يرى بعض المهتمّين بالشأن النفسيّ أنّ للشُّكر في وجداننا فضاءً واسعاً، وكلمة الشُّكر - على محدودية حروفها - تحملُ عاطفة جَيّاشة، ومشاعر فَيّاضة، جزاء المعروف المُسدى إلى النفس.. والشاكر الحقيقي صادق المشاعر، يُفكِّر في كيفية مجازاة مَن أحسن إليه، ذلك أنّ حقيقة الشُّكر نابعة من حقيقة المعروف، و(جميلُ المعروف) يستوجب (جميلَ الشُّكر)، وإلّا عُدّ غير الشاكر ناكراً للمعروف.
وبناءً عليه، فإنّ الإقرار بالعرفان والامتنان طريق إلى الاكتمال الذاتي، لأنّك عندما تعترف وتشيد بجهود الآخرين، فإنّما تتعاطى روحياً ونفسياً مع إيجابية العطاء عند الآخر، ويتجلّى دور الامتنان في كونه يُعطينا شحنات معنوية إضافية تدفع للمزيد من العمل والاجتهاد، وهو سلوكٌ سامٍ لا ينتقص من مكانة الشاكر وشأنه، بل يُعبِّر عن التوازن في شخصيته، وتقديره العالي لمجهودات الآخرين، وتثمين وتشجيع الطاقات والإنجازات.
هذا وقد دعت بعض البحوث النفسية إلى بذل المزيد من الشُّكر لكلِّ مَن يرغب في حياة آمنة، مُشرقة ومتعاطفة، من خلال الآتي:
1- التمرُّس على ثقافة العرفان والاعتراف بالجميل، لأنّها سلوك حضاري ينبغي أن نتمرَّن عليه ونكتسبه ونتعامل به، إذ ليس من تَقدُّم وتطوُّر إلّا وكان (الشُّكر) ملازماً له.. وكلّما شاعت ثقافة الشُّكر، ازدادت سعة الثقة في النفوس من منطلق إشادة المحيط وتقديره وتجاوبه مع العطاء، بل وتثمينه له.
2- (الشُّكر) من (الكلمات الطيِّبة) و(الأساليب المحفِّزة)، ولذلك فإنّ تضمين خطاباتنا وكتاباتنا أو مذكّراتنا بتعابير الامتنان والعرفان لمن أحسنوا إلينا، وتركوا بصماتهم في حياتنا، وكان لهم التأثير الفاعل في إنجازاتنا، هو (تخليد) لذكرى عطاء كريم (مرّ في الزمان)؛ لكنّه راسخٌ في الوجدان، أو ممتلئٌ به فضاءُ الكيان، ذلك بعض الوفاء لمن شكرناهم ذات يوم، وبقي إحسانهم إلينا أوسعَ إطاراً ونطاقاً من كلمات شُكرنا وامتنانا الآني لهم.
3- للامتنان قواعد لحياة هانئة: يُوصف الإنسان - عموماً - بطبعه الأناني وتماهيه في حبّ ذاته، وتمركزه حول إظهار محاسنه، دون مراعاة للآخر، إذ غالباً ما يكون حضور الذات قويّاً في المجتمعات التي تجعل من الذات الفردية محوراً استقطابياً، وتصبّ جام اهتمامها على الاستمتاع الفردي من غير الإحساس بضرورة مشاركة الآخرين بمتعة وجودهم في حياتنا.
يقول (داير) في (قوّة العزيمة): «بدلاً من أن تبقى في حالة عدم سلام مع أي فرد من أفراد أُسرتك، اُشكر الله على وجودهم في حياتك، وعلى كلِّ ما عملوه لك. وبمعنى آخر، فإنّ المحيط المجتمعي - صغيرةً كانت دائرته أم واسعة - ينتظر دائماً كلمات الشُّكر وتعابير الاعتراف والامتنان مع كلِّ فعلٍ إيجابي يصدر عنه، ولا يخلُّ ذلك في إخلاص العمل ونزاهته».
بعض علماء ما يُسمّى بـ(علم النفس الإيجابي) نشروا نتائج بحث قيِّم حول الإجابة عن سؤال: كيف للإعراب عن الامتنان أن يُغيِّر دماغَك؟! أو كيف يمدّك، كونك مُمتنّاً وشاكراً، بالعديد من المزايا العقلية والجسدية؟!
أظهرت الدراسة الخاصّة بهذا المجال أنّ تمارين الامتنان البسيطة، مثل الاحتفاظ بمذكّرة تحتوي الأشياء التي تمتنّ لوجودها، أو لحدوثها، أو كتابة رسائل شُكر، تستطيع أن تجلب الكثير من الفوائد، مثل زيادة الشعور بالرفاهية، وتقليل الاكتئاب، وذلك الشعور يستمر أيضاً حتى بعد انتهاء التمارين.
وحسب دراسة في مجلّة علمية متخصِّصة في تقنية التطوير العصبي (Neuroimage)، أشارت النتائج إلى أنّه حتى بعد مرور أشهر على مهام كتابة نماذج الشُّكر البسيطة، يظلّ عقل الأشخاص متّصلاً بذلك الشعور بالشُّكر، ممّا يعني أنّ ممارسة الامتنان فعّالة، بل إنّها ذات طبيعة مستديمة، إذ كلّما مارست الامتنان، أصبحت أكثر انسجاماً في ممارسته، ومن ثمّ تستفيد من فوائده النفسية الجمّة.
باحثون من جامعة (إنديانا) الأميركية جَنَّدوا (43) شخصاً لحضور جلسات استشارية لعلاج القلق والاكتئاب.. (22) منهم شاركوا في أداء تمارين الامتنان.. بعد أوّل (3) جلسات أسبوعية، أمضت المجموعة (20) دقيقة في كتابة خطاب يُعبِّرون فيه عن امتنانهم لمَن وَفَّر لهم فرصة المعالجة، بعضهم استجاب، وبعضهم لم يهتم.. بعد (3) أشهر خضع الجميع إلى تجربة إضافية للتعبير عن الامتنان، وكانت النتائج مختلفة.
خلاصة التجربة التي مُرِّروا فيها بعد ذلك لتنمية الإحساس بالعرفان، إعطاء كلٍّ منهم مبلغاً من المال من متبرِّعين مفترَضين لا واقع لهم؛ ولكنّ القائمين بالتجربة نشروا صوراً وأسماء للمتبرِّعين غير حقيقية لإضفاء مزيد من الواقعية على التجربة، وقالوا لهم: إنّ كلَّ مُحسنٍ أو فاعلَ خيرٍ سيُقدِّر ويُثمِّن جدّاً أي تعبير عن امتنانهم لهديّته النقدية، وإنّه يريد من المتطوِّعين إعطاء بعض المال أو كلّه إلى طرف ثالث (جمعية خيرية، أو ما شابه) مُعرِّفاً بالاسم والصورة.
اكتشف الباحثون أنّه - كمعدّل - كلّما زادت كمّية المال المقدَّمة للمشارك في التجربة، زادت قوّة مشاعر الشُّكر والامتنان لديه، وارتفعت نسبة النشاط في المناطق الأمامية في دماغه. ومن المثير أنّ الأنماط العصبية المُعبِّرة عن الامتنان كانت مختلفة عن التغيرات نتيجة التعاطف مع الغير، الأمر الذي يُشير إلى أنّ الامتنان والعرفان يعتبران عاطفتين فريدتين من نوعهما.
الأكثر إثارة، اكتشاف أنّ المشاركين الذين أتمّوا دروس الامتنان، بعد أن خضعوا لمسح المخ مرّة أُخرى بعد شهور، وجدوا أنّ الأنماط العصبية المُصاحبة للشعور بالامتنان مازالت موجودة، مقارنة بزملائهم الذين لم يُظهروا أنماطاً عصبية مشابهة.
الدراسة المتعرِّفة على البصمة العصبية للامتنان، أشارت إلى أنّه كلّما أعطيتَ دماغَك الفرصة للتمرين على الشعور بالامتنان، تَكيَّف دماغُك على ذلك، حتى كأنّه يصبح ذا عضلات للشعور بالامتنان يمكنك تمرينها وتقويتها.. وترتيباً على ذلك، كلّما زِدت من مجهودك للشعور بالامتنان في يومٍ ما، جاء ذلك الشعور بعفويّة في المستقبل، وسيكون ذلك عوناً لك في بناء علاقاتك.. وكلّما زاد شعورنا بالامتنان للآخرين، زاد تصرُّفنا بلطف معهم، ممّا ينقل العدوى للآخرين في مجتمعنا، فيشعرون هم أيضاً بذلك.
من هذه الدراسة الميدانية أو البحثية على نطاق محدود ممّن خضعوا للتجربة، يمكن أن نخلص إلى أنّ مشاعر الامتنان التي يعيشها كلُّ واحد منّا لأُناسٍ قدَّموا له مكافآت حياتية عديدة (معنوية أو مادّية) لا تنبت على السطح دائماً، بل إنّ بعضها ينبت في الأعماق أيضاً!
طالب في المرحلة الإعدادية، قَدَّم لأُستاذه في اللغة العربية دفتر مذكّراته ليُدوِّن له بعض كلمات التعاطف معه خلال عام دراسيّ كامل. كتب له أُستاذه مشيداً بجهوده ونشاطه: «إلى طالبي النجيب (فلان).. إلى صاحب اليد التي عَوَّدتني أن ترتفع عند كلّ سؤال..»! ثمّ أصبح طالبُ الإعدادية مع الأيّام كاتباً مرموقاً، وكلّما تَذكَّر كلمات الشُّكر من أُستاذه، شعر أنّه مَدين له لا بتعليمه العربية فقط، بل بتعليمه درساً في الامتنان والعرفان، تتجدَّد مشاعره المتفاعلة معه، وكأنّ تلك الكلمات المَلأى بالعرفان كُتبت الآن، أو قبل قليل.
وليس عجيباً بعد ذلك، أن نسمع في الرواية عن النبيّ (ص) أنّ قول الرجل لامرأته (زوجته): (أُحبّك) لا يمحي من قلبها أبداً! إذ أنّ التعبير عن الحبّ، هو إظهار لمشاعر الشُّكر لإنسان له قيمة في حياتنا، وبفضله اكتسبت واكتست لوناً ونكهة ومعنى آخر.
(الشُّكر) - إذاً - ليس كلمة تُطلق عفوَ الخاطر، أو تقفز إلى اللسان للتعبير العفوي عن الامتنان، هي تفاعلٌ ذاتيّ مع فعلٍ إنسانيّ خارجيّ، ترك بصمته فينا، وأعرَبنا له عن جزيل عرفاننا بجميله، وعن ملازمة شعورنا بلطفه حتى بعد انتهاء لطف قديم قدَّمه لنا على طبق من محبّة!
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق