أسرة
1- لنضع أسئلة من قبيل: أين تكمن المشكلة؟ مَن السّبب فيها؟ هل أنا الذي تهوّرت وتعجّلت وارتكبت الحماقة؟ هل الخوف هو الذي دفعني إلى ذلك، أم الغيرة، أم الانتقام، أم ماذا؟ هل يمكن أن أكفِّر عن خطئي، أو أعترف بذنبي، أو أقر بضلوعي في الخطأ؟ وما هي الأبواب التي يمكن أن أخرج بها من هذا المأزق؟
صاحب المشكلة كمحامي الدِّفاع يحاول أن يدرس أوراق أو ملف القضيّة كلّها.. يبحث في أدقِّ التفاصيل.. لا يغادر شيئاً إلا درسه.. كُن حَكَماً عدلاً.
والعدالة في الحكم قد تتطلّب الاعتراف والاقرار بالذنب، وقد تتطلّب تبرئة الطرف الآخر، أي أن تقول الحقّ ولو على نفسك وأن تنصف خصمك.. هل نحن على استعداد لذلك؟
قد تبدو المسألة صعبة بعض الشيء، لكنّ امرأة العزيز التي غرقت في الإثم فأغرت يوسف (ع) بارتكاب الخطيئة، ثمّ سجنته بغير حقّ واتّهمته بما لم يفعل، لم تبق متلبّسة بالجرم حتى النهاية، فلقد سمعناها تعترف: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) (يوسف/ 32).
(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف/ 53).
(الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (يوسف/ 51).
إنّ إيمان الإنسان المؤمن أكبر من خطئه، وإنّ الحقّ عزيز عليه بل هو أعزّ من نفسه.
قيلَ لـ(أرسطو) الفيلسوف اليوناني الشهير: كيفَ تُعارض أستاذك (أفلاطون)؟!
أجاب: أحبّ أستاذي، لكنّني أحبّ الحقيقة أكثر من أفلاطون!!
ولذلك، فالحقُّ أحقُّ أن يُتّبع، فإذا أراد أحدنا أن يكشف كم هو عادل ليسأل نفسه: هل أنا مستعدّ لقول الحقيقة والإعتراف بالخطأ مهما كلّفني ذلك؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب فهو عادل لأنّ عدله مع نفسه ومع خصمه سيقي الآخرين من جوره وتجنّيه واتّهامه وتعسّفه.
إنّ قولك في معرض إنصاف الخصم: كم لديَّ من الأخطاء المماثلة لما ارتكبه بحقِّي، ألم يسبق لي أن فعلتها مغ غيره، فَلِمَ أبالغ في الخصومة إذن؟ سوف يكون مفتاحاً لمشكلة، أو هو أوّل الحلّ. قال بعضهم: صحبتُ الناس خمسين سنةً، فما وقع بيني وبينهم خلاف، لأني كنتُ معهم على نفسي!!
2- علينا أن لا نُعلِّق مشاكلنا على مشجب واحد.. لا تلقِ اللّوم على الأسرة في كلّ ما يعترض طريقك من مشاكل، ولا تحمِّل المجتمع وحده مسؤولية خطئك، ولا تلصق ببريء ضعيف تهمتك: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164).. ضع كل شيء في نصابه.. تحمّل أنت وزرك وقسطك من الجرم واتراك الآخرين يتحمّلون قسطهم، فنحن كثيراً ما نحسن الظنّ بأنفسنا بحيث أنّنا نرى القشّة في عيون غيرنا ولا نرى الخشبة في عيوننا.
إنّني لو اعترفتُ بما جنتهُ يدايَ وبقسطي أو نصيبي من المشكلة، فسأكون قد وضعتُ المشكلة على سكّةِ الحلّ!
3- الكذب أساس الشرور كلّها.. هو مفتاحها الكبير الذي ينفذ على غرف المنزل ومخازنه، ومع أنّ حبل الكذب قصير ولابدّ أن يفتضح الكاذب، فإنّنا يجب أن نقتنع أنّ الكذب قد ينجينا في اللّحظة الآنيّة، لكن النّجاة كلّ النجاة في الصِّدق إلا في المواضع التي يجوز فيها الكذب كما مع العدوّ.
وقد نعيش في مجتمع كذوب لا يقدِّر الصادقين ولا قيمة للصِّدق فيه، لأنّه استمرأ الكذب لطول معاشرته، لكنّ مشكلة الكذب هي ليس في إيهام الآخر الذي تكذب عليه، وإنّما في التجنِّي على الحقيقة التي تعرفها جيِّداً ولكنّك تقول بخلافها.. هل نقبل لأنفسنا أن نكون من الظالمين؟ وأن تكون الحقيقة ضحية من ضحايانا؟!
4- الغضب فورة وسَورَة واحتدام مشاعر انفعاليّة ساخطة تشعل نيراناً كثيفة وتثير زوبعة من دخان.. فرُبّ كلمة منفعلة أحرقت أخضر وخرّبت عامراً وكسرت عظماً يصعب بعد ذلك جبرُه.. والمشاكل – في العادة – تسجِّل حضورها القوي في حالات الغضب والإنفعال خاصّة إذا قوبلت الكلمةُ بالكلمة واللكمةُ باللّكمة والشتيمة بأقذع منها والبذاءة بأفحش منها، وتراشقت المحرّمات بالمحرّمات وسالت دماءُ الأخلاق!
فإذا كنتُ إسفنجة تمتصّ غضب الآخر وماءً يُطفئ نيران هياجه، بأن أكفّ شرّه وشرِّي بضبط النفس والتحكّم بمسار الموقف الغاضب المشتعل، أكون قد حكمت على ألسنة لهب المشكلة أن لا تتصاعد.. فلقد نجحت الآن في تطويقها، تمهيداً للقضاء عليها في خطوة لاحقة.
من المناسب هنا أن تعتمد أسلوب (التلقين الذاتي)، أن تطرح على نفسك أسئلة مهدِّئة من قبيل:
1- لماذا تترك الطريق الرئيسية من أجل الاختصار.. إنّها الطريق التي توصلكَ إلى الحلّ. يقول الشاعر:
ترجو النجاةَ ولم تسلك مسالكها **** إنّ السّفينةَ لا تجري على اليَبسِ
2- إذا كنتَ في روما، فهل تختلف مع (البابا)؟ لأراعي مشاعر صاحبي.
3- خطوة قصيرة واحدة يمكن أن تُقرِّب المسافة.. لماذا لا أجرِّب ذلك.
4- ما هو صحيح على (ضوء الفانوس) ليس دائماً صحيحاً على (ضوء الشمس)، لماذا أبقى أناقش المشكلة لوحدي.. الطرف الثاني له رأيه فيها.. لأذهب إليه وأستمع منه.
5- إذا أردتُ تنظيف (الدّرج) بشكلٍ جيِّدٍ فلأبدأ من الأعلى.
6- مَن يقوم بالخطوة الأولى بشكلٍ سيِّئ، سوف يخسر اللّعب دائماً، إذن عليَّ أن أدرس خطّتي الأولى بعنايةٍ تامّةٍ، لأنّها (المفتاح).. فإن تعرف البداية جيِّداً، هذا يعني أنّ النهاية لن تزعجكَ أبداً.. لأتأكّد أنِّي على صواب ثمّ أقدم.
7- كُن كالحياة التي تأخذ دائماً شكل الوعاء الذي توضع فيه.. المرونة في الحلِّ مطلوبة، سأحمل معي حلولي واقتراحاتي، لكنّني لن أتصعّب أو أتشدّد في فرضها عليه، فمَن يُغربل كثيراً سوف يحتفظ بالقاذورات!
8- إذا كانت يدي قادرة على فكِّ العقدة، فلماذا أستعملُ أسناني في حلِّها؟!
9- إذا رميتُ الحجارةَ في الظلام فقد أقتل أخي.. دعني لا أتهوّر في الموقف منه.
10- إذا أردتَ صيد السّمك (تليين قلب الطرف الثاني تمهيداً لحلِّ المشكلة)، لا يكفي الذهاب إلى النهر (ملاقاته).. بل عليَّ أن آخذ معي الشبك (الكلمات المنتقاة بعناية).
11- يمكن أن لا أهدم جداراً لكي أرمِّم جداراً.. أنا ذاهب إليه لأُصلح ما بيننا لا لكي أزيده خراباً.
12- ينبغي عليَّ أن أبحث عن الثّقب الموجود في الشبكة.. هذا هو الذي يمكنني أن أتسرّب منه.
كم هي دقيقة ورائعة وعمليّة نصيحة علي بن أبي طالب (ع) في هذا المضمار: "إقلعْ الشّرَّ من صَدْرِ أخيكَ بقلعهِ من صَدْرِك".. إنّها وصفة ناجحة ومجرّبة في حلِّ الكثير من عقد الخلاف، لو حظيت بأذن واعية تعيها، ونفس عاقلة كبيرة تدركها، وجوارح متوازنة تحفظها وتستحضرها في أوقات الانفعال والشِّجار والغضب والمخاصمة.
إنّك بهذا تُجري عمليّة (طرح) لا عمليّة (إضافة)، فمواجهة السوء أو الشر بمثله أو بأفظع منه زيادة في حطب النار وفي الزّيت المُراق عليها.. أمّا قلع الشر من صدرك فنزع لفتيل حرب.. وماء لإطفاء نار.. إنّ الآخر في المشكلة كالمصاب بالحُمّى، عليَّ أن أستخدم معه الكمّادات الباردة!
تأمّل فيما فعله صاحبُ هذه المقولة نفسُه.
فلقد كان علي (ع) يُردِّد مقولة: "سَلُوني قبلَ أن تَفقِدُوني"، فقام له شخص، وقيل كان من مهوّدة العرب (يهودي عربي)، فقال له: "أيُّها المُدّعي ما لا يعلم، والمقلّد ما لا يفهم، أنا السائل فأجِب".
فشعرَ أصحاب علي (ع) بالإستياء وهبّوا لتأديبه (ليخلقوا مشكلة في مواجهة مشكلة)، غير أنّه أمرهم أن يجلسوا، فقال لهم: "إنّ الطّيْشَ لا تقومُ به حُججُ الله، ولا تظهر به براهين اللهط، ثمّ التفتَ إلى ذلك الرجل، وقال له: "إسأل بكلّ لسانك، وما في جوانحك".
ومثل هذا حدثَ في مسجد الكوفة عندما علّق أحد الخوارج على كلامٍ لعليّ (ع)، فقال: "قاتلهُ الله ما أفقهه كافراً"! وهي شتيمة كُبرى لأنّها تكفير، فأراد الحاضرون تأديبه فنهاهم علي (ع)، وقال: "إنّما هو سَبُّ بِسَبٍّ، أو عفوٌ عن ذنب". واختار (ع) الثاني، لأنّه يكره أن يكوه سباباً، فينزل إلى مستوى شاتمه، فتكون المشكلة أعقد.
5- حسن الظنّ الزائد.. الطِّيبة المفرطة لدرجة السّذاجة.. تعتبر حقلاً خصباً للمشاكل العارضة، فالمستغلّون كثيرون.. والنصّابون كثيرون.. والذئاب البشرية من حولنا ليست قليلة، والمتلاعبون بالقيم والأخلاق وأولاد الحرام منتشرون هنا وهناك، فإذا ما ساءت أخلاق الناس في مجتمع ما وأحسنتُ الظنّ، فقد أكون أوقعتُ نفسي في مشاكل قد يتعذّر حلّها، ولذا فإنّ المقولة القضائيّة: "القانون لا يحمي المغفّلين"، ينبغي أن تكون كإشارة مرور حمراء تشتعل – في الوقت المناسب – لتنبِّهنا إلى الخطر.
إنّ افتراضك أنّ الآخر هو مثلك في الطِّيبة وحسن الخلق والالتزام والوفاء والصدق – في واقع يكثر فيه السوء – يعطي للآخر فرصة استغفالك واستغلالك وإيقاعك في مشاكل قد لا تخطر لك على بال.
ولذلك فإنّ الحلّ هو أن تبدأ بـ(الشكّ) وتنتهي بـ(اليقين)، لكي لا تكون كالمغفّل أو المغرّر أو المخدوع.
6- هناك أماكن مشبوهة ترتسم حولها علامات الاستفهام والتعجب، فإذا ما ارتادها الشاب أو تواجد فيها، فإنّه سيكون مظنّة التهمة ويضع نفسه في موضع الرِّيبة والشك والشبهة، وقد لا يجد من يعذره أو يغفر له تردّده على الأماكن الموبوءة المثيرة للشكوك، وصادق مَن قال: "مَن حامَ حولَ الحمى، أوشكَ أن يقع فيه".
إنّ بعض المشاكل قد تنجم عن عدم أخذ الحيطة والحذر، والاسترسال الذي يوقع في الزّلل، وقد جاء في الحديث: "إنّ صرعة الاسترسال لا تستقال". أي أنّها صرعة لا ينهض المصروع بعدها، لأنّها القضاية.
7- تتلبّس بعض المفاهيم والمصطلحات بأكثر من لبوس، فتخلق العديد من المشاكل بسبب التفاوت في فهمها والتعاطي معها. فقد يظن بعض الشبان – بوحي واقع اجتماعي معيّن – أنّ من "الشطارة" أن يخدع غيره ويدلِّس عليه ويكذب ويغشّ ويفتري. وقد يرى البعض من الشبان والشابات أن "الصداقة بين الجنسين" أمر لا ريبة فيه، وأنّها بريئة تماماً كما هي الصداقة بين أفراد الجنس الواحد، وقد يرى آخرون أنّ "البطولة" هي في أن تستعرض عضلاتك لتمارس عنفك ضدّ الضعفاء، وأنّ "المزاح" مستملح مستظرف فيترك لنفسه أن يسخر من إخوانه ومعلِّميه وأصدقائه فيرسل الكلمات الجارحة النابية لإضحاك الآخرين بجرح كرامة صديق أو زميل، وقد يرى البعض أن غناء أهل الفسق والفجور "فنّ" وما إلى ذلك.
إنّ معاني هذه المصطلحات الغائمة المطّاطة إذا لم تُحدّد بشكل علمي، بحيث نضع بينها وبين المعاني الصحيحة التي ترمي إليها مسافة واضحة، فإنّها تخلق المشادّات والمشاجرات والمصادمات، فالشطارة – مثلاً – هي في المروءة والفتوّة والذكاء والفطنة والإبداع، والصّداقة غير العلاقة بين الجنسين، والبطولة في نصرة المظلوم وردع الظالم وإغاثة المحروم واسترداد الحقّ المهضوم والمواقف الجريئة والمشرّفة، وفي الصدق في المواطن المختلفة. والمزاح إذا خرج عن حدود اللِّياقة والأدب، أذهب بالهيبة وأسقط الاحترام وانتهك حرمة الأخوّة والأبوّة والزّمالة والصداقة.
8- أفكارنا الصحيحة لا يكفي في صحّتها أن تقال بأيِّ شكل من الأشكال، فلابدّ من وسائل سليمة وكريمة وصحيحة للتعبير عنها حتى ندخل العقول عن طريق القلوب، أمّا إذا طرحناها على نحو الفرض والإلزام، أو في أجواء متشنّجة يغلب فيها الإنفعال على حسن المقال، فإنّنا نخسر بذلك خسارتين: أفكارنا الصحيحة التي لم نعبِّر عنها بشكلٍ صحيح، والآخرين الذين نريد أن نكسبهم إلى صالح أفكارنا.
إنّ المشاكل الناجمة عن الصِّراعات الفكرية أو العقائدية – في الأعمّ الأغلب – ناتجة عن أساليب منفّرة تبعِّد ولا تقرِّب وتعادي ولا تؤاخي وتفرِّق ولا تجمع.
9- المسؤولية في المشكلة يجب أن تُحدِّد: مَن هو المسؤول الأوّل والأخير؟ فلا يجب أن نضيف إلى المشكلة مشكلة أخرى أو نتوسّع فيها باتِّهام آخرين لا علاقة بالأمر: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164)، أي حمّل الطرف المعني المسؤولية إلّا إذا ثبتَ لكَ بالدّليل أنّ هناك أطرافاً أخرى حرّضتهُ أو زادت الطّين بلّة، وعلى ضوء هذا تصرّف.
ارسال التعليق