لإمارة الريّ، أن يقتل الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهما السلام) وابن السيّدة الزهراء وحفيد رسول الله (ص)، فهنا اصطفّت الجنود للمعركة في نفس عمر بن سعد، فجعل يتخيّر بين قتل الحسين (ع) والذي تأمره به النفس الأمّارة وحبّ الجاه والمنصب لينال إمارة الريّ، وبين العقل الذي يمنعه عن ذلك من خلال جند الرحمن الذين يحذّرونه من عاقبة قتل إمام زمانه المظلوم، وكان يقول في ليله:

أأتركُ ملكَ الريِّ والريُّ منيتي          أم أرجعُ مأثوماً بقتل حسينِ؟

ففي مثلِهِ النارُ التي ليس دونها         حجابٌ ومُلكُ الريِّ قرّةُ عيني

فهنا يتجلّى ويحتدم الصراع لاحتلال النفس، ولكن في هذه المعركة تغلّبت جند الشيطان على عقل عمر بن سعد فرضخ لحبّ الجاه، وقتل الإمام العادل حفيد الرسول (ص).

ونموذج آخر ينقله لنا التاريخ وهو موقف الحرّ بن يزيد الرياحيّ، الذي كان في جيش ابن زياد وقد خيّر نفسه بين الجنّة التي يلقاها بالاستشهاد من أجل الهدف النبيل في الدفاع عن الإسلام الحقيقي المتمثِّل بالإمام الحسين (ع)، وبين النار التي تتمثّل في دعم الطغيان الذي يمثّله يزيد بن معاوية، فاختار الجنّة وعاد تائباً إلى معسكر الإمام الحسين (ع).►

 

المصدر: كتاب في رحاب الأخلاق/ سلسلة المعارف

ارسال التعليق

Top