إنّ الأُمّة التي يتكامل وعيها بمعقولاتها وطباعها، ويثبت لها هذا الوعي في شطريها (البدن والنفس) لابدّ أن يكون لها من عناصر البيئة التي تحيا فيها ما يحفظ عليها كمال الفطرة الإنسانية التي نشأت عليها في بدنها ونفسها.
ولما كانت النفس تكتسب مما حولها بطريق جسمها، فإنّه لابدّ وأن تنشان بين النفس والجسم أداة يتم بها تسجيل حركة الأخذ والعطاء، وضبط عملية الانفعال والفعل بحسب ما النفس عليه، وما الجسم مصور للنفس به، وهذه الأداة التي تنشأ مع الإنسان بمجرد وجوده، وتأخذ في النمو بقدر سنه وتجاربه ومواهبه هي العقل.
فالعقل هو الجهاز النفسي الذي يمثل مجموعة معارف الإنسان مما كسبه من تجاربه، بحسب ميل نفسه واتجاهها، ولذلك هو ينمو بنمو تجارب الإنسان وممارساتها.
- توازي القوى وتحكمها:
نستطيع بعد ذلك أن نحدد هذه القوى التي تعمل في الإنسان على الوجه الآتي:
1- الروح: هي (قوة العمل) لأنّها أصل الحياة، والحياة مظهرها الأعمال الإرادية الغريزية.
2- النفس: هي (نوع العمل) ويفسر ذلك تسلسل أعمال كل إنسان في وجهة نفسه الثابتة نحو الخير أو اتجاه الشر بغض النظر عن مقاييس الناس العرفية وآراء العصر.
3- الجسم: هو (أداة العمل) فكل طبائع النفس وحدودها تواجه الجسم قطعة قطعة وجارحة جارحة، والجسم بأعماله يفسرها ويصورها حتى ليمكن القول بأنّ هناك نفساً قوية أو واهنة ومترهلة أو معتدلة إلى غير ذلك مما توصف به النفس.
4- العقل: هو سجل (العمل) فهو ملتقى الرغبات التي تتحول إلى أعمال تسير في طرقها من غير تنازع أو اصطدام، وبه يتم ضبط التفاعلات والقوى النفسية والجسدية، وتسجيل الأعمال الإرادية التي انتهت، والخواطر المحدثة التي تولدت، والآمال القديمة التي تحللت وهو بإيجاز العلامة الصحيحة على نوع الاتجاه النفسي والفعل الجسدي.
- المسؤولية والمصير:
ومن ذلك يتبين لنا مما تقدم أن مصير الإنسان معلق بين جسمه ونفسه فقط، فالروح مشتركة القدر بين الناس، والعقل هو تسجيل حالة التعامل بين النفس والجسم من صادر ووارد، ونافذ ومؤجل ومستقيم ومنحرف وسار ومحزن إلى غير ذلك من صور الحياة التي يعيها العقل أو التي يتذكرها أو التي يبطنها ويحسبها في طواياه.
ومن الممكن القول بأن جسم كل إنسان هو صورة نفسه في مرحلة حياته فإذا كان الجسم سليم التركيب فطري النشأة، قوي الصلة بروائع المخلوقات من حوله وآيات الله في نفسه وغير نفسه، سريع الإجابة لدواعي الكفاح عن حياته والذوذ عن مقومات وجوده كانت نفسه كذلك عدلاً لهذا الجسم فيما تدل عليه بنشاط قواها الفطرية من بلوغ الكمال في السلوك، وتسنم الذروة في الحق واعتلاء صهوة البيان والفصاحة في كل مسالك الحياة ومفاجآتها.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (النساء/ 97).
- تكافؤ النفس والجسم:
ولتوضيح هذا التكافؤ بين النفس والجسم نعود بالذاكرة مع التاريخ ونستعرض سوياً ذلك المثل: لا ينكر أحد أنّ العرب في ماضي بداوتهم تعرضت أبدانهم للشمس طوال حياتهم حتى تخللت مسامهم وسرت في لحومهم وذابت في نخاعهم وصيرتهم من مادة الشمس شموساً متحركة تملأ نفوسهم وتنير بصائرهم وتفيض في مشاعرهم وبذلك عرفوا الغاية من حياتهم معرفة لا شك فيها ولخصوا هذه الغاية في (السعي والعمل) وجعلوا لواء حركة السعي في (المجد).
ولم يكن هؤلاء الأحرار العقلاء خياليين فاعتبروا السعي والمجد أمراً واحداً ولنتذكر ما قاله امرؤ القيس لصاحبه عندما صار أمره إلى الشتات والتفرق واختلفت به البلاد في الاستنجاد والطلب:
بكى صاحبي لما رأي الدرب دونه **** وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينيك إنما **** نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
ويقول من قصيدة أخرى:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة **** كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل **** وقد يدرك المجد المؤثر أمثالي
ذلك أنهم ماداموا على الطريق بهداية الفطرة ونوازع البيئة فكل سعى لهم مؤد إلى إدراك مجد يمسكون بأطرافه مجد يتعرفون عليه بوحي طبائعهم وبما سنه لهم آباؤهم ولم يكتبوه وكيف يكتبون بالقلم ما يكتبونه كل يوم بحوافز الخيل وأطراف الاسنة وبسط الأكف بالندى..؟
وليس المجد عندهم بناء الهياكل والأهرامات وإنما يعنون به الخلق الكريم والذكر الحسن يقول شاعرهم:
بنى البناة لنا مجدا ومأثرة **** لا كالبناء من الآجرّ والطين
وقد أدرك العرب ذلك فيما مضى حيث عرفوا أنّه مادامت مثل الحياة الإنسانية في قلوبهم صحيحة ثابتة، فإنّ المجد الحق يكون في تحقيقها وإذن فقد اعتبروا أنّ المجد هو العمل وذلك ما شرعه الإسلام للناس بعد وهنا تصدق المقولة القديمة: صقلك لسيف ليس له جوهر من طبعه خطأ وبذرك الحب في الأرض السبخة ترجو نباته جهل ورحم الله أبا تمام حيث يقول:
والسيف مالم يلف فيه صيقل **** من طبعه لم ينتفع بصقال
- وضوح الغاية:
تقتضي فطرة الإنسان السليمة وبيئته الطبيعية معرفة غايته فيسرع متجها بنفسه نحوها لا يبدد مجهوده في التأمل في باطن نفسه أو نسج الخواطر والأفكار في أقبية عقله وإنما هو يندفع بكل قواه لهذه الغاية التي تشرق له ولا تجد الوساوس وعقد النفس وتأملات الباطن مكمنا في سريرته النقية بل يفيض على سجيته ولا ييأس ويجري على طبيعته ولا يستنقع ويصبح اتجاه حياته على ما تقتضيه فطرته السليمة بأن يبدأ من نفسه دائماً وينتهي عند غاية حياته وينشأ عن ذلك توحد أفكاره ووضوحها نتيجة لتوحد عرضه ووضوحه ولذلك فإن مرحلة تفكيره في كل أعماله لا تكاد تتجاوز اللمحة ثمّ يولد العمل ناصعاً ناقذاً.
- الصحة النفسية:
ولعلنا نرى بعد ذلك أن ارتباط ما سبق بالصحة النفسية أمر في غاية الأهمية إذ يكون معنى ما ذكرناه أن يواجه الإنسان حياته بعد مرحلة التفكير أي أنّه يخرج بمشاكله إلى خارج نفسه فليست المشكلة عنده في كيف ينظم صلته بغيره من أفراد المجتمع ولا كيف يعامل جاره ولا كيف يقيم بيئته ولا كيف يربي ولده، وإنما كيف ينفذ ما استقر الرأي عليه من ذلك كله تنفيذا يبلغ به غايته من كمال النجاح والتوفيق بحسب ما يعرض له من الظروف والأزمنة والأمكنة التي لا سلطان له في اختيارها وأن كان له السلطان بفرض سيادته على كافة مشقاتها ومشاكلها بقدر ما في وسعه فإن صادفه عائق وعر أو ألم به خطب جلل كان موقفه من هذا العائق أو الخطب ظاهرا بين يديه ظهور كل شيء في حياته ونفسه لا مختفيا في تلافيف رأسه ولا مندساً في خرائب عقله بين ظلمات التوهم والخوف فهما عنده خطتان لا ثالثة لهما:
إمّا انتصار مبين على هذا العائق يأتي من جهة ركوبه وقهره أو تجاوزه بالرحلة عنه وإما بالموت على الكرامة والعزة والاباء.
وهذا الوعي الذي يعي به أحداث الزمان معه نتيجة هذه التربية الفطرية البيئية قد مكن هذا الإنسان دون غيره من الإدراع بالصبر ليتحمل هذه الأحداث ويدفع عنه غوائلها فما دام قد كشف مشاكله خارج نفسه فإن باستطاعته أن يضع على هذه النفس المحصنة من الداخل درع الصبر الحديدي أمام هذه الأحداث والخطوب وما تسفر عنه من مصائب وأتراح.
وقينا بعزم الصبر منا نفوسنا **** فصحت لنا الأعراض والناس هزّل
وإنا لنرى في مثل هذا التواؤم النفسي والبدني في ظاهر الحياة الواسعة ما يمكننا من القطع بأنّه لا يوجد مطلقا للنفس المطمئنة (عقل باطن) وإنما لها هذه الإنطلاقة التي تطرح مشاكلها بين يدي صاحبها ثمّ تترك ما تبقى للرياح تذروها فلا تصاب النفس بعد بشيء من تضخمها أو تعفنها أو تخللها.
وصدق رب العالمين:
(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 27-30).
ارسال التعليق