النبوّة في حياة الرسول الكريم حقيقة جوهرية مؤسسة، فهي الرقم البارز الذي يستثير نظر الفاحص في تضاعيف سيرته ومواقفه وقراراته وإمضاءاته، حيث يضغط هذا الرقم الحياة الطاهرة في نقطة مركزية، مرهونة بجورها لا غير، ومهما يحاول الفكر أن يفتش عن باعث خارج دائرة النبوة في حياة هذا الإنسان الكبير، سوف ينتهي بفشل ذريع، كما فشلت كل محاولات نسخ النبوة المحمدية، قديماً وحديثاً، فمنذ أن صدع (ص) بالخاتمية، وإلى هذه اللحظة، برهنت الدعوة على صدقها بلغة الواقع الصريح، إذ تهاوت كل دعاوى النبوات اللاحقة، سواء كانت بحجة الإكمال أو التحدي أو بإيحاء الوهم، وبمقدار ما توارت ظاهرة الدعاوى اللاحقة في غياهب الزمن وغيبوبة الذاكرة، تتقادم دلائل الخاتمية المحمدية من استحكامها بالزمن وملئها ساحة الذاكرة، فمسيرتها تستوي على نبضات التاريخ، وتستوعب إرادة المصير البشري، ولم تقع في لحظة من لحظات عمر الإنسانية على هامش الاعتبار أو التأثير، فهي إما هدف لطاعن، يريد استئصالها من الجذور، وإما بغية سائل يبغي اكتشاف الحقيقة وإما بشرى تدشن ضميراً بحياة جديدة، فلم تراوح مكانها قط. تتجدد وتتحدى وتضيف، وإفرازات التاريخ الصائبة في خدمتها، بل تمهد السبيل وتعبد الطريق لإعلان حقها وأهليتها في التجدر والانتشار.
الإسلام دين انتشاري!
هذه هي المقولة التي خرج بها باحثون غربيون، وهي نتيجة منظورة في نطاق من الحس الشافع لدلالته بقرب المعاينة وملامسة المعايشة، وهي نتيجة منظورة بمراصد المراقبة والمتابعة بقصد استشراف المستقبل، وتصنيف اتجاهاته الحاكمة والموجهة، وهي نتيجة نافذة في ضمير المسلم من إيحاء الإيمان وصدى الاعتقاد. والانتشار هنا محسوب بدقة المفارقات بين جغرافية النشأة الأولى ومديات الانفتاح الغريبة والمدهشة بسعتها واستمرارها. بين قدم النشأة وانقلاب الزمن على معادلاته الساكنة وقيمه التي أرتهنّ لها البشر عقوداً طويلة، بين صيرورة النشأة ومفاجآت العلم المذهلة التي زعزعت الثقة بالمسلّمات والبدهيات.
الإسلام دين انتشاري!
هذه المعادلة حقيقة حية ساطعة، تتوزع مناشئ انتزاعها هنا وهناك، في كل أنحاء العالم. تتخطى جغرافية الغربة والحقد، بل تتخطى جغرافية الاستبداد التكنولوجي والتقني، ومن مصاديقها تلك المحاولات الرامية إلى التشويه والعزل والاختزال. ودعوى صراع الحضارات، مردها هذه القدرة الفذة على الانتشار، وليس إلى هذا الموج البشري المتلاطم، الذي تشهده معمورة الإسلام التقليدية، وليس إلى الكنوز الطبيعية المذهلة التي تستبطنها هذه المعمورة، فما قيمة الملايين من البشر، وهي لا تعرف طريقها إلى الحياة، يصهرها الفقر والجهل والمرض؟ وما قيمة الثروات والأموال، وهي رهينة بيد الغرباء، يتلاعبون بها كما يريدون؟
إنّ منطق الانتشار هو الذي صمم معادلة الصدام في ذهن هذا الخبير الأمريكي. لقد أدرك أنّ الإسلام في حالة فعل وانفعال دائمين بكل ما يحدث في العالم، وبكل ما يستجد على ساحة الكون، هذه هي النقطة التي استشفها الخبير الكبير، ثمّ بنى عليها تصوراته عن المستقبل، ودعوته لم تكن تهديداً بل تحذيراً، ولم تكن وصفاً محكوماً بظواهر عابرة، بل تحليلاً دقيق، يستمد أرقامه من التاريخ والواقع.
ومن أهم العوامل التي ساعدت على إنتشار الإسلام:
1- مصدر الثقة لنبي الإسلام:
كانت ثقته بنبوته مصدر القوة التي تبث في قلبه شجاعة الموقف، فلم يعرف الانهيار أو اليأس، استمر بعزم موكول الصلة بنبع السماء، واثق الخطو بما سينتهي إليه التاريخ، وقد بدأت هذه الثقة إعلاناً، يسفر عن أمل مشرق بضرورة الإنجاز، وكأنّه قدر متحقق من قبل، وإلا، فأيّ معنىً لتلك الدعوة الغريبة، وهو يضع عشيرته الطاغية على التخوم الفاصلة بين الاختيار والتردد؟
أجل... فلم يكن يوم الدار حدثاً عادياً، بل هو بشرى تملك زمان التاريخ، لا تمت بصلة إلى قانون الأماني والأحلام، بل تنبع من إمضاء قد نبت في صلب الوجود. لقد كان محمد يستمد قوته من ثقته بنبوته أكثر من ثقته بنفسه، وهو الإنسان الخارق المواهب. كان يستنبت كل آماله من إيمانه المطلق بنبوته، وليس من ارتكانه إلى عشيرته، وهو ابن قريش، وفي الصميم من بنيتها الهيكلية والمعنوية، كان يتوسم المستقبل القاطع بالانتصار من اعتقاده الجازم بنبوته، وليس من مزاياه الشخصية الرائعة، التي فاق بها البعيد والقريب، فهو الجميل الأمين القوي...
ماذا يعني كل هذا؟
إنّ النبوة حقيقة أصيلة في ضمير محمد بن عبدالله. هي القيمة التي سادت كل نبضات روحه، فاستمد من وهجها في وجدانه، ومن حضورها في أعماقه، مشروعية الطرح ودستور المقاومة والمثابرة. كانت النبوة حقيقة متفجرة بمادة الحضور التي تشكل كل مضامين حياته. لو كانت النبوة في حسابه عرضاً طارئاً أو خاطرة جميلة أو تجربة على ذمة النتائج المأمولة أو رغبة محسوبة الهدف... لتراجع دورها، وانكمش زمنها، وغابت في زحمة الأهوال التي واجهها الرسول العظيم... فالعَرَض يزول، والخاطرة تمحوها عاديات الزمن، والتجربة يطويها النسيان إذا أخفقت مرة أو مرتين، والرغبة تستعر بالعاجل، وتتراخى إذا تأجل المحصول لأمد طويل... ومحمد تجاوز كل هذه المقتربات، وبقي لصيقاً بشعوره وإيمانه النبوي، بل ونبوته الخاتمة، وبهذا تتبدى ظاهرة النبوة في نفس محمد الطاهرة أصيلةً متجذرةً، بل هي الحقيقة الأولى في حياته كلها. وكل الحقائق الأخرى، مجرد انعكاس أمين لهذا الجوهر الزكي، فلم يهبط به أذىً إلى مهاوي اليأس، ولم تكبله عوائق الصد من الاستجابة، ولم تثنه عمليات النبذ الاجتماعي والعشائري، ولم ترهقه قسوة الجوع والعطش، ولم تفت في عضده مواقف النفرة وقرارات الإبعاد، ولم ترعبه تكاليف الغربة والهجرة... إذن، وفي ضوء كل هذه الإمارات الهادية، يمكننا أن نقول وبكل اطمئنان علمي، إنّ إصراره (ص) كان نبوياً... كانت أصالة النبوة هي التي تنسج خيوط هذا الإصرار الرائع، وليست إرادة محمد المجردة.
يقول التاريخ..
إنّ رسول الله مضى في دعوته، حتى سرى الأمر في المجتمع قوةً تنذر بالتغيير، فاستدعت قريش عمه أبا طالب لتنذره "وإنّا والله لا نصبر على هذا، من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين...)... ويروي التاريخ أن أبا طالب أخبر الرسول الكريم بمقولة قريش التي كانت حاسمة وقاطعة، فماذا كان جوابه (ص)؟
إنّه قال: "يا عم، والله! لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته...".
لا نريد هنا أن نتحدث عن صلابة الموقف، وإنما نريد الإمساك بسر هذه الصلابة الفذة، التي جسّدت كل ألوان الصمود والتحدي. صلابة ليست مرهونة بأي شرط، إلا شرط موضوعها الذي تأسست من أجله!
إنّ أصالة النبوة هي المسؤولة عن هذه الصلابة. إنّ محمداً ينطلق من فكرة، كانت قد استوفت حقها من مباشرة الرؤية المطمئنة، من استيعابها لجوهر عقله، وعلى أرفع مستوىً من الوضوح والبيان. إنّ ثقته بنبوته هي التي حملته على هذا الموقف، الذي تجاوز من خلاله نفسه وعمه وعشيرته وكل النتائج المرعبة التي يمكن أن تترتب على هذا الموقف.
2- أصالة النبوة في ضمير محمّد:
يقول التاريخ:
إنّ محمداً (ص) وقد أجمع العرب، وخاصة قريشاً على معاداته ومقاطعته، فجعلوا منه هدفاً للعداء والسخرية، ومثلاً للكذب والافتراء – كان يستشعر ثقل المهمة الخارقة، ويحس من أعماقه تعقيدات الموقف، وملابساته المتداخلة، فمن الطبيعي أن تعتريه حالة من التساؤل عن مصير المهمة، في هذا الوسط الجدب القاحل، وقد عكس شعوره هذا بقوله، بعد أحد التجارب المرّة المؤلمة: "اللّهمّ إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس...".
إنّها إحدى التطبيقات الطبيعية لقانون التكوين البشري، فمحمد (ص)، فرد من أبناء هذا النوع، المحدود الهمة والطاقة والقوة. وكان جدبُ الاستجابة كفيلاً بامحاء واقتلاع جذر الفكرة؛ لأنّها في الأساس للبشر، لهؤلاء المخاطَبين، وليس للخلود على الفكرة؛ لأنّها في الأساس للبشر، لهؤلاء المخاطَبين، وليس للخلود على الرفوف العالية، ولا للمران الذهني المجرد، ولكنّ محمداً نبي، وهو واثق من هذه الرسالة إلى حد الكشف الحسي. إنّ (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) (المدثر/ 1-2)، سابقة بموضوعها الحي الساخن على أي استشعار بالضعف. وإذا وجد هذا الاستشعار حيّزه الطبيعي من قانون التكوين الإنساني في حياة محمد، فإنّ صدى النداء السماوي يقوم بمهمة الإزاحة البديلة، يقلب المعادلة تماماً، وهذه الحالة تندرج في إطار القاعدة الكلية التي تصممها الآية الكريمة (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ...) (الكهف/ 110).
إنّ أصالة النبوة في ضمير هذا الإنسان، هي نقطة البداية، ومصدر القرار، ومرتكز الإحالة، ومآل الإرادة، ومنطلق التبرير، وقاعدة التعليل.
يقول التاريخ:
(وقالوا له: أُخرج من بلدنا، والحق بمنجاتك من الأرض، أغرَوا به، سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفّين على طريقه، فلما مر بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما ألا رضخوهما بالحجارة، حتى أدموا رجليه (ص).. وكان إذا ازلفته الحجارة، قعد إلى الأرض، فيأخذون بعضديه، فيقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون...).
هذه عينة من تاريخ استمر على هذه الشاكلة سنين طوالاً، حيث تكشف عن واقع عقيم، قاحل العطاء، يبعث على اليأس المطلق، لا يستمرئ أي مساس بعاداته وسننه وعقائده، وصاحب الدعوة غريب، تطارده شبهات السؤال المدروس والموهوم عن عقله وغايته وأمله. ولكنّ محمداً رسول الله، إنّه نبيّ، وهو على ثقة صارمة بهذه المهمة الكونية الكبرى، وهو موعود بالنصر المؤزر؛ ولذا لم يأبه لهذا الصدود الجافي، ولم يرهن إرادته إلى علائم الواقع المنظور. لقد كانت ثقته بنبوته في مرتبة السبق على كل شيء، ومقياس التعامل مع كل معطىً وكل نتيجة وكل موقف، ومن هنا، نفهم سر هذا الإصرار على مواصلة الصدع وديمومة الدعوة "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته...".
إنّ أصالة النبوة في ضمير محمد (ص) حقيقة واضحة، لأنّها لم تسمح لإغراءات المنظور أن يتغلب عليها، ولم توكل زمام قرارها إلى حكم هذا المنظور مهما كان صارخ القَسَمات، ولو خُلي محمد ونفسه المجردة، ربّما استكان إلى معادلة الواقع الظاهر، ولكن هناك شيء زائد، ترامى بثقله الكوني في حنايا ضميره، فأزاح عنها إيحاء الواقع الظاهر. هذا الشيء هو النبوة، الواثق من عُهدتها إليه، والمطمئن إلى ابتلائه بمسؤوليتها، وبذلك ترسِّم بكل جلاء أصالتها الجذرية في ضميره الصادق.
المصدر: كتاب أصالة النبوة في حياة الرسول الكريم (ص)
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق