• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

اليوم الأخير

تامر صالح محمد

اليوم الأخير

وهكذا بدأت مُعاناته مرّةً أخرى مع البرد، تلك أمسية أخرى سوف يقضيها بعيداً عن المنزل، يتسكع في الطرقات، محاولاً بشتّى الطُّرق البحث عن شارع صغير أو زقاق ضيق نوعاً ما، أو ربما منزل مهجور لو كان سعيد الحظ، كي يَقيه لسعات هذا البرد القارس. لم يكن يعرف حقاً ماذا يفعل. ويبدو أن عقله قد تجمّد هو الآخر مع أطرافه، فلم يُعد في استطاعته التفكير. كلّ ما كان يحمله من هذه الدنيا هو ذلك الغطاء المهترئ، وتلك المسبحة القديمة التي لا يذكر، حالياً، كيف حصل عليها.

هو لا يشعر بالجوع، وبالتأكيد ليس العطش، ولا يذكر آخر مرّة شعر فيها بالجوع، يعرف أن تخطَّى مرحلة الإحساس منذ فترة ليست بالقصيرة. كما يُدرك تماماً أنّه يتحرك بما تَبقَّى له من طاقة تواصل النفاد بسرعة فلكيّة، حتى لو وجد طعاماً فهيهات له أن يستطيع أكله مع فكّه العالق من قلّة الحركة، وشفتيه الجافتين المتشققتين، لاسيّما يديه المتجمّدتين المرتعشتين على الدوام.

وجد أخيراً ضالّته في ذلك الزقاق الضيّق المظلم، فتوارَى فيه وجلس إلى الحائط. بالكاد استطاع أن يُحيط ساقيه بيديه الصغيرتين. شعر بارتياح كبير لعودته أخيراً إلى مكانه الطبيعي في الأزقّة المظلمة. بَدَا وكأنّ ثمّة ألفة قد تكونت بينه وبين تلك الأزقة، مع مرور كلّ تلك السنوات التي قضاها مُتنقلاً فيها. بات يألَف كلّ أكياس القمامة وقطع الخردة وجميع القطط الضالّة. يَذكُر، أنّه شاهد ذلك القط الكبير صاحب الذيل المقطوع في أكثر من زقاق وحارة. يبدو أنّ ذلك المسكين سيئ المزاج وسريع الملل أيضاً، كما أنّه قد صار يعرف جيداً كيفيّة استخدام قطع الخردة تلك، لصنع هيكل لسيارة صغيرة يلعب بها بين الفينة والأخرى، كان ذلك منذ وقت طويل على أي حال.

كان التيار الهوائي البارد يصطدم بوجهه بقوة، حتى إنّه أدار رأسه في الاتجاه الآخر للنجاة من تلك الضربات المهلكة، وقع بصره على شبح لمبنى سكني كبير، يقف شامخاً كتنّين أسطوري في قصة خُرافية من الأدب الصيني. كان المبنى مُلظماً بالكامل، عَدَا شقة وحيدة ظلّت تُرسل ضوءها عبر نافذتين متجاورتين، شكّلتا عيني ذلك التنّين الخرافين أخذ يفكر في سكان تلك الشقة، بالتأكيد هي أسرة سعيدة دافئة، يضحكون طيلة الوقت ولا يَكفّون عن تناول الأطعمة الطازجة واللحوم وتناول المشروبات الساخنة. هل لديهم أولاد في مثل سنّه؟ بالتأكيد، سيكونون أسعد الأطفال على وجه الكرة الأرضية، فهم ينعمون بفراش وثير دافئ بعد يوم طويل وشاق، قضوه بين الدراسة وألعاب الكمبيوتر، تلك التي كان يشاهدها عبر الزجاج محلات ألعاب الفيديو، ويُذكر أنّه حظي مرّة بنقود مكّنته من لعب عشر دقائق كاملة. المؤكد أنّها كانت الدقائق الأفضل حياته جنباً إلى جنب، مع تلك التي تناول فيها بقايا شطيرة ("تشيز برغر")، وجدها بالقرب من أحد المطاعم، هو لم يعرف أنها تملك ذلك الاسم بالطبع.

قلبه بدأ يخفق بشدة هذه المرة. وقد زاد وهنه حتى إنّه شعر بتراخٍ عجيب في عضلات جسده، فتمدد على الأرض الخشنة الباردة، وجد صعوبة كبيرة في التقاط أنفاسه، وربما تكون هذه ليلته الأخيرة وربما لا تكون، لا يشعر بفارق هناك في الأمر، بل ربما يفضّل الخيار الأوّل لما فيه من راحة جسدية، وربّما تكون أبديّة أو على الأقل هذا ما كان يعتقده. سمع صوت مُؤذن يدعو إلى الصلاة يأتي من بعيد، كان الصوت يعلو تارةً وينخفض تارةً أخرى بفعل الرياح العنيفة. هل هي صلاة العشاء؟ أم الفجر؟ كلا الخيارين مُتاحان، فلم تكن ساعته البيولوجية باستثناء بقيّة المفقودات، لم يفكر في الأمر كثيراً، وقد جعله الصوت الجميل القادم من البعيد، يشعر براحة نفسية رهيبة تتنافَى تماماً مع ما يُعانيه من آلام يصعب معها أمر البقاء حيّاً. سوف يؤدي صلاته، وهي بالتأكيد سوف تكون بالتيمُّم إن أسعفته ذاكرته الواهنة بالطريقة الصحيحة للتيمُّم. فلا يوجد ماء بالقرب ليتوضأ به، حتى إن وُجِد الماء، فليس مجنوناً ليضعه على جلده اليابس في مثل هذا البرد القارس.

حاول النهوض ولكنه لم يستطِع. أغمض عينيه وأدخل يده في جيبه، وأخرج مسبحته الصغيرة وأخذ يُسبّح بها بشفتين مضطربتين، الآن يذكر من أين أتى بهذه المسبحة، كان يطلب نقوداً من أحد الشيوخ حين أعطاه إياها وأخبره بأن يذكر الله حينما تضيق به الدنيا، فذكر الله هو المَخْرَج من كل ضيق وهم. كانت هذه آخر ذكيراته عن السنوات المحدودة التي قضاها في هذا العالم. هكذا، مُمسكاً مسبحته بيده الصغيرة ومردّداً تسبيحاً متواصلاً، فارق الحياة حاملاً معه ذكريات مريرة ومعاناة لا يمكن وصفها. كان آخر ما لمحته عيناه الذابلتان، ذلك القط الكبير، صديقه من الأزقة والذي مَيَّزه بذيله المقطوع. جلس القط إلى جواره، وراح يَلعَق يده الممسكة بالمسبحة، وهو يَمُوء بصوت حزين مقبوض، كمن يبكي فراق صديقه. أغمض الصبي عينيه على هذا المشهد الكئيب بابتسامة باهتة، كما حياته، وقد شعر أخيراً بأنّ ثمّة مَن هو حزينٌ لفراقه.

 

*كاتب من السودان

ارسال التعليق

Top