• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العلاقة بين الجنسين من خلال سورة يوسف (ع)

أسرة البلاغ

العلاقة بين الجنسين من خلال سورة يوسف (ع)

تشغلنا – نحن الشباب – صورة (يوسف) الشاب الجميل.. فنحن نتأمّل ملامح وجهه الذي يشعّ حسناً وبهاءً في مرايا أخيلتنا، ولم نلتفت إلّا نادراً إلى صورة جماله الروحي في وداعته وصفاء سريرته ونبل أخلاقه وجمال عفافه.

فحتى يوسف نفسه لم يتوقّف عند جماله الظاهريّ الباهر، فلا نراه معجباً بشكله أو يعتبره قيمة بحدّ ذاته، ولم يدفعه جماله إلى الإحساس في أنّه مرغوب تتهافت قلوب الحسان عليه فينساق مع جاذبيته الجسدية لينجذب إلى الجنس الآخر فيخوض في وحول المعصية، بل كان يركِّز على جاذبيته الداخلية الروحية والأخلاقية والسلوكية، وهكذا وصفه القرآن: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) (يوسف/ 46)، (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف/ 36).

(سورة يوسف) تقدّم للشباب وللفتيات صورة شاب اعترضت المعصية طريقه حتى كادت أن تسدّ عليه الطريق.. فأزاحها عن طريقه.. لم ير وجه المعصية الماثل أمامه.. رأى وجه ربّه في طاعته ورضاه.

هناك امرأة جميلة في كامل زينتها تدعوهُ لممارسة الفاحشة معها فيأبى ذلك ويستعصم رغم ما لديه من مَيْلٍ جسدي كشاب في مطلع شبابه، لكنّه ربّما دخل في اللحظة الحرجة في عملية مقارنة خاطفة بين ما يمكن أن يجنيه من نزوة طارئة ولذّة عابرة، وبين ما يمكن أن يحصل عليه من نعيم خالد وسعادة أبدية يجلّلها رضوان الله وحبّه.

يوسف في موقفه هذا يقول لكلّ شاب مؤمن أنّ السكرة يجب أن لا تغلب الفكرة: لذّة مؤقّتة سرعان ما تنطفئ وتتبخّر، يعقبها عذاب أليم.. ورضا شخصي ظاهري مؤقّت ومحدود يأتي بعده سخط الله. فكيف يكون الأنس بما هو عذاب؟ والفرح بما هو غضب؟ إنّه الترجيح بين (نشوة الجسد) وبين (نشوة الروح).

يوسف (ع) اختار الثانية.

اختار أن لا يدنِّس طهر روحه، ولا يلوّثه بالعهر والفجور والخيانة (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ) (يوسف/ 23)

 

وسائل الإغراء:

قصة يوسف ليست مجرد قصّة تأريخية وقعت مرّة واحدة وانتهى الأمر.. نعم، هي قصة لها ظروفها وملابساتها الخاصّة، لكنّ فحواها يتكرّر.. فكم من فتاة أغوت فتى، وكم من شابّة استدرجت شابّاً، وكم من إمرأة أوقعت رجلاً في شباكها؟ فمنهم مَن لبّى واستجاب فحصد الإثم والعذاب، ومنهم من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى. ولقد ورد في بعض الأحاديث أنّ من بين من يظلّهم الله في عرشه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه شاب دعته امرأة إلى ارتكاب الفاحشة فأبى واستعصم.

والعكس يقع أيضاً، فكم من شاب حاول إغراء فتاة بمختلف الأساليب، ليجرّها إلى أجواء المعصية أو مستنقع الفاحشة؟

هنا، نحن أمام حالة الإغراء التي تواجه الشبان في حياة تكثر فيها صور الإغراء وتتسع مساحته. وهناك من يقول – كما هو رأي بعض الغربيين – "أفضل طريقة لمواجهة الإغراء هو أن تستجيب له".

وهي نظرة مادِّية بحتة تقول للشاب الجائع: كُلْ كلّ شيء حتى الممنوع، وللشاب العطشان: إشرب كلّ شيء حتى المحرّم، فهي تعلِّمه كيف يستجيب لشهوته دون النظر إلى الوسيلة التي تشبع بها تلك الشهوة، ودون حساب لما يترتب على انكبابه وتهافته على شهواته من تحطّم شخصيته وانسحاق إرادته أمام اللذّة. جاء في الحديث الشريف: "لا ينبغي أن يكون للمؤمن حاجة تذلّه".

وقد يؤدِّي إشباع شهوة دون تفكّر والتزام إلى حرمان الإنسان من نعم كثيرة أو الابتلاء ببلاء أو مرض أو مشاكل مستعصية، وقد قيل: "وكم من شهوةٍ أورثت ندماً كثيراً".

يوسف (ع) يقول لنا كشباب: إنّ مواجهة الإغراء صعبة لا يفلت من قبضتها إلّا مَن بنى شخصيته الإيمانية بناءً واعياً ورصيناً بحيث يتدبّر عاقبة الأمر، فإن كان رشداً أمضاه وإن كان غياً انتهى عنه. ولم يكن الله سبحانه وتعالى ليطلب منّا أن نتأسّى بيوسف لو كان التأسّي به مستحيلاً (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) (البقرة/ 286).

فكيف إذاً نواجه الإغراء؟

المواجهة تتمّ بأحد أمرين:

-         الابتعاد – مهما أمكن – عن الأجواء المشحونة بالإغواء، المغرية بالمعصية، المشجّعة على الوقوع في مستنقع الرذيلة. ورد في الحديث: "الشبهات حمى الله ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه".

-         وإذا حاصرتنا تلك الأجواء، فإنّنا نهرب منها إلى الله، فهو ملاذنا الآمن، تماماً كما فعل يوسف (ع). والهروب إلى الله يتمّ بمعرفته ومخافته وطاعته ورجائه والثقة به والتوكل عليه.

فـ(يوسف) هذا الشاب (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) (يوسف/ 22)، والأشدّ استكمال القوّة الجسدية والعقلية، يواجه الإغراء المحموم في سنٍّ تفتح غريزته وشهوته باللجوء إلى الله (لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (يوسف/ 24)، بتدبّر عاقبة الإقدام على الفحشاء (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف/ 201).

فالمؤمن الصادق الإيمان قد ترتسم غشاوة أمام عينيه، لكنّه بخلاف غيره من المستجيبين استجابة عمياء للإغراء ونداء المعصية، سرعان ما يزيح تلك الغشاوة عن عينيه ليعود بصره حادّاً يرى الأشياء بأحجامها رؤية واضحة.

واللجوء إلى الله في مثل هذه المواقف لجوء إلى ركن وثيق (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) (يوسف/ 24). وهذا كلّه يجري ضمن معادلة (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11).

ابتعد عن الفحشاء والمنكر متراً يبعدك الله عنه ميلاً.. صن نفسك من الحرام في لحظة الإغراء، يَزِدِ الله في صبرك وصلابتك ومقاومتك وممانعتك بما لا تحتسب به.. إهرب إليه يحتضنك ويرعَك.. استعن به في المواقف الحرجة يمددك بعونه ولطفه.. إتّقه يجعل لك مخرجاً.

ولهذا يرى بعض المفسِّرين لقوله تعالى: (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ) أنّ الصّرف عن السُّوء والفحشاء ليس أمراً بعيداً عن حرِّية الإرادة والاختيار. فالله تعالى لم يجبر (يوسف) على الابتعاد عن المعصية، بل أثار أمامه الأفكار التي تبعده عنها بشكل تلقائي، وهي الالتزام بشريعته والانسجام مع خطوط هذه الشريعة.

وثمّة سؤال مهم: لماذا فضّل (يوسف) السجن على ارتكاب الفاحشة (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) (يوسف/ 33)؟

إنّ ارتكاب الفاحشة، والاستجابة للإغراء، وممارسة الجنس بشكل محرّم، يمكن أن يمثِّل عند بعض الشبّان والفتيات نوعاً من أنواع الحرِّيّة. والسجن كما هو معروف حجز وحجب لتلك الحرِّيّة. لكنّ (يوسف) كما يرى بعض المفسِّرين يوازن بين حرِّيّة الجسد في خط الشيطان وحرِّيّة الروح في خط الرحمن، فيختار الثانية لأنّها أحبّ إليه، بما يحمل في داخله من معرفة بالله وبالشيطان، وبالحلال وبالحرام، وبالاستقامة وبالانحراف.

متى يكون (السجن) أحبّ إلينا من (الحرِّيّة)؟

عندما تأسرنا الحرِّيّة لتحيلنا إلى عبيد لشهواتنا المحرّمة وغرائزنا المنفلتة ونزواتنا الطائشة، وإذ ذاك لا تكون حرِّية وإنما قيد يكبّلنا ويشلّ إرادتنا ويسحق شخصيتنا بأقدام الذلّ. ورد في الحديث: "فوّض الله للمؤمن أموره كلّها إلّا أن يكون ذليلاً".

وباختصار، فإنّ المقاومة للإغراء لا تأتي إلّا من خلال بناء متين للمحتوى الداخلي لشخصية الشاب أو الفتاة، أي أنّها تأتي نتيجة خطّة تربوية إيمانية متكاملة. من خلال الالتزام بالصّلاة والصِّيام وغيرهما من الفروض الدينية، وكذلك قراءة القرآن والدعاء وذكر الله على أيِّ حال، فإنّ هذه جميعاً تنمِّي في الإنسان الإيمان وتقوِّي إرادته في مواجهة الشيطان، قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45).

فعملية الرّفض كانت دائماً نتاج روح عتيدة وأبيّة يراقب فيها العبد ربّه، ويتمرّد معها على النوازع الذاتية، والعوامل الخارجية التي تريد أن تحرفه عن الخط المستقيم.

(إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) (فاطر/ 6).

(إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء/ 76).

(لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (النور/ 21).

(إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف/ 5).

 

هل المقاومة وحدها كافية؟

قد يقول شاب يعيش الإغراء المعاصر والمحاصر بكلِّ ألوانه وأشكاله إنّ (يوسف) إذا كان محاصَراً بإغراء (زليخا)، فإنّنا اليوم محاصرون بإغراء أكثر من زليخا، فإلى أين المهرب؟ وما هو السبيل إلى النجاة؟

دعونا إذاً نتّجه إلى (سورة النور) فهي تتكفّل الإجابة عن هذا السؤال.

فمن الخطأ أن نتصوّر أنّ هذه السورة توجه خطابها إلى الفتيات فقط، فهي واضحة وصريحة في توجيه الخطاب للجنسين معاً: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) (النور/ 2)، وتوقع العقاب عليهما معاً: (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) (النور/ 2).

إنّ أهمية (سورة النور) تتجلّى فيما تدعو إليه من تهيئة الأجواء الطاهرة والأرضية الصالحة التي تحول دون الوقوع في الانحراف، أي أنّها تعمل على زرع مناعة داخلية في نفس الشاب والفتاة.. إنّها سورة التطعيم ضدّ الفحشاء.

 

1-   النّظر والسّتر:

قال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (النور/ 30-31).

هذا إجراء احترازي للحفاظ على أجواء العفّة والحشمة في المجتمع المسلم، وهو إجراء يضع المسؤولية على عاتق الجنسين معاً، فالستر هو مسؤولية الفتاة أو المرأة المسلمة في المقام الأوّل، وغض البصر هو مسؤولية الفتى أو الرجل المسلم بالدرجة الأولى.

فإظهار الفتاة أو المرأة زينتها، وخروجها بالملابس المثيرة التي تكشف أو تصف بعض أجزاء جسدها كالذراعين والساقين والعنق والرّأس والصّدر يخلق حالة من إثارة غرائز الشبّان والرّجال مما قد يدفعهم إلى ارتكاب جرائم أخلاقية ربّما لم تكن لترتكب لو أنّ الفتاة أو المرأة المسلمة التزمت الستر الشرعيّ. ولذلك حدّد الله – وهو الخبير بما يصلح الجنسين ويفسدهما – إبداء الزينة في حدود العلاقة الشرعية (الزواج) فقط (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ) (النور/ 31). وفيما سمح به منها لغير الأزواج: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور/ 31)، في الوجه والكفّين.

وقد جاء قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (النور/ 31)، للتأكيد على أنّ الصّدر منطقة مثيرة جنسياً، وأي كشف لها يهيج غريزة الناظر، فلابدّ من ستره، لا بتغطيته فحسب بل واجتناب الملابس التي تبرز ملامحه، فربّ تورية أبلَغ من تصريح.

وكما حذّر المشرّع الإسلامي من عامل آخر من عوامل الإثارة هو ترقيق الصوت الأنثوي وتنعيمه بحيث يستثير غريزة السامع من الشبان والرجال بما يحمله من إيحاء جنسي (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الأحزاب/ 32)، نراهُ هنا يُحذِّر من الأصوات المنبعثة من الخلخال والعقد والأساور والأقراط لأنّها تلفت النظر إلى مواضعهنّ من جسم المرأة وليس فقط بما يبعثن من أصوات موسيقية تجتذب السّمع. فكما أراد هناك إنقاذ النظر ووقايته أراد هنا إنقاذ السّمع ووقايته على اعتبار أنّهما نافذتان تطلّان بشكل مباشر على فِناء[1] الغريزة. (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) (النور/ 31).

 

2-   الاستئذان:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (النور/ 27-28).

أدّب الإسلام أبناءه، على رعاية وحفظ كراماتهم وحرّياتهم، كما حثّ على الالتزام بالأخلاق واللّياقات الاجتماعية التي تنظِّم أوضاع الناس وطريقة تعاملهم مع بعض. والبيوت بما تمثِّل من الأماكن الآمنة التي يجد فيها أهلها حرِّيّتهم، لها حرمتها. فمن عادة الزوجة أو الزوج أن يتخففا من ملابسهما، وأن تظهر المرأة بزينتها، وقد تأخذ جلستهما أو منامهما أوضاعاً معيّنة، كما أنّ البنات يكنّ عادة سافرات ويرتدين ما لا يرتدينه في حال خروجهنّ، فأيّ اختراق لهذا الجوّ الحرّ دون استئذان، يوقع نظرات الداخل على ما لا يريد أهل الدار أن يطّلع عليه.

ولذلك فالاستئذان إشارة وتنبيه إلى سكّان البيت أن حتشموا أو استتروا، وهو إجراء احترازي آخر لضمان العفّة داخل البيوت كما هي الحاجة لضمانها خارج البيوت.

والاستئذان ليس فقط من قبل الداخل الغريب أو الأجنبي الذي لا يحلّ له الإطلاع على عورات البيوت، بل تشير آيات أخرى في (سورة النور) إلى ضرورة استئذان الخادم أو الخادمة أو المربية والأطفال المميزين في حال الدخول إلى غرف النوم التي تمثل فرص الخلوة بين الجنسين، فلا يجوز اعتبار هؤلاء من أصحاب الدار وعدم التحفّظ نتيجة لهذا الإحساس الخاطئ.

 

3-   حفظ الفروج:

(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) (النور/ 30)، (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) (النور/ 31)،.

المقصود هنا هو حفظ الفروج من الزِّنا، أي من العلاقة الجنسية المحرّمة. فلقد أراد الله تعالى للعلاقة الجنسية أن تتم في إطار العلاقة الزوجية، وحرّم أيّة علاقة خارج هذا الإطار. وقوله تعالى: (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) (النور/ 30)، تبيان للغرض من هذا التشريع، أي أنّ المراد هو تحقيق أكبر قدر ممكن من العفاف والطهارة الجسدية والأخلاقية.

ونظراً إلى خطورة هذا الخرق الفاضح، وحفاظاً على أجواء العفّة في المجتمع، نرى أنّ الله سبحانه وتعالى يطالب بمعاقبة الزانية والزاني عقاباً شديداً لا رأفة فيه (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 2)، ليرتدع الزناة من تكرار الفعل الشنيع مستقبلاً، ولتتعظ الطائفة من المؤمنين.

واعتبر القرآن الزِّنا حالة شذوذ جنسي لا يمارسها إلّا الذين عُرِفوا بالزِّنا والمشركون من الناس، أمّا المؤمنون فلا يقربون هذه الفاحشة، أو هكذا يفترض بهم إيمانهم الذي يريد لهم علاقات جنسية نظيفة (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (النور/ 3).

فكما حرّم الإسلام الدم والميتة ولحم الخنزير والخمر والميْسر، واعتبر ذلك رجساً من عمل الشيطان ودعا إلى اجتنابه، كذلك حرّم الزِّنا كعلاقة غير شرعية سواء في بدايتها وما يمهد لها من مقدّمات الانحراف، أو أثناء سيرها في المعاشرة المحرّمة، وحتى في نهايتها مما قد يترتّب على نتائجها من أولاد الزنا.

فالشرع في الإسلام هو الحاكم وليس الحالة المزاجية أو التقدير الذاتي للأشياء، وهو إذ يتدخّل لمنع الفساد أو الفواحش ما ظهر منها وما بطن، لا يحدّ ولا يقلّص ولا يصادر حرِّيّة الإنسان، إنما يضعها في المكان الصحيح الذي لا يجعلها سائبة أو منفلتة أو فوضوية. إنّه يرخي لها العنان حتى إذا أرادت اقتحام المناطق المحرّمة سحبها أو جذبها إلى المناطق المحلّلة (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا) (البقرة/ 187). فالزِّنا إرباك للعلاقات أبوّة وبنوّة وأمومة وأنساباً.

فالتشريع الإسلامي يحاول إغلاق كلّ المنافذ التي يتسرّب أو يتسلّل الشيطان منها، ويمنع الميكروبات التي تلوّث أجواء العفّة بين الجنسين. فيتحدّث عن حالة الفتيات الصالحات اللواتي يرفضن أيّة علاقة جنسية مشبوهة أو منحرفة ويأبين إلّا أن يعملن بما أراده الله لهنّ، لكن آباءهنّ وأُمّهاتهنّ وربّما إخواتهنّ أحياناً يجبرونهنّ على خلع ثوب العفاف ابتغاء مكاسب مالية أو دنيوية منحطّة، فبدلاً من أن يكونوا المعينين على زيادة إيمان بناتهنّ بضرورة الستر والعفاف وحفظ فروجهنّ، إذا بهم يدفعونهنّ دفعاً إلى أحضان الرذيلة وهتك أستار العفّة. وهذا ما قد نلاحظه في زجّهنّ بالأجواء المتفسّخة حتى تقع عليهنّ مزايدات المزايدين من تجّار اللّحوم البشرية.

وقد لا يجد الشاب أو الفتاة الفرصة المناسبة للزواج، فماذا يصنعان في هذه الحالة؟

من هنا أيضاً جاء النهي عن إكراه الفتيات المتحصِّنات بالعفّة والاحتشام، وسلوك الطريق الصحيح للعلاقة الشرعية، على البغاء (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (النور/ 33).

يقول تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) (النور/ 33). إنّ عدم الاستطاعة لتحصين الفرج بالزواج لا يكون مبرراً للانفلات وتعدّي الحدود الشرعية، بل لابدّ من التريث والتزام العفّة ريثما تتغيّر الظروف الضاغطة وتزول الموانع المعيقة.

إنّ خيار التعفّف لا شكّ خيار صعب لأنّه يستلزم نوعاً من الصّبر لا يقدر عليه إلّا شاب يعيش حقيقة الإيمان، وفتاة تستند إلى تربية وروحية عالية "مَنِ استطاع منكم الباءة فليتزوّج ومن لم يجد فعليه بالصّوم فهو له وجاء"[2]. فالتعفف كأيِّ صوم آخر يربِّي الشخصية ويمنحها القدرة على مقاومة الانحراف ونداء الشهوة حتى يحين موعد الإفطار.

ولو كان التعفّف مطلباً يتعذّر تحقيقه لما دعا إليه الله الذي لم يجعل في الدِّين من حرج. ولعلّ ما يرفع الاستحالة هنا ما نقرأه من انتشار ظاهرة العفّة والعذرية في أوساط الناشئة من المراهقين والشبّان من كلا الجنسين في بعض بلاد الغرب التي تفتح الأبواب مشرعة لكلّ انحراف.

فلقد لاحظت دراسة ميدانية نشرتها جريدة (لابرس) الكندية في 15/ آب/ 2001 أنّ الكثير من هؤلاء الذين تراوحت أعمارهم بين (15) و(20) سنة، لم يقيموا أيّة علاقات جنسية، بل ويتوقون إلى الزواج الديني، كما أشارت إلى أنّ قسماً كبيراً منهم ينخرط في مؤسسات دينية أو اجتماعية، أو فيما يسمّى بحركات (أنصار العذرية).

ويقول الخبير الكندي في التربية الجنسية (هيغوديماس): "من اللّافت أن نرى في مجتمعاتنا اليوم مراهقين ومراهقات يتمسّكون بالعفّة. وإنّ ما يثير الاعتزاز أنّهم يستعملون عبارات وألفاظاً تدلّ على الحشمة مثل الحبّ البريء، والعذرية المقدّسة والزواج الشرعي"[3].

وتؤكِّد نشرة (أميركان جورنال أوف سوسيولوجي) أنّ 50% من الفتيات اللواتي يواظبن على حضور القدّاس الديني يحتفظنَ بعذريتهنّ حتى سنّ العشرين خلافاً لغيرهنّ ممّن يفقدنَ عذريتهنّ في سنِّ الخامسة عشرة.

وممّا يلفت النظر أنّ طبيباً في مدينة (كيبل) الكندية اسمه (ميشال روبيلا) كان قد أنشأ في تشرين أوّل 2000 حركة أطلق عليها اسم "عفّة كيبل" تنادي في دعوتها بالعفّة والعذرية. وقد نوّه رئيسها بالفتيات المسلمات اللّواتي يحافظن غالباً على العفّة ويتمسّكن بعذريتهنّ إلى يوم الزفاف من منطلق إيماني ومسؤولية الزوجة الصالحة في تربية أبنائها، واحترام القيم والمثل الاجتماعية السائدة!!

أمّا الطالبة الأميركية (تشيري أبنيك) (19 سنة) فتؤكِّد على تأثير العامل الديني كمحصّن، فتقول: "إنّ الصلاة والإيمان يهذِّبان الجنس، والعفّة هي الطريق الصحيح للزواج. فالأولاد الذين يولدون من أبوين شرعيين يحظون بالعطف والمحبّة خلافاً للذين يولدون من أبوين مجهولين استجابة لنزوة جنسية عابرة"[4].

فإذا كان هذا حال من يعيش الفوضى الجنسية وانفلات القيم، فما بال شبّاننا وفتياتنا الذين يضرب الطبيب الكندي بهم المثل.

يقول عليّ (ع): "مَن اعتدلت طباعه صفا مزاجه، ومَن صفا مزاجه قويَ أثر النفس فيه".

وقال عليّ بن الحسين (ع): "ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة".

 

4-   التوافق بين الجنسين:

يقول تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ) (النور/ 26).

ويقول: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور/ 32).

وهذا احتراز آخر لتوفير الأجواء الخالية من التلوّث والغبن والإجحاف وسوء الاختيار. فعلى الإنسان المسلم أو المؤمن أن يختار فتاة أو امرأة مسلمة أو مؤمنة تتجانس معه في دينه وفي أخلاقه، حتى يقترن الإيمان بالإيمان، والأخلاق بالأخلاق، والالتزام بالالتزام، والصّلاح بالصّلاح، ممّا يُمهِّد الأرضيّة لبناء أسرة صالحة يعيش فيها الزوجان والأولاد استقراراً نفسياً، وأماناً عاطفياً وروحياً وفكرياً وسلوكياً، وهذا هو مغزى الحديث الشريف: "إذا جاءكم مَن ترضون دينه وخلقه فزوّجوه إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". ومغزى الحديث الآخر: "عليك بذات الدين تربت يداك".

هذه هي (سورة النور).. سورة الأجواء العفيفة النظيفة.. فيجب أن لا نعلِّمها لفتياتنا فحسب بل لفتياننا أيضاً. ولابدّ من الالتفات إلى أنّ هذا العلاج التشريعي لم يوضع من قِبَل أخصّائي في العلاقات الجنسية، أو خبير في شؤون المرأة والرجل، وإنّما هو قواعد وأسس وضوابط وضعها خالق المرأة والرجل، أي العارف بدقائق العلاقة ما ينظّمها وما يربكها وما يصلحها وما يفسدها. إنّه البرنامج المُعدّ لكلِّ الأماكن ولكلّ العصور، والذي يغلق كلّ المنافذ المؤدية إلى الوقوع في الحرام والإساءة إلى واقع العلاقات بين الجنسين.

 

الطريق إلى الطّهارة:

إنّ ما يدعو إلى الأسف أنّ مجتمعاتنا طرحت الكثير من قيمها وأخلاقها جانباً والتزمت قيم الغرب البعيدة عن روح الإسلام وخطّه المستقيم، فنحن نشهد أشكالاً مختلفة من الشعارات والدعوات إلى التفسّخ والانحلال، فأجواء اختلاط الجنسين أدّت إلى أن يضعف الحياء عند الفتاة والعفاف عند الشاب سواء في المدارس المختلطة والنوادي والأعياد وحفلات الأعراس المختلطة.

إنّها الفرص المفتوحة على الكلمات التي تخدش الحياء، والنظرات المريبة المتلذذة، والأجساد النصف عارية، والملابس الفاتنة المثيرة، والحركات التي تشعل الرغبة، والابتسامات الموحية المغرية.

إنّ اجتناب ذلك وتحاشيه والابتعاد عنه يشكِّل نصف الطريق إلى العفّة والطهارة، فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

ثمّ أنّنا ونحن نتحدّث عن فوران الغريزة الجنسية عند المراهق، ننسى أنّ الجوانب الروحية لدى الشباب تنمو وتنتعش في هذه المرحلة أيضاً لدرجة يمكن أن يعيش الشاب مكارم الأخلاق والفضائل الإنسانية في أروع صورها، حيث يرى علماء النفس أنّ ثمّة علاقة بين البلوغ وظهور المشاعر الدينية، لكنّ فساد الواقع هو الذي ضيّع الاهتمام بهذا الجانب وصبّ الاهتمام على ذلك الجانب.

إنّ الصحبة الصالحة.. الشاب مع شاب مؤمن خلوق.. والفتاة مع فتاة متديِّنة عفيفة له أكبر الأثر في نموّ الجوّ الإيماني الطاهر الذي يشدّ بعضه أزر بعض.

إنّ مثل العفّة القرآني لكلِّ شاب وفتاة هو ما جرى بين (موسى) (ع) وبين ابنة شعيب.. فلقد أبت غيرته على العفاف أن يترك فتاتين شابتين تزاحمان الرجال في السقي، فتطوّع ليقوم بذلك بدلاً منهما.

وحينما تأتيه ابنة شعيب لتدعوه إلى بيت أبيها ليدفع له أجر ما سقى لهما إنّما تأتيه ماشية على استحياء، ويسير هو أمامها لتسير خلفه لئلّا تقع نظراته على أجزاء جسدها.

عفّة شاب وعفّة فتاة.. تلك هي الطهارة الاجتماعية التي نبحث عنها ونعلم يقيناً أنّك أيُّها الشاب قارئ هذه الكلمات.. وأنتِ أيّتها الشابة قارئة هذه السطور ستعملان بصدق على توفيرها.

الهوامش:

[1]- الفِناء: ساحة الدار.

[2]- وجاء أي وقاية من الانحراف.

[3]- صحيفة (الحياة): 28/ آب/ 2001.

[4]- المرجع السابق نفسه.

ارسال التعليق

Top