• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تساوي القوي والضعيف في نهج الإمام علي (ع)

تساوي القوي والضعيف في نهج الإمام علي (ع)
◄خطة العمل لإعادة الحقوق لأصحابها: تبتني خطة عمل الإمام (ع) على أربعة أمور وهي: مقدمتان ونتيجة وأسلوب. المقدمة الأولى: تساوي الناس في الخلق: "أنشأ الخلق إنشاءً، وابتدأه ابتداءً.. ثمّ جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تربة سنّها بالماء.. فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول.. ثمّ نفخ فيها من روحه فمثُلت إنساناً ذا أذهان يجيلها، وفِكَرٍ يتصرّف بها.. ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل.. وأهبطه إلى دار البلية، وتناسل الذرية". فمبدأ الخلق كان بالمخلوق الأوّل صاحب الذهن والفكر والمعرفة التي يفرق بها بين الحق والباطل، فيصدر أوامره للجوارح، فتمتثل أمرَه ذاهبة إلى ما يريد، وعلى هذا المنوال تكاثرت البشرية وتعاقبت لتستكمل تحقيق خلافتها على الأرض. وبدأ الانحراف في النفوس المريضة: فـ"اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لمّا بدّل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه.. فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته..". فالمبعوثون متساوون مع المبعوث إليهم في الحقوق والواجبات، ولكنّهم أشدّ عزيمة، وأقوى مضاء في المحافظة على الحق والميثاق. المقدمة الثانية: تساوي الناس في الحق: فالحقوق متبادلة بين الله والناس وبينهم بعضهم بعضاً، يقول (ع) في الحقوق بين الله والناس: "أوصيكم بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله بحقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله". أما الحقوق المتبادلة بين الناس بعضهم بعضاً فهي من أعظم الحرمات التي تجب رعايتها، لأنها حياة المجتمع وبقاؤه ودوامه. يقول (ع): "ثمّ جعل سبحانه من حقوقه حقوقاً افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضاً، ولا يستوجب بعضها إلّا ببعض". فالحقوق بين الناس متساوية متبادلة، لا يحفظ حقّ إلّا بأداء واجب، ولا يؤدى واجب إلّا باعطاء حق، "من قضى حق من لا قضي حقه فقد عبده"، لخروجه على نظام تكافؤ الحقوق وتساويها. "فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلّا جرى عليه، ولا يجري عليه إلّا جرى له". وأعظم الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي. "فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية، فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّى الوالي إليها حقها عزّ الحق بينهم.. واعتدلت معالم العدل..". فتبادل الحقوق المتساوية حياة المجتمع ودوام الأُمّة، وإزدهار الدولة. بينما "إذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة، وظهرت معالم الجور.. وكثرت علل النفوس، فلا يُستَوحَشُ لعظيم حقٍّ عُطِّل، ولا لعظيم باطلٍ فُعِل! فهنالك تذلّ الأبرار وتعزّ الأشرار". النتيجة: وجوب المحافظة على جميع الحقوق: لما كانت الحقوق متساوية فلا يجري لأحد حقّ، إلّا جرى عليه حق، وكذلك فلا يجري عليه حق إلّا جرى له حق. فالاحتفاظ بعدالة الحياة وحياة العدل، هي التقابل بين الحق والحق والتبادل بينهما، قال: "ولكن من واجب حقوق الله على عباده، النصيحة بمبلغ جهدهم، والتعاون على إقامة الحق بينهم، وليس امرؤ.. بفوق أن يعان على ما حمَّله الله من حقه". الأسلوب: أمّا أسلوب استنقاذ الحقوق لأصحابها من مغتصبيها، فيتدرج من مرحلة معالجة أسباب الاعتداء، إلى علاج الأنفس، وإثارة منابع الخير فيها، لتغلب إرادتها دواعي الشرّ، ومع عدم جدوى ذلك فلابدّ من حسم الأمر بالأسلوب نفسه الذي سبّب الاعتداء على حق الآخرين. فالظالم إنما ظلم بفضل قوته على المظلوم، جاعلاً منها معياراً يفرق فيه بين الحق والباطل، فما استطاعه حق، وما عجز عنه باطل، ولن يتنازل عن ظلمه طالما يجد لاستمساكه سبيلاً. فاستنقاذ الحق منه في مثل حاله من أصعب الأمور مشقّة وأشدّها خطورةً، إذ لن يتراجع عن اعتدائه إلّا بقوة أعظم ترغمه على ذلك، وهنا يقع التصادم وتسال دماء قال (ع): "إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهُم عليه، وأعلمهم بأمر الله فيه، فإن شغب شاغب استُعْتِب، فإن أبى قوتِل". فالقوة كما تُعتمد للاعتداء تسخّر لدفعه، لأنّ الشاغب يُستَعْتَب والسيف يلمع فوق رأسه، فإن أبى فضربة تعيد الحق لنصابه، وتردّ الظالم لصوابه. "وأيْم الله لأنصفَنَّ المظلومَ من ظالمه، ولأقودنَّ الظالم بِخِزامته، حتى أورده مَنهَل الحق وإن كان كارهاً". فالذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقويّ عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه". "وأيْم الله لأبقُرنَّ الباطلِ حتى أخرجَ الحقَ من خاصرته، ثم أتتبّعه حتى أعيده كما كان". خطة صارمة عادلة لا يمكن أن تعدّل الموازين، إلا طعنة تبقر بطن الباطل لتُخرج الحق من رهانه. فالحق لن يستعاد بالأماني والدعوات طالما صمَّت آذان الظالمين، وإنما السيف هو الحكم العدل في إمارة المفسدين. "فإن أبَوا أعطيتُهم حدّ السيف، وكفى به شافياً من الباطل، وناصراً للحق". وإن تكالبت الأكلة على الحق، فلن تجد شافياً إلا مسح السوق والأعناق. "أضربُ بالمقبل إلى الحق المدبِرَ عنه، وبالسامِع المطيعِ العاصي المريبَ أبداً حتى يأتي عليَّ يومي". ممارسة الأسلوب: "والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهّداً، أو أجرَّ في الأغلال مصفّداً، أحبُّ إليّ من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، أو غاصباً لشيء من الحطام". تنبع ممارسة الأسلوب من إيمان عميق في النفس، وشعورٍ حاضر باستمرار، وينتصب عماد الحق معتمداً على أركانه الثلاث: إيمان وعمل والتزام. "والله ما أحثّكم على طاعة إلّا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصيةٍ إلّا وأتناهى قبلكم عنها". ويغدو نظام الحياة يحبك بالمنوال نفسه، ويصبح القائدُ العامل والقدوةَ، فيتساقط العاملون دون عمله، ويقصّر المقتدون عن اللحاق به. "ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه..". وترتسم الخطى أسلوباً يضيء معالم الطريق، وكان عهدنا أنّ الأسلوب طريقٌ يهدي معالم الحق. لقد أصبحت الخطى مناراً يضيء طريق الحق إذا درست معالمه، وأصبح كل واحد منهما يدلّ على صاحبه: فـ"عليٌّ مع الحق والحق مع عليّ، يدور معه حيث دار". فمتى افتقدنا واحداً اهتدينا إليه بالآخر، فهما جسد وروح في عالم الأحياء لا يفترقان. "هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيُّر الأطعمة... ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشَّبَع".   المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 53 و54 لسنة 1992م

ارسال التعليق

Top