نعم الله -تبارك وتعالى- الظّاهرة والباطنة تغمر حياة الأنسان كلها. فلا يخلو جانباً من حياتنا منها، لذلك كان التأمل فيها وتقدير قيمتها، أو الإحساس القلبّي والشّعور بها وحسن مجاورتها، وشكرها يبعث حبّاً جديداً، ويوثق العلاقة، مع الله أكثر فأكثر.
نعم، لا أحد يستطيع الوفاء بحقّ الشكر؛ لأنّ مائدة نعم الله سبحانه وعطاياه أوسع وأغزر وأعمق من ان تحاط أو تستوعب بالشكرين اللّسانيّ والقلبيّ، ذلك أنّ كلّ شكر هو جذوة حبّ وفتح لباب كرامة أخرى، فكيف نقدر على شكره وشكرنا له يحتاج إلى شكر؟
يقول أحد المحبين الله وهو يناجيه: (أفبِلساني هذا الكالّ أشكرك)، معترفاً بعجزه وقصوره عن الوفاء بشكر نعمة واحدة.
فكيف بجميع نعمه كلها؟!
إنك إذا تصوّرت نعمة الله وأظهرتها، فقد شكرت، وإذا شكرت عبرت عن حبك الله، واذا خطرت النّعمة على ذهنك أو قلبك، وعرفت أنها من الله، وأنه تفضّل بها عليك، فقد شكرته حتى ولو لم تقل بلسانك: شكراً يا ربّ.
يقول النّبي دواد (ع)، وهو أحد أشهر كبار المحبين لله: ( يا رب! كيف أشكرك مع ان الشكر نعمة أخرى، وتستدعي شكراً آخر؟
فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! عندما عرفت بأن كل نعمةٍ نازلةٍ عليك تكون منّي، فقد شكرتني)!!
ويقول عارف محب شاكرُ، وهو الإمام زين العابدين عليّ ابن الحسين (ع) في دعائه معبر عن هذا المعنى الطّافح بالحبّ لله والثّناء عليه: (إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إياي ثنائي ونشري.. (إلى أن يقول): فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إياك يفتقر إلى شكر، فكلما قلت: لك الحمد، وجب على لذلك أن أقول: لك الحمد)!
لقد سبقت الإشارة في مطلع هذا الكتاب إلى أن الحبّ يحتاج إلى التعبير عنه، ولم نجد تعبيراً أفضل عن حب الله للأدعية المؤثرة عن المحبين من الأنبياء والأوصياء والصالحين، وإن أفضل أنواع الشكر المعبرة عن أعمق الحب لله، هو استعمال نعم الله تعالى- الظاهرة والباطنة- في طاعته وعبادته وخدمة عبادة، أي تسخير النعمة في الحبّ.
لقد كان موسى (ع) قوياً، فاستخدم قوته مرة في مقتل القبطي، واستخدمه مرة في السقاية لبنات شعيب، وفي الثانية كان قد عاهد الله تعالى أن يضع نعمته في موضع الشكر العملي أي توظيف قوته في خدمة الضعفاء
فقال: ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) (القصص/ 17).
إن استعمال العين -على سبيل المثال- في التأمل في مخلوقات الله تعالى، وفي آفاق عظمته، وفي تلاوة كتابه، وفي دراسة العلوم النافعة، وفي مساعدة الاعمى الضرير على عبور الطريق بسلام، وغضها عن المحارم.. كلّ ذلك شكر الله على نعمة البصر، وهو تعبير عملي وواقعي عن حب الله... ومن أعطي الشكر -وقد أعطيناه- أعطي الزيادة.
يقول تعالى: ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم/ 7).
يزيدنا من نعمه الظاهرة والباطنة، ومن حبه وتقريبنا إليه، ولقد عبر الرسول الأكرم (ص) عن حبه لله تعالى بشكره له.
حينما سألته احدى زوجاته عن سبب كثرة عبادته، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)!!
أي ان ذلك يستدعيني أن أحبه أكثر، وأتقرب إليه أكثر، وأشكره أكثر. ولأجل ان نأخذ من مقالته درساً، فلو أن الله سبحانه أسقط عنا كل العبادات ومحا عنا كل السيئات، ألا يكون ذلك سبباً لشكره ومزيداً من القرب أو التقرب إليه؟!
وحدهم العاقون.. الجاحدون.. البخلاء.. الكافرون.. الذين لا يشكرون النعم، وكذلك كانوا ابعد الناس عن حبّ الله. فإذا أردت ان تستزيد من حب الله -والطريق إلى ذلك مفتوح- فتعلم من المحبين كيف يشكرون الله في سجودهم كلما تذكروا نعمة، وفقهم الله تعالى لعبادة، وكلما اجتنبوا المعصية وكلما ابتلي غيرهم بمصيبة ونجوا منها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق