• ٣ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مسؤولية الإنسان الكبرى

أسرة البلاغ

مسؤولية الإنسان الكبرى

◄- لكلِّ كائن مسؤولية:

نقِّل بصرك في أرجاء هذا الكون الفسيح..

هل ترى من شيء إلّا وله مسؤولية أو عدّة مسؤوليات يمارسها؟

الشمس والقمر مسؤولان عن إنارة الأرض والسماء في النهار وفي الليل.. ولولا هذا السراج وهذا المصباح لغرق الكون في ظلام دامس مخيف.. ولهما أعمال أُخرى..

والليل والنهار مسؤولان في تعاقبهما عن هذا التقسيم الزمني لليوم.. فنهارٌ للنشاط والمعاش وليلٌ للنوم والسبات، ولولا هذا التنظيم الوقتي الدقيق لاختلّ نظام الحياة في نهارٍ طويل لا ليل بعده، أو ليل طويل لا نهار ينسلخ عنه.

وهذه النسائم التي تحلِّق بأجنحتها الرخيّة هنا وهناك.. لو لم تهبّ علينا لتنقل لنا أنفاس الحياة.. لكنّا أصبنا بحالة اختناق لا نجاة منه.

وهذا الماء العذب الرقراق الذي يسيل أنهاراً وينابيع وعيوناً.. فيسقي الزرع ويروي عطش الإنسان والحيوان.. والبحر المالح الذي يحمل على صدره السُّفن والباخرات.. وفي بطنه تعيش ملايين الأسماك..

وهذه الطيور السابحة في الجوّ.. والتي تدرج على الأرض.. والماشية والنحل والنمل، بل حتى الحيوانات المفترسة في الغابة.. كلّ له دوره ووظائفه.

فما بالك بالإنسان وهو أشرف هذه المخلوقات وأكرمها وأعظمها عند الله سبحانه وتعالى؟  

- مسؤولية الإنسان الأولى:

منذ بداية الخلق حدّد الله له مسؤوليته: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة/ 30). ومنذ ذلك الحين عرف الإنسان طبيعة مسؤوليته: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ) (الأحزاب/ 72)، أي حمل مسؤولية إعمار الأرض وفقاً لإرادة الله الذي استخلفه.

الكون كلّه إذاً مسؤول.. من أصغر شيء حتى أكبر شيء فيه، فلا تكاد ترى شيئاً إلّا وله مسؤولية قد تكون معلومة بالنسبة لنا وقد لا تكون.. وإذا كانت الكائنات الأخرى مسيّرة لما خلقت له، أي تمضي في القيام بواجباتها حسب نظام كوني قدّره الله لها، فإنّ الكائن الوحيد المختار ذا الإرادة هو الإنسان.. إنّه – بحسب طبيعة خلقته أيضاً – عليه أن يعمل بمسؤولياته، ويمكّنه أيضاً أن يتخلّى عنها. وعلى حسب اختيار – عملاً وتخلِّياً – تترتّب النتائج فوزاً وخسارةً.

فلقد شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن تكون الحياة الدنيا ورشة عمل كبيرة، وساحة سباق وتنافس في الخيرات: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الملك/ 2). حتى إذا انتهت هذه الرحلة الأرضية منذ أبينا آدم (ع) وحتى آخر مخلوق، أقبلنا على الساحة الثانية (المحشر والقيامة)، التي يعلو فيها النداء: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات/ 24).

هناك تتوالى الأسئلة: ماذا فعلتم بمسؤولياتكم؟ هل أدّيتموها كما يجب؟ لماذا أنجزتم بعضها وأهملتم البعض الآخر؟ هل قمتم بها ابتغاء مرضاة الله أم لأغراض دنيوية وشخصية بحتة؟... إلخ.

وباختصار شديد، فإنّ الله سبحانه وتعالى خلق كلّ مخلوق لغاية معيّنة، ولمسؤولية معيّنة، وقد هداه إلى كيفية ممارستها ضمن ما آتاه من إمكانات تتناسب وأداء هذه المسؤولية. ولا يوجد مخلوق على هذه الأرض لا يعرف ما هي المسؤولية أو المسؤوليات التي خُلِق من أجلها. فالكون الفسيح الذي يحيطنا في أرضه ومائه وسمائه مصمّم على أساس المسؤولية التي تهدف إلى خدمة الإنسان، والإنسان مزوّد بطاقات مسؤولة عن أعمار وإصلاح وازدهار هذا الكون، فلا عبث ولا سُدى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) (المؤمنون/ 115)، (أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى) (القيامة/ 36).

- كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول:

"الراعي" من الرعاية، والرعاية مسؤولية أيضاً، واستخدم النبيّ (ص) المفهومين المتلازمين في حديثٍ واحد، تأكيد لجسامة وأهميّة المسؤولية. والخطاب في الحديث شامل لا استثناء فيه، فالكلّ راعٍ والكلّ مسؤول، والكلِّية واضحة من تكرار كلمة (كلّكم).

إذن، ليس هناك إعفاءات من المسؤولية – إلّا إذا كان الإنسان عاجزاً عن أدائها لسببٍ أو لآخر، وبالتالي فليس الرئيس أو المسؤول في الدولة هو الراعي والمسؤول فقط، بل كلّ مَن يتحمّل مسؤولية نفسه أو رعاية مجموعة من الناس هو مسؤول أيضاً، فالأب والأُم مسؤولان عن رعاية الأُسرة، والمعلِّم مسؤول عن رعاية تلاميذه، والحاكم مسؤول عن رعاية مواطنيه، والقائد مسؤول عن رعاية جنوده، ورئيس الفريق عن رعاية فريقه، وهكذا، بل حتى أعضاء الأُسرة أو الفريق أو المواطنين لهم مسؤولياتهم أيضاً، كلٌّ بحسب (موقعه) وبحسب (كفاءته) وقدراته.

والمسؤولية تُعرّف بأنّها: إناطة عمل بشخصٍ بحيث تقع تبعة ذلك العمل عليه، ويشترط فيها قدرته على (الاختيار) أو (الترك)، أي أنّه حرّ، فلا مسؤولية بدون حرّية. فإذا اختار وتحمّل المسؤولية (الواجب المُلقى على عاتقه والملتزم بتنفيذه)، فإنّه سيكون مسؤولاً أمام مَن كلّفه بالمسؤولية.

وبهذا، فإنّ المسؤولية مسؤوليتان، أو مسؤولية مركّبة:

 (التكليف) + السؤال عن الأداء والالتزام

فإذا كلّفتني بتعليم مجموعة من التلاميذ درساً أو دروساً معيّنة، فإنّ مسؤوليتي هي (تعليمهم) بحسب ما طلبت منِّي، وأنا مستعدّ للإجابة عن أيِّ سؤال تسألني عنه بشأن الصف الذي أعلِّمه، أي أنّ قبولي للمسؤولية يتضمّن استعدادي لتحمّل تبعاتها والنتائج المترتِّبة عليها.

ومرّة أُخرى، فإنّ حديث النبيّ (ص) يضع الجميع في إطار المسؤولية، حتى لا يقول مسلمٌ أو مسلمةٌ: أنا لستُ مسؤولاً.. أبي المسؤول.. أُمّي المسؤولة.. المعلِّم هو المسؤول.. المدير هو المسؤول.. لا، بل كلٌّ يتحمّل قسطه من المسؤولية، فالان والتلميذ والعامل وعضو الفريق له مسؤوليته أيضاً.

وبهذا، لا يمكن رمي الكرة في ملعب الآخر، أو التنصّل من المسؤولية، بحجة أنّ غيري هو المسؤول، لأنّ العمل الذي لا تتحدّد مسؤولية كلّ واحد فيه، سوف يبقى مطروحاً على الأرض، ولا أحد يعيره التفاتة.

ذات مرّة نقلت لنا الكاميرا الخفية مشهداً حيّاً مُعبِّراً، فلقد كان صاحب البرنامج قد وضع في باب أحد البنوك ممسحة أحذية (فرشة صغيرة) مشبّعة بمادّة صمغيّة، فكان كلّ زبون يريد الدخول إلى البنك تعلق أقدامه بالممسحة المطب، وهو يحاول رفع أقدامه عنها وعينه باتِّجاه البنك.

زبائن كثيرون علقوا بالصمغ ولم يرفعوا شكوى ضدّ البنك، أو ضد مَن وضع هذه (العلقة) في باب البنك، غير أنّ زبوناً واحداً تنبّه إليها، فما كان منه إلّا أن ذهبَ وأخبر الشرطي المُكلّف بحراسة البنك ليرفع الممسحة عن طريق الزبائن الشاردي الذِّهن.

كان يمكن أن يعلق هذا الزبون أيضاً ويبقى يعالج الفرشة بقدميه حتى يتخلص منها، وكان يمكن أن يتركها مكانها ليعلق بها آخرون، لكنّه وبوحي من شعوره بالمسؤولية، قرّر إراحة زبائن ذلك البنك برفع الشكوى التي رفعت الممسحة!

مثلنا – في الحياة – كمثل زبائن البنك والممسحة المصمّغة.. المسؤول فينا هو الذي يتوقّف عند (الخطأ) أو (السلبي) فلا يتركه حتى يُرفع عن الطريق.. لأنّه حجر عثرة لا ينبغي أن يعثر به كلّ المارّة، طالما أنّ هناك مَن يشعر بالمسؤولية.

وبالنتيجة، فإنّ المسؤولية في الإسلام (تضامنيّة) من جهة كون الجميع مسؤولين عن القيام بالمهام التي تُمثِّل المصلحة العامّة، وهي (فردية) من جهة محاسبة كلّ فرد على مقدار أدائه وعطائه وتفاعله وتفانيه، أو تقاعسه وتقصيره.

- "الواجب العيني" و"الواجب الكفائي":

إذا قال أب لأُسرته المكوّنة من زوجته وابنه وبنته: إنّ لدينا ضيوفاً اليوم، فأرجو أن تُنظِّفوا البيت وتُهيِّئوه، وتُعدّوا الطعام، وتُرتِّبوا المكان بشكلٍ جيِّد ولائق، فإنّه بذلك يكون قد حمّل كلّ فرد في البيت مسؤولية الاستعداد لضيوفه، فإذا قامت الأُمّ بتنظيف المنزل، وشراء اللوازم، وإعداد الطعام، فإنّ الأب سوف لن يُحاسب أولاده على عدم قيامهما بالتسوّق أو التنظيف؛ لأنّ ذلك قد تحقّق على يدي الأُم التي كفت أبناءهما المهمّة.

هذا (الواجب) أو المسؤولية يُسمّى في الثقافة الإسلامية بـ(الواجب الكفائي)، وإذا قصّر الثلاثة أو بعضهم فأُعِدّ الطعام ولم يُنظّف البيت، أو نُظِّف البيت ولم يُعدّ الطعام، فإنّ الجميع مُحاسَبون.

أمّا إذا سمّى صاحب البيت، فقال: على (أحمد) شراء اللوازم، وعلى (هند) تنظيف المنزل، وعلى زوجته إعداد الطعام، فإنّه قد عيّن لكلٍّ مسؤولية شخصاً يقوم بها، وعلى ضوء قسطه من المسؤولية سيُحاسَب، فإذا قصّر في دوره المحدّد له، فإنّه سيكون المسؤول عنه فقط.

المسؤولية في الإسلام تأخذ أحد هذين الشكلين: إمّا (مسؤوليات عامّة) تقع على عاتق الجميع؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا قامَ بها جماعة كافية من المسلمين وأمّنته، فقد سقط التكليف والمحاسبة عن الآخرين، أمّا إذا لم يتحقّق العدد الكافي القادر على تغطية الحاجة أو سدّها، فإنّ الجميع يتعرّضون للعقاب، والغاية من ذلك هي لئلّا تبقى حاجة من حاجات المسلمين غير ملبّاة، ولا يبقى تكليف مفصلي وضروري بدون إنجاز.

وإمّا (مسؤوليات فردية) يتحمّلها كلّ فرد على حدة؛ كالصلاة والصيام، فكلّ مسلم مسؤول عن صلاته وصومه ولا يُحاسَب المصلّون والصائمون على غير المصلِّين وغير الصائمين إلّا في حدود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وترغيبهم بالعبادتين.

وحتى تتذكّر (الواجب الكفائي) جيِّداً، يجب أن تتذكّر أنّ كلّ عمل فيه خدمة للشعب والوطن والأُمّة (أي للناس)، هو مسؤولية الجميع، وأمّا الواجب العينيّ فهو المختصّ بالواجبات الشخصية.

فإذا شبّ في بيت جاري حريق، فلا ينبغي أن أقول: الحمدُ لله أنّ الحريق في بيت الجار وليس في بيتي، فإنّ المسؤولية تستدعيني أن أساعده في إطفاء الحريق بأيّة صورة ممكنة؛ لأنّني أحملُ في ثقافتي الإسلامية أنّ (مسؤولية) الحفاظ على سلامة جاري كمسؤوليتي في الحفاظ على سلامتي.

وكمثل أوسع، إذا تعرّض وطني (بلادي) للخطر، فإنّني لا يصحّ أن أقول: طالما أنّ الخطر لم يتهدّدني في بيتي فأنا في منأى عنه، إذ لابدّ أن أدفع وأُدافع عنه بما استطعت؛ لأنّ بلادي هي بيتي الكبير، ولأنّه حاضنُ أُسرتي الواسعة.

إنّ اندفاعي لإطفاء الحريق في بيت جاري، أو اندفاعي لإطفاء الحريق الذي تتعرّض له بلادي، هو بعضُ مسؤوليتي كإنسانٍ مسلمٍ لستُ مكلّفاً بالمحافظة على نفسي أقيها الخطر، بل أنا مكلّف ومسؤول عن وقاية أبناء وطني وديني أيضاً.►

ارسال التعليق

Top