• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإصلاح والعمل الجماعي

د. إحسان الأمين

الإصلاح والعمل الجماعي

للفساد مظهران، تارة يظهر في سلوك فردي وتارة يظهر في سلوك إجتماعي.. وفي الأولى، قد يكون هذا الفرد شخصاً عادياً فتنحصر آثار سلوكه الفاسد في محيطه الشخصي أو تمتد لتؤثِّر على محيطه الاجتماعي العائلي أو المهني.. ولكن قد يكون هذا الفرد حاكماً، ملكاً أو رئيساً، فتكون آثار فساده على مستوى الدولة والمجتمع كلّه، وقد ينجو بصلاح المجتمع وقد يهلك بفساده البلد كلّه.
وهكذا قد يتحوّل الفساد إلى منظومة اجتماعية تتمثّل بطبقة حاكمة أو طبقات إجتماعية ورأسمالية نافذة، أو تنظيمات سياسية، أو اقتصادية.
وقد تمتد هذه المنظومة لتخترق المجتمع من أدناه حتى أعلاه، فيكون الفساد كالطاعون المنتشر الذي تجد آثاره على سائر نواحي الجسم ليُشوِّهه.
وفي كلِّ الأحوال، فإنّ التنظيم يعدّ من أكثر وسائل القوّة مناعة وفتكاً، وبالتالي تستطيع الأفكار والأهداف الصالحة والسيِّئة على السواء أن تتسلّح به، سواء لحماية نفسها أو ترتيب حركتها، ولا يمكن مواجهة أيّة قوّة إلّا بمثلها، فالأنظمة الفاسدة الطاغية التي تسيطر على كلِّ شيء، والأحزاب الفاسدة والمتنفذة التي تتمترس بعشرات المنظمات والهيئات التي تدعم حركتها.. لا يمكن أن تواجه بأفراد عزل متفرقين يريدون الإصلاح وينادون به، إذ سرعان ما تفترسهم أنياب الطاغوت أو تتناوشهم أيدي المسرفين.. فكان لابدّ من أن تكون للإصلاح مؤسساته ومنظماته وأحزابه وحركاته، بل أن تكون هناك هيئات عاملة لكل ضرب من ضروب الفساد تعمل على تعريفه وتعريته للرأي العام وتسعى لتصحيح الأوضاع القائمة – ضمن تخصُّصها – وإصلاحها، فواحدة للفساد الإداري وأخرى للفساد المالي وثالثة للفساد السياسي ورابعة للفساد الأخلاقي... إلخ.
وفي القرآن الكريم، نجد وصفاً للفساد وأتباعه بكلا نوعيه الفردي والاجتماعي، لكنّنا كثيراً ما نقرأ عن فساد الفرد الحاكم الذي (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة/ 205).
ومن ثمّ نقرأ أكثر عن المفسدين والتحذير من اتّباع سبيلهم والسير على نهجهم، قال تعالى: (.. وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف/ 142).
وفي المقابل، على مستوى الإصلاح، نقرأ كلّ الصيغ: الفردية، الثنائية والجماعية، للإصلاح، لأنّه مطلوب على كلِّ المستويات، ولا يصلح المجتمع إلّا بصلاح أفراده ومؤسساته أوّلاً (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...) (الرعد/ 11).
ولا توجد في المجتمع زاوية أو مساحة لا يُحتاجُ معها إلى الإصلاح، سواء كانت في خبايا الأنفس وخفاياها المظلمة، أو على مستوى مؤسسات المجتمع ودوائر الدولة.
وهكذا نقرأ في القرآن: صَلُحَ، أصلَحَ، أصلَحا، أصلَحوا.. كما نقرأ أيضاً: المُصلِحَ والمُصلحين.
وفي القرآن نجد حثّاً على الأدوار الاجتماعية وتأكيداً لأهميّتها وذلك لفاعليتها في مجال التغيير الاجتماعي، ومن هذه الأبواب: الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذلك: إصلاح المجتمع.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104).
وقال تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود/ 116-117).
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف/ 170).
إنّ الإصلاح عمل خيري يحمل في طياته أسباب النجاح (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) (النساء/ 128)، ويمدّه الله تعالى بلوازم التوفيق، إذا توفّرت مقدّماته، يقول تعالى: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا...) (النساء/ 35).
ومع كل هذا، فإنّ عمل المُصلحين سيكون أبعد أثراً وأكثر ثمراً إذا ما تضافرت جهودهم وتقاربت أهدافهم وتوحّدت خطواتهم.. لأنّ (يد الله مع الجماعة).
وقد قال تعالى: (.. وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ...) (الأنفال/ 46).
وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا...) (آل عمران/ 103).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمّد/ 7).
والمعادلة قائمة بطرفيها: طرف أوّل، هم المفسدون وأعمالهم، والله تعالى يقول عنهم: ( ..إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) (يومس/ 81).
وطرف مقابل، هم المُصلحون وأعمالهم، والله تعالى يقول: (.. إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا) (الكهف/ 30).
ويقول تعالى: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (ص/ 28).
وكما أسلفنا، فإنّ للعمل الجماعي والمنظمات التي تكوِّن ظاهرةً اجتماعيةً تأثيراً مضاعفاً في حركة المجتمع، لإجماع قوّتها وبسط سيطرتها، سواء كانت تلك الجماعة صالحة مصلحة أو فاسدة مفسدة، ولذلك نقرأ في القرآن، وصفاً لجماعة السُّوء التي قابلت حركة النبي المُصلح صالح، يقول تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (النمل/ 48-51).
إنّهم أشبه بالمافيا وعصابات الفساد الموجودة والمنتشرة في عصرنا الراهن، من زُمَر المسرفين (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (الشعراء/ 152)، والتي تجتمع لحفظ مصالحها وتتآمر للاحتفاظ بمنافعها ومكاسبها، فتعمل على تغيير السياسات وتزوير الإنتخابات وتفتك بالناس الصالحين وتلاحق الطيِّبين.. كل ذلك لغرض الاستمرار في عبثهم بمقدرات الناس والإفساد في أُمور البلد.
وفي مقابل هؤلاء، كان النبي صالح ومَن تبعه من المؤمنين، ممّن آمنوا برسالته وعقدوا العزم على إصلاح المجتمع ومكافحة الفساد، مهما كلّف الأمر.
وهكذا ينقسم الناس إلى طرفين: طرف مع المفسدين المسرفين المتآمرين الماكرين.. وطرف آخر، وهم قلّة، مع النبي الصالح والمصلح، مع الحقّ وأهله، وفي ذلك يقول القرآن: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ) (النمل/ 45).
ولكن القضيّة لا تنتهي عند الخصومة اللفظية، بل تمتد إلى أكثر من ذلك حيث لا يستطيع أرباب الفساد أن يتحمّلوا صوت الحقّ الناقد الذي يكشف الحقائق ويعري أوضاعهم المزرية.. فيلجأوا إلى التهديد والوعيد والغدر والإرهاب، وهي أسلحة الإنسان الضعيف، لا القوي بفكرة ومنطقة..
(قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) (النمل/ 47).
ونجد نفس الصورة في قصة النبي لوط، الذي حاول نصيحة قومه وإنقاذهم ممّا هم فيه من إنحراف وفساد، ولكنّهم أبوا وعتوا وقابلوه بردٍّ عنيفٍ.. (فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل/ 56).
وهكذا نجد أنّ الناس الفاسدين، قد يتغيّرون بأشخاصهم، ولكنّهم يتشابهون، منذ القدم، وحتى اليوم، بأساليبهم، ومن قتل وغدر، وتشريد وتهجير، للمؤمنين والناس الصالحين..
وتبقى أيضاً منظومتا الفساد والإصلاح، متقابلتين – سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات – في صراع أبدي، ابتداءً بقابيل وهابيل، ولا ينتهي إلى يوم الدين.
ولمّا كان للفساد مناهجه وآلياته، وله وجوده المُتعدِّد الأشكال على مستوى الأفراد وعلى مستوى التنظيمات الاجتماعية والسياسية، كان بالمقابل لابدّ من أن يأخذ العمل للإصلاح ومكافحة الفساد بأسباب القوّة، ومنها العمل كجماعات وتنظيمات ذات عمل مدروس ومُرتّب، ولابدّ أن تتعاون الجماعات والجمعيات الإصلاحية فيما بينها بعيداً عن المصالح السياسية المؤقتة لهذه الفئة أو تلك، فهدف الإصلاح لابدّ أن يبقى سامياً ومتعالياً عن الغايات النعيّة المحدودة، فإنّ النوايا الصالحة لها أقوى فاعليّة في نجاح الجهود المُصلحة وفلاحها.
قال تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) (النساء/ 114).


المصدر: كتاب نظرية الإصلاح من القرآن الكريم

ارسال التعليق

Top