معهد الدراسات الإسلامية في كربلاء/ العراق
- ضرورة بعثة الأنبياء:
المسائل الأساس في مبحث النبوّة هي: ضرورة بعثة الأنبياء وضرورة صيانة الوحي من أي تلاعب وتشويه وتحريف، عمداً أو سهواً، حتى وصول محتوياته للناس. وبتعبير آخر: وجوب عصمة الأنبياء في تلقي الرسالة الإلهيّة وإبلاغها، وكذلك وجود طريق تثبت به للآخرين نبوّة الأنبياء.
وضرورة بعثة الأنبياء هي من أهمّ المسائل الأساس لفصل النبوّة، ويمكن إثباتها ببرهان مؤلف من ثلاث مقدّمات:
1- إنّ الهدف من خلق الإنسان هو: السير في طريق تكامله من خلال ممارسة الأفعال الاختيارية من أجل التوصل إلى كماله النهائي، هذا الكمال الذي لا يتوصل إليه إلّا باختياره وانتخابه.
وبتعبير آخر، إنّما خلق الإنسان ليكون بعبادته وإطاعته لله تعالى مستحقاً وأهلاً للحصول على الرحمة التي يختص بها الأفراد المتكاملون، والإرادة الإلهيّة الحكيمة إنّما تعلّقت أصالة بكمال الإنسان وسعادته، ولكن بما أنّ هذا الكمال والسعادة السامية لا يمكن الوصول إليها إلّا عن طريقة ممارسة الأفعال الاختيارية، لذلك جعل مسار الحياة البشرية على مفترق طريقين واتجاهين، لتتوفّر بذلك أجواء الاختيار والانتخاب.
وبالطبع، فإنّ أحد الطريقين يؤدِّي نحو الشقاء والعذاب، لتتعلّق به الإرادة الإلهيّة بالتبع لا بالأصالة. وقد اتّضحت هذه المقدّمة عند البحث في الحكمة والعدل الإلهيّ.
2- إنّ الاختيار الواعي والشعوري إضافة إلى احتياجه للقدرة على ممارسة العمل، وتوفّر الظروف والأجواء الخارجية لممارسة الأعمال المختلفة، ووجود الميل والدافع الداخلي لها وغير الصالحة، وإنّما يتمكّن الإنسان من اختيار طريق تكامله بكل حرّية ووعي فيما لو كان يعرف الهدف، وطريق الوصول إليه، وكان عارفاً بكلّ العقبات والعراقيل والانحرافات والمزالق.
إذن، فمقتضى الحكمة الإلهيّة أن توفِّر للبشر الوسائل والمستلزمات الضرورية للحصول على مثل هذه المعارف والمدركات، وإلّا فسيكون حاله كذلك الشخص الذي يدعو ضيفاً إلى داره، ثمّ لا يدله على موضعه، ولا على الطريق المؤدِّي إليه! ومن البديهي أنّ مثل هذا العمل مخالف للحكمة، وموجب لنقض الغرض.
وهذه المقدّمة واضحة، لا تحتاج إلى توضيح وتوسُّع أكثر.
3- إنّ معارف ومدركات البشر العادية والمتعارفة، التي يحصل عليها نتيجة التعاون بين الحس والعقل، وإن كان لها دورها الفاعل في توفير ما يحتاج إليه في حياته، ولكنّها لا تكفي في التعرُّف على طريق الكمال والسعادة الحقيقية، في جميع المجالات الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والدنيوية والأخروية، وإذا لم يوجد طريق آخر لسد النقائص والفجوات، فلن يتحقّق الهدف الإلهيّ من خلق الإنسان.
وبملاحظة هذه المقدّمات الثلاث، نتوصّل إلى نتيجة مفادها: أنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي وضع طريق آخر للبشر غير الحس والعقل من أجل التعرُّف على طريق الكمال في كلّ المجالات، حتى يستطيع البشر الاستفادة منه (مباشرة أو بواسطة فرد أو أفراد آخرين).
وهذا الطريق هو الوحي الذي وضعه الله للأنبياء، ليستفيدوا هم منه بصورة مباشرة، وليستفيد منه الآخرون عن طريق الأنبياء، وليتعلّموا منه كلّ ما يحتاجون إليه، من أجل الوصول إلى السعادة والكمال النهائي. ومن بين هذه المقدّمات، ربّما يحصل التردّد والتشكيك في المقدّمة الأخيرة، ومن هنا يلزم علينا توضيحها والتوسُّع فيها أكثر، ليتوضح لنا تماماً قصور المعرفة البشرية عن تحديد مسير التكامل الشامل للإنسان، واحتياجه لطريق الوحي.
- قصور المعرفة البشرية:
من أجل معرفة الطريق الصحيح للحياة في كلّ أبعادها وجوانبها، لابدّ من التعرُّف على مبدأ وجود الإنسان ومصيره، وعلاقاته بسائر الموجودات، والروابط التي يمكن له إقامتها وعقدها مع بني نوعه وسائر المخلوقات، وتأثير هذه الروابط والعلاقات المختلفة في سعادته وشقائه، وكذلك عليه أن يحدّد نسب المنافع والمضار، ودرجات المصالح والمفاسد المختلفة ومقاديرها، والموازنة بينها، لتتحدّد بذلك وظائف هذا العدد الكبير من البشر، والذي يتميّز بخصائص بدنية ونفسية متفاوتة ومتغايرة، وكلّ منهم يعيش ظروفاً طبيعية واجتماعية مختلفة، ولكن الإحاطة بكلّ هذه الأُمور لا تتيسر، ليس لفرد أو لجماعة معيّنة فحسب، بل للآلاف من الجماعات المتخصصة، في مختلف العلوم المرتبطة بالإنسان. لا يمكنهم اكتشاف مثل هذه المعايير والقواعد المعقدة وبيانها على شكل قوانين وأحكام دقيقة ومضبوطة ومحدّدة، لتكفل بذلك توفير كلّ المصالح الفردية والإجتماعية، المادية والمعنوية، الدينية والأخروية، لكلّ البشر وحينما يقع التزاحم والتضاد والتعارض بين أنواع المصالح والمفاسد وكثيراً ما يحصل ذلك يعين المصلحة الأهم بدقة، ويقدّمها في المجال العملي.
إنّ ما يلاحظ من مسيرة التغييرات الحقوقية والقانونية عبر تاريخ البشر مؤشر على أنّه لم يوجد حتى اليوم بالرغم من كلّ البحوث والجهود التي بذلها الكثير من العلماء المتخصصين عبر آلاف السنين نظام حقوقي وقانوني صحيح وكامل وشامل والملاحظ أيضاً أنّ المقننين والمؤسّسات الحقوقية والقانونية في العامّ، تتوصل دائماً إلى نقاط الضعف في القوانين الوضعية، ولذلك يحاولون إصلاحها أو تكميلها، إلغاء مادة أو نسخها، أو إضافة مادة لها أو إلحاق ملاحظة بها.
ويجب علينا أن لا نغفل عن أنّهم استفادوا كثيراً في تقنين هذه القوانين وتدوينها من الأنظمة الحقوقية والقانونية الإلهيّة، والشرائع السماوية. وكذلك ينبغي أن نعلم بأنّ جهود المقننين والحقوقيين متوجهة لتوفير المصالح الدنيوية والاجتماعية، دون الاهتمام بتوفير المصالح الأخروية وملاحظة مدى علاقتها بالمصالح الدنيوية والمادية، وإذا ما أرادوا الاهتمام بهذا الجانب الذي يعتبر أكثر الجوانب أهميّة في هذا المجال، فإنّهم لن يتمكّنوا من الوصول إلى نتائج يقينية قاطعة، وذلك لأنّ المصالح المادية والدنيوية يمكن التعرُّف عليها إلى حدٍّ ما وتحديدها، من خلال التجارب العملية. أمّا المصالح المعنوية والأخروية، فإنّها لا تقبل التجربة الحسِّية، ولا يمكن تقويمها بدقّة، وحين تتزاحم وتتعارض مع المصالح المادية والدنيوية، فلا يمكن التعرُّف على معيار لقياس أهميّة إحداهما.
ومن خلال ملاحظة الحالة الراهنة التي تعيشها القوانين البشرية، يمكن لنا تقويم العلم البشري عبر آلاف أو مئات الآلاف من السنين لنتوصّل لهذه النتيجة اليقينية: إنّ الإنسان البدائي أكثر عجزاً من إنسان عصرنا في تحديد الطريق الصحيح للحياة، وعلى تقدير وصول إنسان عصرنا إلى نظام حقوقي قانوني صحيح، كامل وشامل من خلال تجارب آلاف السنين.. وعلى تقدير القول بأنّ هذا النظام يتكفّل توفير السعادة الأبدية والأخروية، فإنّ هذا السؤال يبقى ملحاً: كيف يتلائم إهمال الأجيال الكثيرة التي عاشت عبر التاريخ الطويل في ظلم جهلها مع الحكمة الإلهيّة والهدف من خلقهم؟
- والحاصل:
إنّ الهدف من خلق الإنسان، من البداية حتى النهاية، إنّما يقبل التحقّق في أرض الواقع، فيما لو وجد طريق آخر غير الحس والعقل لمعرفة حقائق الحياة، والوظائف الفردية والاجتماعية، وليس هذا الطريق إلّا الوحي.
وقد اتّضح ممّا ذكرنا أيضاً أنّ مُقتضى هذا البرهان أن يكون الإنسان الأوّل نبيّاً، ليتعرّف على الطريق الصحيح للحياة عن طريق الوحي، وليتحقّق فيه الهدف من الخلق، وليهتدي به الآخرون.
- فوائد بعثة الأنبياء:
للأنبياء الإلهيّين إضافة إلى تعريف البشر وهدايتهم إلى طريق الصحيح للتكامل الحقيقي للإنسان وتلقي الوحي وإبلاغه للناس، فوائد وتأثيرات مهمّة أُخرى في مجال تكامل البشر، وأهمّها ما يلي:
1- إنّ هناك الكثير من المعلومات التي يمكن للعقل الإنساني إدراكها، ولكن ربّما يغفل عنها إمّا لاحتياجها لزمان طويل وتجارب كثيرة، وإمّا نتيجة اهتمام الأفراد وإنهماكهم في الأُمور المادية وسيطرة الميول الحيوانية عليهم، أو ربّما تغيب عن الناس نتيجة للتربية المنحرفة أو الإعلام السيِّئ أن مثل هذه المعلومات يبينها الأنبياء للناس، ليمنعوا من نسيانها تماماً، من خلال تذكيرهم وتأكيدهم الدائم عليها، وليواجهوا المغالطات والتعليمات السيِّئة بتعليماتهم الصحيحة والمنطقية.
ومن هنا يعرف السبب في إطلاق صفتي (المُذَكِّر والنذير) على الأنبياء، وإطلاق أسماء (الذكر، والذكرى، والتذكرة) على القرآن الكريم.
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) حين يستعرض الفوائد والحكم من بعثة الأنبياء: «ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نِعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ».
2- من أهمّ العوامل التي لها تأثيرها الفاعل في التربية وفي رشد الإنسان وتكامله، وجود القدوة في العمل. وقد أثبتت أهميّة ذلك في بحوث علم النفس. والأنبياء الإلهيّون الذي يمثّلون الإنسان الكامل والذي نشأوا في ظلال التربية الإلهيّة، يقومون بذلك خير قيام أنّهم بالإضافة إلى التعليمات والمعلومات التي يزوّدون بها البشرية يقومون بمهمّة تربية الناس وتزكيتهم، ونحن نعلم أنّ القرآن الكريم قد قرن بين التعليم والتزكية في الذكر، وحتى أنّه في بعض الآيات قدّم (التزكية) على (التعليم).
3- ومن معطيات وفوائد وجود الأنبياء بين الناس، تولي القيادة في المجالات الاجتماعية والسياسية والقضائية، حينما تتوفّر الظروف اللازمة لذلك. وبديهي أنّ القائد المعصوم من أعظم النِّعَم الإلهيّة للمجتمع، حيث تعالج بواسطته الكثير من المعضلات والاضطرابات الاجتماعية، ويتم إنقاذ الأُمّة من الاختلاف والتنازع والفوضى والانحراف، ليقودها باتجاه كمالها المنشود.
المصدر: كتاب دروس في العقيدة الإسلامية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق