◄من وصية الإمام الكاظم (ع): "العقل هو الذي يركّز الإيمان في كيان الإنسان، بلحاظ العناصر التي يمكن لها أن تؤصل شخصيته، وتنفتح به على الله، وتقوده إلى الأخذ بأسباب حركة المسؤولية، فيما يمنحه خيراً ويدفع عنه شراً".
· أصل الإيمان
· جوهر الإيمان
· حصانة الإيمان
· شعار السَّلام
· حقيقة الإيمان
الإيمان يعتبر من جنود العقل، لأنّ العقل هو الذي يركِّز الإيمان في كيان الإنسان، بلحاظ العناصر التي يمكن لها أن تؤصّل شخصيته، وتنفتح به على الله، وتقوده إلى الأخذ بأسباب حركة المسؤولية، فيما يمنحه خيراً ويدفع عنه شراً، وفيما يجعل وجوده وجوداً فاعلاً منتجاً لنفسه وللناس؛ لأنّ الله يريد للإنسان أن يتكامل في حركته في الحياة ليكون عنصراً خيِّراً فاعلاً منتجاً نافعاً لنفسه وللناس في دنياه وآخرته.
أصل الإيمان:
مسألة الإيمان في كتاب الله تعالى وسنة رسوله (ص) وكلمات الأئمة من أهل البيت – عليهم السلام –.
فمن كلمات الإمام علي (ع): "الإيمان شجرةٌ أصلها اليقين"، لأنّ الإيمان الذي يمثِّل انتماء الإنسان خط العبادة والتوحيد، لابدّ من أن ينطلق من المعرفة اليقينية؛ لأنّه لا معنى للإيمان مع الشك. ومن الطبيعي أن يسبق اليقين الإيمان أو ينتجه، إذا كان منطلقاً من المعرفة الثقافية لكلِّ عناصر الإيمان؛ فيعرف الإنسان ربه في مواقع ربوبيته، من خلال معرفته بأسرار عظمته وفيوضات نعمته، فيدفعه ذلك إلى أن يؤمن به، ويتحوّل هذا الإيمان إلى حركة عبادة وحركة طاعة، كما ينطلق ليتعرّف العناصر الإيمانيّة التي تتمثّل في النبوّة وما يتفرّع عنها، وفي كلِّ ما بلّغه النبيّ (ص) من وحي الله للناس، وبكلِّ ما يقبل عليه الإنسان في اليوم الآخر.
"وفرعها التُقى"؛ لأنّ الإنسان إذا حصل لديه اليقين بالله الذي ينتج الإيمان، فمن الطبيعي أن ينتج التقى، وهو الالتزام بعبادة الله وحده وبطاعته وحده، فإنّ ذلك هو الذي يتفرع عن هذه الشجرة.
"ونورها الحياء"؛ لأنّ الحياء عندما ينطلق الإيمان في مواقعه، فإنّه يمثل النور الذي يستنير به الناس.
"وثمرها السخاء"، لأنّ الإنسان إذا آمن بالله، وآمن بأنّ الله هو الذي يرزقه، عليه أن ينفق مما يرزقه الله، كما قال تعالى: (آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ) (الحديد/ 7).
وعن الإمام عليّ (ع): "أصل الإيمان حُسن التسليم لأمر الله"، لأنّ الإيمان يمثِّل الاعتقاد بأنّ الله هو سرّ الوجود، وهو سرّ الحياة، وهو سرّ الإنسان في كلِّ مفاصل حياته، ومن الطبيعي أن يسلم أمره لله، وأن يثق بأنّه سبحانه وتعالى هو الذي يرعاه ويحميه، ويحرّك له حياته كلّها، فيعيش الثقة المطلقة به سبحانه وتعالى، وبذلك لابدّ من أن يسلم أمره، في حياته وأوضاعه كلّها، لله.
جوهر الإيمان:
وعن رسول الله (ص): "ليس الإيمان بالتحليّ ولا بالتمنيّ"، فالإيمان ليس مجرّد شكلٍ يزيِّن الإنسان، أو مجرد حالة نفسية تعيش على سطح ذاته ومشاعره، وليس هو مجرد تمنيات تضيع في الهواء، "ولكن الإيمان ما خلص في القلب"، وذلك بأن يكون الإيمان عنصراً ثقافياً نفسياً روحياً في أعماق القلب، بما يمثّله القلب من معنى منطقة الوعي الداخلي الذي يمتزج فيه العقل بالإحساس والشعور، "وصدَّقه الأعمال"[1]، فإنّ الإيمان ليس مجرد نبضة في القلب، ولا مجرّد فكرة في العقل، ولكن الإيمان حركة في العمل؛ لأنّه لا معنى معنى لأن تكون مؤمناً بالله وأنت تعصيه، ولا تلتزم بأوامره ونواهيه، كما قال ذلك الشاعر:
تعصي الإلهَ وأنت تظهر حبَّه
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتهُ
هذا لعمركَ في الفعال بديعُ
إنّ المحبَّ لمن يحبُّ مطيعُ
وعن رسول الله (ص) في هذا المعنى، وبشيء من التفصيل: "الإيمان معرفة بالقلب، وقول باللسان"، أن تشهد الشهادتين وتعلن إيمانك: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 64)، (وَأُمِرْتُ لأنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) (الزمر/ 12)، (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (البقرة/ 131)، "وعمل بالأركان"، أي الأعضاء، وذلك في ما أمر الله به الإنسان من خلال وحيه، بأن يتحوّل كلّ جسده ليعمل بما أمر الله به، ويترك ما نهى عنه، سواء في جانب العبادة، أو في الجوانب الأخرى.
وقد ورد عن رسول الله (ص) أيضاً بتعبير آخر في ما روي عنه: "الإيمان قولٌ مقول"، أي كلمة يقولها الإنسان، "وعمل معمول"، عمل يعمله الإنسان "وعرفان العقول"، أن تكون العقول منفتحة على المعرفة بكلِّ عناصر الإيمان.
وعن رسول الله (ص) أيضاً: "الإيمان بالقلب واللسان، والهجرة بالنفس والمال". "والهجرة بالمال"[2]، بأن يبذل ماله في السبيل الذي أراد الله له أن ينفقه.
ويقرب من هذا المعنى، ما ورد عن الإمام عليّ (ع): "الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان". وكذلك ما ورد عن الإمام الرضا (ع)؛ لأنّ كلامهم واحد في معناه، وإن اختلف في مبناه أو في شكله: "الإيمان عقد بالقلب"، أن تعقد قلبك وتلزمه بمعاني الإيمان، "ولفظ باللسان، وعمل بالجوارح"[3].
حصانة الإيمان:
وفي الحديث عن آثار الإيمان، يُروى عن رسول الله (ص) أنّه قال: "الإيمان عفيف عن المحارم". من آثار الإيمان، خوف الإنسان من ربه، وحبه له، وإخلاصه له، وهذا ما يشكّل الأساس لابتعاده عن ارتكاب ما حرَّم الله، فيكون بذلك عفيفاً عن المحارم، "عفيفٌ عن المطامع"[4]، لأنّ الإنسان المؤمن هو الذي يتميز بالقناعة، لأنّ المطامع ربما تسير به إلى الكثير مما حرمه الله، ومما لا يرضاه سبحانه وتعالى.
وعن رسول الله (ص): "الإيمان؛ الصبر والسماحة"؛ إذ أراد الله سبحانه تعالى للإنسان أن يصبر على بلائه، وأن يصبر على طاعته، وأن يصبر عن معصيته، كما أراد سبحانه للمؤمن أن يواجه بلاء الدنيا ومشاكلها بالصبر، كما في قوله تعالى – على لسان لقمان لابنه –: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (لقمان/ 17)، وقوله عزّ وجلّ: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157)، وفي آية أخرى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (آل عمران/ 186). وقد ورد في الحديث، أنّ "الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس معه، لا خير في إيمان لا صبر معه"؛ لأنّ ما كلَّف الله به الإنسان، ربما يكلّفه جهداً كبيراً ومشقّة، وكذلك تمرداً على شهواته وغرائزه، فإذا كان الإنسان مؤمناً، فلابدّ من أن يصبر، كما جاء عن الإمام الباقر (ع): "كلُّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك الله".
والإيمان يمثل السماحة؛ فالإنسان الذي يعيش السماحة في علاقته بالناس، وينفتح عليهم، ويعيش معهم بالخير والمحبة، ويسامح ويعفو عمّن أساء إليه، يمثل أرقى حالة إيمانية.
وفي كلمة ثالثة للرسول (ص) يقول: "الإيمان نصفان: نصف في الصبر، ونصف في الشكر"، فالإنسان إذا كان مؤمناً، فإنّ الإيمان يفرض عليه أن يصبر على كلِّ المسؤوليات التي حمّله الله إياها، سواء في عباداته، أو في معاملاته، أو في المحرمات أو الواجبات، وإذا كان مؤمناً، فإنّه يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أنعم عليه.
ونظير هذا المعنى، ما ورد عن الإمام عليّ (ع)، تلميذ رسول الله: "الإيمان صبر في البلاء، وشكر في الرخاء".
وعن الإمام عليّ (ع): "الإيمان إخلاص العمل". فمن خصائص الإيمان، أن يوحّد الإنسان ربّه في الطاعة، فلا يُشرك غيره بعبادته، وبذلك، فإنّ الإيمان لا ينسجم مع الرياء والسُّمعة، وغيرهما من العناصر السلبية في قيمة العمل، سواء في ميزان التوحيد الخالص لله، أو في ما جعله الله ميزاناً في ما رَوي من الحديث القدسيّ القائل: (أنا خير شريك، من عمل لي ولغيري جعلتُه لغيري). وقد قال الله سبحانه وتعالى عن الذين يراؤون: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون/ 4-7)، الذين يصلّون ويصومون ويعبدون الله ليراهم الناس ويمدحوهم على ذلك.
وعنه (ع): "رأس الإيمان الصدق"[5]، لأنّ الله سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يكون صادقاً في كلِّ أموره. وقد تحدث الله سبحانه عن السائرين في خط الإيمان: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) (الزمر/ 33)، فلا يكون الصدقُ مجرّد شعارٍ يرفعه، بل يمثّل قناعةً نفسيّة راسخة في النفس، لا يتحدّث الإنسان من خلالها إلا بالصدقِ الذي يؤمن به ويصدّقه.
ونقل عن الإمام الصادق (ع) أنّ "من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقّ وإن ضرك، على الباطل وإن نفعك"[6]. فإذا كان الموقف موقف إعلانٍ للحقِّ، وتبليغه بما تفرضه عليك مسؤوليتك في ذلك، فإنّك إذا كنت مؤمناً، فعليك أن تقول الحقَّ، لأنّ الإيمان يعني الارتباط بالحقِّ، وأن تؤثره على النفع الذي قد يحصل لك من خلال الباطل؛ لأنّ الإنسان المؤمن لا يتحرك من خلال النفع الشخصي أو من خلال الضرر الشخصي، وإنما ينطلق من خلال مبادئه، ومن خلال التزاماته، ومن خلال مسؤولياته. إنّ الإيمان عبارة عن الارتباط بالحقِّ في مواقع الحقِّ كلّها، والرفض للباطل في مواقع الباطل كلّها، وقد قال تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء/ 81).
شعار السَّلام:
وعن رسول الله (ص): "ثلاث من الإيمان"، لأنّ الإيمان هو الذي يحدد لك مسارك، فيحسّن لك الحسن، ويحرك طاقاتك في اتجاه الخصال الخيِّرة: "الإنفاق في الإقتار"، بأن تنفق وأنت تعيش الضيق في ما تملكه من مال، على قاعدة قوله تعالى: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9)؛ إذ إنّ الإيمان يحدّثك عن قيمة الإنفاق في ما يحبه الله من ذلك، ويقول لك: أنفق من مالك حتى لو كنت في ضيق من رزقك، ولكن بمقدار ما تستطيع. أن تكون لديك روح الإنفاق في سبيل الله، وابتغاء وجهه، لأنّ ذلك يمثل الإخلاص لله.
"وبذل السلام للعالم"[7]، وهذه الكلمة يمكن أن تفسر بمعنى تحية السلام؛ التي شرّعها الإسلام، لتكون عبارة عن إعلان للشخص الذي تلتقيه، بأنّ علاقتك به هي علاقة سلام، وليست علاقة بغض أو عداوة. ومن هنا، رأينا أنّ الله سبحانه وتعالى جعل للسلام أجراً كبيراً، وذلك كما ورد عن لسان الإمام الحسين (ع): "السلام سبعون حسنة؛ تسع وستون للمبتدئ، وواحدة للراد، وإن أحسن فعشر"[8]. كما جعل الله السلام تحية أهل الجنة، فقال تعالى: (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) (يونس/ 10)، وكذلك جعلها تحية الملائكة، وذلك هو قوله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد/ 23-24)، فإنّ الملائكة عندما يدخلون على هذه الأسرة التي كانت أسرة صالحة في الدنيا، وقد أعطاها الله موقع الكرامة في الآخرة، يبادرون أفرادها بالسلام.
وتحيّة السلام هي تحية الإسلام التي ينبغي للمسلمين أن يأخذوا بها، خصوصاً أنّ هذه التحيّة أصبحت أشبه بالهوية للإنسان المسلم. ولذلك نجد أنّ غير المسلمين من أتباع الديانات الأخرى، لا يطلقون السلام في تحيتهم للآخرين، وإنما يختارون تحية أخرى، مع كونها من أفضل الكلمات إنسانية في معانيها النفسية والاجتماعية؛ لأنّهم يعتبرون أنّ كلمة السلام توحي بأنّ الذي أطلقها هو إنسان مسلم، وهم لا يريدون أن يظهروا أنفسهم بمظهر من يلتزم بالإسلام.
"والإنصاف من نفسك"، إنصاف الناس من نفسك، يعني أنّه إذا كان لإنسان عليك حقّ، فعليك أن تعترف به له، وإذا كان لإنسان عليك مال، فعليك أن تعترف به، كي لا تلجئ الناس الذين لهم عليك حقّ إلى أن يرفعوا أمورهم إلى القضاء، وأن يقيموا الدعوى عليك لتحصيل حقوقهم، أو إلى أن يأتوا بالشهود، وما إلى ذلك. فإذا كنت تؤمن بالحقِّ من خلال الإيمان الذي يعيش في شخصيتك، فإنّ من ذلك أن تنصف الناس من نفسك.
وعن الإمام الصادق (ع) أنّه قال: "أتى رجل رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، إني جئتك أبايعك على الإسلام" أيّ: أنا أريد أن أكون مسلماً، "فقال له رسول الله: أبايعك على أن تقتل أباك؟"؛ لأنّ الإسلام هو أن تسلم أمرك لله كلّه، حتى في ما لا ينسجم مع عاطفتك وإحساسك، ومع انتمائك الشعوري والنسبي. والمعنى العام لقول النبيّ (ص)، أنّه لو كان أبوك كافراً وأمرتك بقتله، فهل أنت مستعدٌّ أن تقتله؟ "قال: نعم"؛ لأنّ الإسلام يعني أني أسلمت أمري لله، ومن خلال كونك رسول الله، فإني أسلمت أمري إليك في طاعة الله، "فقال له رسول الله (ص): إنّا والله لا نأمركم بقتل آبائكم، ولكن الآن علمت منك حقيقة الإيمان"، بمعنى أن تكون مستعداً لفعل كلّ ما أمرك الله به، وترك كلّ ما نهاك الله عنه، "وأنك لن تتخذ من دون الله وليجة"[9]، أي أنّك لن تسير في أيِّ موقع من المواقع على خلاف ما أمر الله.
حقيقة الإيمان:
وعن الصادق (ع): "لقي رسول الله يوماً حارثة" – وهو اسم شخص – "فقال له: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت يا رسول الله مؤمناً حقاً" من المؤمنين الذين يلتزمون الإيمان بكلِّ عمق وبكل دقة، "قال (ص): إنّ لكلِّ إيمان حقيقة"، أي أنّ للإيمان جذوراً والتزامات، "فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا"، فالدنيا لا تمثل لي خياراً، بحيث تحرفني عن مسؤولياتي الشرعية، فإذا وقفت بين الدنيا، في كلِّ شهواتها ورغباتها وأطماعها، وبين المسؤوليات الشرعية التي كلفني الله بها، فأنا أترك الدنيا وألتزم بمسؤولياتي، "وأسهرت ليلي" في عبادة الله، "وأظمأت نهاري"[10] في الصوم قربةً إلى الله تعالى. وبمعنى آخر، أنا ألتزم بكلِّ ما أراد الله لي أن ألتزمه.
وعن الإمام الباقر (ع)، "بينا رسول الله في بعض أسفاره، إذ لقيه ركب" – قافلة من الناس – "فقالوا: السلام عليك يا رسول الله، فقال (ص): ما أنتم؟" ما هي صفتكم؟ ما هو انتماؤكم؟ "قالوا نحن مؤمنون، قال: فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا: الرضا بقضاء الله"، فكلّ ما قضى الله به علينا نعيش الرضا به، "والتسليم لأمر الله"، فكلّ ما يوقعه الله علينا من أمره نسلِّم به، "والتفويض إلى الله تعالى"، على قاعدة قوله تعالى: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر/ 44)، فنحن نفوّض كلّ أمورنا إلى الله، وتفويض الأمر إلى الله، هو السير في طاعته، والتحرك في خطّه المستقيم في كلِّ أمور الإنسان – "فقال (ص): علماء حكماء"؛ فإنّ الذين يكفِّرون بهذه الطريقة، ووصل إيمانهم إلى هذه الدرجة، هم حكماء، والحكمة هي وضع الشيء في مواضعه، وإدراك عمق الأمور "كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء"؛ لأنّ من يصل بالحكمة إلى هذه الدرجة، يكاد يكون من الحكمة نبياً، "فإن كنتم صادقين، فلا تبنوا ما لا تسكنون"، أي أن تأخذوا من الدنيا حاجاتكم، وأن لا تتجاوزوها إلى ما ليس لكم حاجة فيه، "ولا تجمعوا ما لا تأكلون"، كما ورد في الدعاء المأثور: "اللّهمّ اجعل رزق آل محمدٍ الكفاف"، "واتقوا الله الذي إليه ترجعون"[11]، وذلك بأن تحسبوا حساب الله في أعمالكم كلّها، وفي أموركم كلّها.
الهوامش:
[1]- الكافي، ج2، ص34، ح1.
[2]- الكافي، ج2، ص39، ح7.
[3]- الكافي، ج2، ص27، ح1.
[4]- نفسه، ج8، ص101، ح72.
[5]- نهج البلاغة، الكلام القصار.
[6]- البحار، ج56، ص91، ح3.
[7]- الكافي، ج1، ص404، ح3.
[8]- البحار، ج76، ص11، ح46.
[9]- البحار، ج15، ص239، ح57.
[10]- الكافي، ج2، ص54، ح3.
[11]- الكافي، ج2، خ52، ح1.
المصدر: كتاب الندوة/ السلسلة (15)
ارسال التعليق