• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصائم بين جناحي.. الإخلاص والمتابعة

الصائم بين جناحي.. الإخلاص والمتابعة

 أنا الصائم الطائر، أو الطائر الصائم، لي جناحان، لا يمكنني أن أحلق في سماء رمضان إلا بهما.. وبهما معاً، لو فقدت أحد الجناحين لم يغنني الآخر عنه.. ذلك قدري.. كي أعلو وأصل إلى المراد، قال تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا) (النساء/ 125).

فإسلام الوجه إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه متابعة رسوله (ص) وسنته. فمن فقد الإخلاص كان منافقاً، وهم الذين يراؤون الناس، ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً، ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين، الذين يتطلعون إلى أحسن العمل: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك/ 2).

قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وما أصوبه؟ فقال: إنّ العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل. وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، ثمّ قرأ: (.. فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف/ 110).

 

-        صعب وفريد: يبدو لي أن جناح الإخلاص، صعب وفريد، وسر بين العبد وربه؛ حيث قال بعضهم: الإخلاص ألا تطلب على عملك شاهداً غير الله، ولا مجازياً سواه. وأنا أتتبع عملي، أشعر بالخطورة.. هل صُفي عملي من شوب؟ والشوائب كثيرة: إما طلب التزين في قلوب الخلق، وإما طلب مدحهم والهرب من ذمهم، أو طلب تعظيمهم، أو طلب أموالهم أو خدمتهم ومحبتهم، وقضائهم حوائجي. وإذا نظرت إلى حال المشركين تجد لهم صعوداً مؤلماً: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأنعام/ 125). ثمّ ما يلبث أن يكون مصيره الهاوية: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج/ 31). ولا يترك الإنسان العمل لهذه الحجة، وإنما يزن أموره كما يزن جناحه ويتحرى الأمر بدقة..

ومن كلام الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.

 

-        محاسبة النفس: وقبل أن أنطلق بجناح الإخلاص في رمضان؛ حيث الصيام والقيام والذكر وقراءة القرآن والإنفاق وأعمال البر، عليَّ أن أتوقف حتى أخلص بخلاصي من رضاي بعملي، عن طريق: 1- مطالعة عيوبي في العمل وتقصيري فيه، وما فيه من حظ النفس ونصيب الشيطان. لقد سئل النبي (ص) عن التفات الرجل في الصلاة فقال: "إنّما هو إختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". فإذا كان هذا التفات لحظة، فكيف التفات القلب إلى ما سوى الله؟ هو أعظم نصيب الشيطان من العبودية كما يقول ابن القيم في المدارج. 2- علمي ما يستحق الرب جل جلاله من حقوق العبودية وآدابها الظاهرة والباطنة، وأنّ العبد أضعف وأعجز من أن يوفيها حقاً.. ويستحيي من مقابلة الله بعمله.. قال بعضهم: آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور. أمّا جناح المتابعة فهو الهادي.. كيف أصوم، وكيف أصلي، وكيف أعتكف؟

قال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر الرسول (ص).

 

-        السير للأمام: وأنا في الفضاء أرى صائمين يسيرون إلى الأمام بسرعة وثبات إلى الغاية، وهم من حققوا الشرطين، وأرى آخرين انعكس سيرهم إلى خلف.. لإنعدام الشرطين. وآخرين يسيرون سير المقيد والمقعد.. فهم لم يبذلوا جهدهم ويوحدوا طلبهم. وفي الحديث: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وهذا أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث "الأعمال بالنيات" ميزان للأعمال في باطنها. فكما أن كل عمل لا يراد به وجه الله تعالى فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كل عمل لا يكون عليه أمر الله ورسوله فهو مردود على عامله.

وحينما يطير الطائر يجد شيعاً وجماعات متفرقة، تختلف إختلافات كثيرة، وكلا منها يدّعي أنّه الصواب!..

 

-        طريق الحق: والسنّة هي الطريق المسلوكة فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه رسول الله (ص) من الإعتقادات والأعمال والأقوال وهذه هي السنة، (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور/ 54)، أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله وقوله تعالى: "فإن تولوا"، أي: تتولوا عنه، وتتركوا ما جاءكم به، "فإنّما عليه ما حمل"، أي: إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة، "وعليكم ما حملتم"، أي: بقبول ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه.

ارسال التعليق

Top