◄هكذا نجد أنفسنا مرغمين على مناقشة مسألة حضور المنطق في الفكر الإسلامي. نحاول هنا تحديد مفهوم العقل في ظرف محدد، ظرف الحركة الإصلاحية الحديثة، فننطلق ولابدّ من مجموعة من المعارف تسمى علماً، معارف مؤسسة على قواعد ثابتة تسمى منطقاً. المنطق مبطن في علم، وذلك العلم هو نتيجة ومحتوى العقل.
نركّز كلامنا على نقطة إجرائية هل طوّع العلم المطلق المنطق لكي يوافقه، أم بالعكس حدث ما هو طبيعي ومنتظر وافترضه الكثيرون، أي أسس المنطق علماً استقرائياً مستقلاً أنتج فيما بعد عقلاً يوافقه؟
لما يكتب الأخصائيون عن تطوّر العلوم والتقنيات في الصين مثلاً، فإنّهم يبدأون بتحليل الكلمة الصينية التي تعادل كلمة علم في اللغات الغربية محاولين إظهار أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف (نيدهام، ص 46). ثم يدرسون، مع مراحل التطوّر العلمي والتقني في إطار الثقافة العامّة، التأثيرات الخارجية ومنها العربية (أي الإسلامية المكتوبة باللغة العربية)، ثم بعد كلّ هذا ينتقلون، دائماً ضمن البحث عن الخصوصيات، إلى تحديد العوامل السلبية أو المحبطة كالحرف (الكتابة) واللغة والمنطق. ويعنون بهذه الكلمة الأخيرة طريقة التفكير المرتبطة باللغة وبالفن وبالقيم الأخلاقية المخالفة للمعروف والمعهود عند الغربيين. ويتبع دارسو العلوم اليابانية والهندية نفس النهج، هل يفعل نفس الشيء المستعربون وغيرهم ممَن يكتب في شؤون العلوم العربية، النظرية منها والتطبيقية؟ لا بالتأكيد. والسبب واضح، وهو أنّ ما يسمى منطقاً عند العرب هو بالضبط ما يسمّى بنفس الكلمة عند الغرب، أكان في عهده المسيحي الوسيط أو في عهده المدني الحديث. وإذا ما كان هناك اختلاف في النتائج، في أنواع المعارف المتولّدة عن ذلك المنطق، فلا يمكن إلّا أن تكون عائدة إلى تأويله وطريقة توظيفه.
الوضع هنا مختلف عما وُجِد في الصين أو اليابان أو الهند. هنا المنطق المعتمد واحد، ونعني به المسند الأرسطي، عند المسلمين وعند الغربيين، مع فوارق طفيفة خاصّة في العهد الوسيط. وبسبب خصوصية هذا الوضع طرحنا السؤال السابق على الشكل الذي قد يستغربه البعض، وسَبّقنا إمكانية تطويع المنطق في إطار علم مطلق على إمكانية إنتاج منطق يوافق علم يكتسب بالتدريج. لا يمكن إذن أن نفعل ما يفعله غيرنا، أي أن نستخرج من العلوم والتقنيات العربية منطقها الضمني ونقول: هذا هو المنطق العربي كما يقول غيرنا هذا هو المنطق الصيني أو الهندي. إذ المنطق الذي اعتمده العرب، عن صواب أو عن خطأ، هو حاصل قبل العلوم المكتسبة. هذا معطى أولي تاريخي لابدّ من اعتباره. لا مناص لنا من البدء بالسؤال عن تأويل العرب لمنطق جاهز ومقارنة ذلك التأويل بتأويل آخر قام به غير العرب المسلمين، قبل وبعد نبوغهم.
لا شيء يوضح لنا مفهوم العقل عند المسلمين أكثر من مقارنة مسار المنطق عند العرب وعند الإفرنج، طبعاً مع مراعاة توالي المراحل. ونعني بالمنطق كُتُب أرسطو الثمانية كما ترجمت ولخصت وشرحت في الشرق الأدنى وأوروبا الوسيطية من القرن الثالث ق.م. إلى غاية القرن الخامس عشر ق. م.►
المصدر: كتاب مفهوم العقل
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق