• ٢٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٢٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

مفهوم الإسلام عن نفسه

وليام مونتغومري وات ترجمة: د. علي عباس مراد

مفهوم الإسلام عن نفسه

نتطرق في هذا الموضوع لدراسة بعض جوانب مفهوم الإسلام عن نفسه كما هو في حد ذاته وبصرف النظر عن علاقته بالمجتمعات الدينية الأخرى، والمسألة المهمة هنا هي مدى تشويه هذا المفهوم أيديولوجيا من قبل مجموعة أو أخرى ضمن المجتمع الإسلامي. وقد تمّ اختيار مظهرين لدراستهما وهما فكرة المجتمع القائم على الوحي الديني وفكرة الإسلام التقليدي الأصولي.

1- مجتمع الوحي الديني:
يبدو القول بأنّ المجتمع الإسلامي يقوم على الوحي عرضاً بسيطاً لحقيقة موضوعية، مع ذلك سيبيّنُ القليل من التفكير أنّ الأمر لم يكن كذلك، أو أنّه على الأقل ليس واضحاً جدّاً كما يظهر، لذلك يجب النظر إلى العرض في سياقه الثقافي الكلي، حيث بدأ الإسلام بين العرب كحركة دينية وسياسية في آنٍ واحد، وكان الوجه الديني للإسلام هو الأكثر بروزاً في البداية، إلا أنّ النجاحات السياسية في حياة محمد (ص) ونصف القرن التالي، جعلت الوجه السياسي للإسلام يلوح لفترة من الزمن بشكل أكثر تضخماً في عيون كثير من العرب. وفي الحقيقة، إنّ العرب وجدوا أنفسهم وقد أصبحوا أرستقراطية عسكرية تحكم إمبراطورية تسيطر على شعوب ذات مستوى ثقافي رفيع وبالتحديد تراث فكري أكثر تطوراً، وأصبح الإسلام وريثاً لحضارات الشرق الأوسط المبكرة لأنّ هؤلاء الناس تحولوا إلى الإسلام وتقاسموا ميراثهم الثقافي مع العرب، أو لأنّ العرب استوعبوا شيئاً من الميراث الثقافي للمنطقة من خلال زيادة إتصالهم مع غير المسلمين، وبذلك كانت الثقافة الإسلامية الجديدة إعادة تكوين متواصلة لكثير مما كانت له قيمة في هذه الثقافات الإسلامية الجديدة إعادة تكوين متواصلة لكثير مما كانت له قيمة في هذه الثقافات السابقة، فهل يصح إذاً في هذه الظروف القول بأنّ المجتمع الإسلامي كان قائماً على الوحي الديني؟ أو هل أن هذا التصريح ينطوي على تحريف أيديولوجي؟
من الواضح بالطبع أن وجود المجتمع الإسلامي لم يكن ممكنا لولا العرب، إذ جاء منهم الدافع الأصلي والجيوش الفاتحة والإداريون الاستبداديون المبكرون، وجاءت منهم أيضاً الديناميكية الدينية المستمرة التي غذّاها القرآن العربي لقرون عديدة، وقد يُنسب للعرب أيضاً الكثير من المنظور الأخلاقي للإسلام وشيء من ذوقه الجمالي خاصة في الأدب. وكان القليل من العرب، من جانب آخر، مصدراً للعناصر الفكرية للثقافة الإسلامية، وكان هناك، وعلى العكس من ذلك تماماً، استيعاب حقيقي نوعاً ما عبر تبني طرق علمية أكثر من تبني نتائج محددة، ومع ذلك، كان المسلمون يتكيّفون وفقاً للمناخ الفكري للمنطقة حتى عندما كانوا يقاومون هذا المناخ لتترك الثقافات السابقة بصمات واضحة على الثقافة الإسلامية.
يمكن في هذه الظروف أن نترك للتفسير الخاص للقارئ مسألة التأكيد على صدق أو كذب عقيدة قيام المجتمع الإسلامي على الوحي، فإذا كان معنى ذلك أنّ الوحي هو مصدر الفعالية الأساسية للحركة التي أنتجت هذه الثقافة فذلك صحيح، ولكن من اليسير أيضاً الانتقال من هذا المعنى إلى معنى آخر يفيد بأنّ الوحي مصدر كل شيء تقريباً في الثقافة الإسلامية وهذا معنى أيديولوجي يبالغ في التأكيد على دور العرب والتقليل من دور المسلمين من الشعوب الأخرى. ولوحظ شيء من هذا تقريباً من خلال الطريقة التي أوجد بها الوحي القرآني معايير لصدق التراث التاريخي، وظهر ذلك أيضاً في التمييز بين العلوم الإسلامية (التي تساعد على دراسة القرآن والحديث والشريعة) والعلوم الأجنبية (مثل الفلسفة والرياضيات)، ونما لصالح المسلمين الاهتمام بالأخيرة تدريجياً شيئاً فشيئاً، لكن أقساماً من الفلسفة، مثلاً، استمرت دراستها لاندماجها ضمن علم العقائد الدينية، الأمر الذي تزامن مع إهمال العلوم الأجنبية في علم الكلام الأشعري، إذ ليس هناك أية أهمية لدراسة الطبيعة إذا لم تنبثق كل أحداث الطبيعة وفقاً لقوانين ثابتة وليس وفقاً لإرادة الله الغامضة. وكان التأثير الأكثر جدية لهذا الانحراف الأيديولوجي في مفهوم المجتمع الإسلامي هو ادعاء المسلمين بأنّ محمداً (ص) هو مصدر جلّ الحكمة التقليدية في الشرق الأوسط (كما أثبت ذلك وجود الحديث) وعجزهم عن الاعتراف باعتمادهم على أسلافهم. وسيبدو المجتمع الذي يقوم على إدعاء من هذا النوع بعيداً عن أن يكون صحيحاً، وقد رتب الإسلام أموره لقرون للتعايش مع ذلك، لكن انفتاح العالم الإسلامي أمام الدارس الغربي الحديث، أظهر للعديد من المفكرين المسلمين حقيقة الأمور، ووضع المسلمين عموماً في الوقت نفسه (بسبب طبيعة ردهم الدفاعي) موضعاً لم يمكّنهم من استيعاب بعض جوانب التعليم الغربي.

2- تطبيق المجتمع للشريعة:
على الرغم من كثرة استخدام عبارة (الإسلام الأصولي Orthodoxy Islam) فليس هناك على وجه الدقة أصولية في الإسلام إلا بقدر ضئيل في علم اللاهوت/ علم العقائد الدينية، وعندما نتحدث عن الأصولية (Orthodoxy) فنحن نشير إلى السُنّة ولكن بشكل غير دقيق تماماً، والأصح أنّ عبارة (الإسلام الأصولي) تشير إلى (الكيان الرئيس للمسلمين السُنّة)، والأصولية اشتقاقاً هي (الإيمان الصحيح)، ومعيار التمييز بين الأصولية والبدعة هو معيار عقائدي، وعلى نحو مماثل فإنّ عكس السُنّة هو البدعة التي لا تقتصر على المعتقدات الفكرية الخادعة ولكنها قد تتضمن أيضاً بدعاً تطبيقية. وعلى الرغم من أنّ الأصولية بمعناها الدقيق ذات دور ثانوي فقط في الإسلام، إلا أنّ دورها في المجتمع الإسلامي مناظر لدور الأصولية في مجتمعات أخرى. وبينما يرى الكثير من الناس الصالحين في الأصولية مثالاً نبيلاً، فإنّها مشبوهة بالنسبة لعالِمِ اجتماع مثل كارل مانهايم الذي يقول:
"إنّ الأصولية ليست مجرد نزعة محافظة ولا موقف أساس ومباشر للعقل، بل هي شكل من رد الفعل، لأنّ المحافظ يتعاطى مع تراثه بشكل لا واع ويأخذه كمعطى نهائي متعاملاً معه بسهولة لأنّه لا يخشى ضياعه، إلا أنّ الرجعي صلب لأنّه يخشى فقدان من اليقين الذي هو جزء متمم لحياته. ويقود الانعدام المطلق لليقين إلى النسبية فالعملة لها وجهان فحسب وهناك ردود فعل مختلفة على نفس العملية المزعجة التي ندعوها أزمة التقويم".
قد يبدو أنّ هذا الانتقاد يفترض مقدماً المعنى الدقيق للأصولية، ولكن هناك تأكيدات أخرى عدا التأكيدات الفكرية، والإسلام تحديداً يجد تأكيده في عضوية المجتمع المُلهَم الذي يميّزه إتّباعُهُ للسُنّة التي هي أيضاً الشريعة. لذلك، يرى علماء الاجتماع أنّ الإصرار الإسلامي على إتباع السُنّة وتجنُب البدع نتيجة لخوف المجتمع الإسلامي من أن لا يكون مجتمعاً مُلهَماً، وبهذه الطريقة تصبح السنة في الإسلام موازية للأرثوذكسية في المسيحية، والمسلمون الأرثوذكسيون هم من يسمون أنفسهم "أهل السُنّة"، ويمثل الاختلاف بين المسلمين السُنة والمسيحيين الأرثوذكس الاختلاف بين اليونان والعقلانيين العرب. لقد كانت المعرفة عظيمة الأهمية لليونانيين الذين نزعوا لاعتبار الخطأ والخطيئة نتيجة لنقص المعرفة، وكان العرب البدو من جانب آخر متعلقين أكثر بإتباع سُنّة القبيلة التي هي مجموعة قواعد السلوك التي تجسد شرف القبيلة ونُبلّها، وكان من السهل نقل هذا المفهوم إلى المجتمع الإسلامي، فسُنته هي سُنّة محمّد (ص)، وشرفه ونُبله هو شخصيته المُلهَمة، وتعتمد الميزة التي تجعل منه مجتمع "أهل الجنة" على إتباعه لهذه السُنّة.
ولم يهمل المسلمون بالطبع المعايير العقائدية لعضوية المجتمع تماماً، فقد كان الإيمان الصحيح يُعدّ عادةً جزءاً من الشريعة، وربّما يرجع هذا نوعاً ما إلى المرجئة الذين كان الإيمان الصحيح، بالنسبة لهم على الأقل، عنصراً مهمّاً في الاختبار لعضوية المجتمع، أما المعتزلة، بوصفهم تلامذة للفلسفة اليونانية، فقد مالوا إلى التأكيد على الإيمان أكثر من تأكيدهم على عضوية الكيان الرئيس للمسلمين، لذلك ليس من المستغرب أن تمارس الحكومة العباسية المركزية في عام 833م وتحت تأثيرهم امتحاناً عقائدياً للقضاة والموظفين الحكوميين الآخرين (المحنة). وعلى الرغم من السقوط السريع لهذا الاختبار الخاص، فقد استخدم الحكام المسلمون في أغلب العصور التالية الامتحانات العقائدية كأساس لمعاقبة الأشخاص غير المرغوب فيهم، وبينما سيصنف هذا على أنّه بدعة دينية، كان عامة الناس في المدن قادرين في العادة على أن ينتفضوا ضد أي نوع من البدع، وارتبط قبول تلك الامتحانات بنمو قوة طبقة الفقهاء طالما ستنزع هذه الامتحانات إلى تأييد قوتهم.
لقد كان لمفهوم الإسلام عن نفسه بوصفه مجتمعاً يطبق شريعة إلهية مُنزّلة تأثير واحد هو ازدياد صعوبة تكيّف هذا المجتمع للظروف المتغيرة، والصحراء هي مصدر عقيدة المجتمع الذي يَتّبع السُنّة ويحافظ عليها لأنّ الشروط الأساسية للحياة هناك لم تتغير طوال ألف عام حتى جاء العامل النفطي. ولم يكن ذلك على أي حال مقنعاً لسكان مراكز مدن الإمبراطورية الإسلامية بمدنهم وتجارتهم وحضارتهم القديمة، إلا أنّ الصعوبة لم تظهر على الفور، إذ جرى وإلى حد كبير تكييف ممارسات المسلمين الأوائل في يثرب تبعاً للثقافات الأقدم في العراق وسوريا ومصر في المرحلة حتى العام 800م وقبل أن يهيمن مفهوم الشريعة الإلهية المُنزّلة، ومع أن تلك التغييرات أصبحت ممكنة، إلا أنّ مقاومتها استمرت أيضاً، وخير مثال على ذلك جدل الأشعري دفاعاً عن علم الكلام ضد منتقدي هذا العلم بوصفه بدعة. حيث كانت لدى الأشعري أفكار مختلفة في هذا الشأن كقوله إنّ النبي لم يُحرّم المناقشات الفكرية الدينية لذلك فإن تحريمها بدعة، فقد كان النبي يعرف تفاصيل هذه الأسئلة لكنه لم يتحدث عنها لأنّها لم تُطرح في وقته والنقاد أنفسهم يفعلون أشياء كثيرة لم يفعلها محمد (ص). والأشعري هو خير من خاض هذه المناقشات واستطاع الدفاع عن موقفه ضد النقاد، وأصبحت مدرسته مع الوقت هي المهيمنة على علم العقائد الدينية الإسلامية، إلا أنّ وجود النقاد استمر هو أيضاً، وكان يتم تبني وجهة نظرهم ببعض الطرق على نطاق واسع. وعلى الرغم من ذلك، قَبِلَ القسم الأعظم من أهل السنّة تجديداً معيّناً أصبح الإسلام معه أكثر صلابة، وأظهرت هذه الصلابة جديتها في القرن التاسع عشر عندما شعر الإسلام بتأثير الغرب وأصبح من الضروري القيام بتعديلات واسعة لا يمكن إنجازها إلا بصعوبة بالغة. وحاولت السلطات في مصر وكل مكان آخر في الأعوام الأخيرة إعادة تشكيل الممارسات الشرعية والتخلص من سلبيات معينة، إلا أنّ الشريعة كانت غير قابلة للتغيير، لذلك لا يمكن إنجاز عملية إعادة التشكيل إلا بطرق غير مباشرة وأكثر هذه الطرق نجاحاً هي إصدار أحكام قضائية تحدد اختصاصات المحاكم لأنّ من المعروف دائماً أنّ المؤسسة الحاكمة لها الحق في ذلك.
على أي حال، إنّ مثل هذه الطرق ذات تطبيق محدود، ولم تحقق إعادة تشكيل النظام الشرعي الإسلامي الكثير من الآن، حيث آل كثير من عمليات إعادة التشكيل تلك إلى الفشل، وتقرَرَ أنّ التخلي عن الإسلام وبناء شيء جديد أسهل من تغيير الإسلام، لذلك، تم إنشاء نظام تعليمي جديد جنباً إلى جنب مع نظام التعليم الغربي بدلاً من إصلاح النظام التعليمي الإسلامي التقليدي. وقطع مصطفى كمال الكثير من وشائج تركيا مع الإسلام بغية تغييرها وجعلها دولة حديثة، وبعد عمل جذري من النوع الذي يختفي معه الكثير من الإسلام أو يحتجب على الأقل، ربما سيظهر الإسلام مرة أخرى في شكل جديد، وليس مثل هذا التحول مستحيلاً طالما كان الإسلام ينزع دائماً للاعتراف بالأمر الواقع. وتعترف أغلبية أهل السُنّة بمبدأ الإجماع كأحد مصادر التشريع الإسلامي، ويمكن تطبيق هذا المبدأ لإضفاء الشرعية على التغيير الذي يلقى استحساناً عاماً لدى المسلمين، إلا أنّ هذا المبدأ يعمل ببطء، ومن ثمّ فإنّه ليس أداة للإصلاح المتسرع. وعليه، فعندما يفكر الإسلام في نفسه كمجتمع يقوم على الوحي ويطبق الشريعة الإلهية المُنزّلة، فإنّه يميل عندها إلى التفكير بأسلوب أيديولوجي، وليست هذه الأيديولوجية الإسلامية عقائد في حد ذاتها، لكنها تصبح كذلك من خلال الطريقة التي تفهمها بها غالبية المسلمين، وبسبب التحريف الأيديولوجي لهذه العقائد، فإنّها قد أعاقت تكييف المسلمين لأنفسهم للتعاطي مع التأثيرات الغربية. ومن ناقلة القول إنّ العقائد تنطوي على أوجه للحقيقة الجوهرية (فهي خيالية جزئياً حسب مصطلحات مانهايم)، ويمكن النأي بهذه الأوجه عن التحريف الأيديولوجي وهذه الإمكانية هي التي توصِلُنا إلى القسم التالي.

المصدر: كتاب الإسلام واندماج المجتمع

ارسال التعليق

Top