• ١٦ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٤ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

السماوات.. نظام ودقة

هارون يحيى

السماوات.. نظام ودقة
◄إذا كان الأمر كذلك فلابدّ أن يكون وراء المادة شيء آخر، هو شيء يتحكم في هذه المادة، يمكن أن يقال عن هذا إنه دليل رياضي على وجود خالق. (غي مارشي "كاتب علمي أمريكي"). خلال ليل الرابع من تموز من عام 1054 شاهد الفلكيون الصينيون حادثاً غير طبيعي! نجم ساطع ظهر فجأة بالقرب من برج (الثور)، وكان سطوعه شديداً بحيث كان يرى بسهولة أثناء النهار، لكن في الليل كان أكثر سطوعاً من القمر. فالذي شاهده الصينيون كان أحد أعظم الظواهر الفلكية الكارثية المثيرة للاهتمام في كوننا، لقد كان (سوبرنوفا). (السوبرنوفا) هو نجم يتفتت بالانفجار، أي هو نجم هائل يفجر نفسه انفجاراً ضخماً هائلاً، وتتبعثر مادّته في كلِّ الاتجاهات، والضوء الناتج خلال تلك الحادثة هو أشد بآلاف المرات من الضوء الطبيعي. العلماء اليوم يظنون أنّ (السوبرنوفا) يلعب دور مفتاح في تشكيل الكون، وأنّ تلك الانفجارات هي التي تسبب نشوء العناصر المختلفة وتنقلها إلى الأجزاء المختلفة من الكون، وافتُرِض أنّ المادة المقذوفة بهذه الانفجارات تتحد فيما بعد لتشكل مجرة جديدة أو نجماً في مكان ما آخر من الكون. ووفق تلك الفرضية فإنّ نظامنا الشمسي، الشمس وكواكبها بما فيها الأرض هي نواتج لبعض انفجارات (السوبرنوفا) القديمة، التي لا تُصدِّق. على الرغم من أنّ (السوبرنوفا) قد يبدو انفجاراً عادياً لكن هذه الانفجارات في الحقيقة مكونة بتفاصيلها من دقائق صغيرة جداً. ولقد كتب ميشيل دنتون في كتابه "قدّر الطبيعة" (Destiny Nature) ما يلي: "المسافات بين (السوبرنوفات) (وفي الحقيقة بين كلّ النجوم) هي مسافات حرجة لأسباب أخرى والمسافة بين نجوم مجرتنا هي حوالي ثلاثين مليون ميل، فإذا كانت تلك المسافة بمقدار أقل فالمدارات الكوكبية ستكون غير مستقرة (أي فاقدة للاستقرار)، وإذا كانت أكثر من ذلك فإنّ الشظايا المقذوفة من انفجار (السوبرنوفا) ستكون موزعة ومنتشرة جداً بحيث أنّ أي نظام كوكبي مثل نظامنا سوف لن يتشكل في كلِّ الاحتمالات وعلى جميع المستويات. فإذا أريد للكون أن يكون مكاناً للحياة عندئذ يجب أن تحدث الضربة السريعة (للسوبرنوفا) بمعدل دقيق جداً، ويجب أن يكون متوسط المسافة بينها (وفي الحقيقة بين كلّ النجوم) قريباً جداً من الرقم المشاهد فعلاً في الكون. إنّ المسافات الموجودة بين (السوبرنوفا والنجوم) هي مسافات غاية في الدّقة والضبّط، وإذا تأمّلنا في هذا الكون بشكل أعمق فإنّنا نلاحظ نظاماً إعجازياً خارقاً. (الانفجارات العملاقة الهائلة المعروفة بالسوبرنوفا تسبب حركة للمادة عبر الكون، والمسافات الهائلة بين نجوم الكون والمجرات تعدل وتخفف من خطر تلك الانفجارات وتأثيرها على الأجرام الأخرى).   لماذا يوجد فضاء: لنحدِّد الإطار الخارجي لبعض ما يحثناه سابقاً، فالكون الذي أعقب الانفجار العظيم كان سديمياً من غازي الهيدروجين والهليوم، والعناصر الأثقل أنتجت فيما بعد ما يسمى بمفاعلات نووية متعمدّة التصميم. وعلاوة على ذلك فإنّ وجود العناصر الأثقل ليس سبباً كافياً للكون لأن يصبح مكاناً مناسباً للحياة. والمسألة الأكثر أهمية هي كيف تشكل الكون وانتظم؟ وسوف نبدأ بالسؤال كم هو واسع هذا الكون؟ وقبل أن نشرح ذلك، نبدأ في بيان مدى اتساع الكون. قال تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ) (الصافات/ 6). كوكب الأرض هو جزء من النظام الشمسي، ففي هذا النظام يوجد تسعة كواكب أساسية مع أربعة وخمسين تابعاً (قمرا) وعدد غير معروف من النجيمات (كويكبات صغيرة كالجبال مختلفة الأحجام وتسبح في الفضاء) تدور حول نجم واحد يدعى الشمس. والشمس هي نجم متوسط الحجم بالمقارنة مع غيره في الكون، والأرض هي الكوكب الثالث بعداً عن الشمس. لنحاول أولاً أن نفهم حجم هذا النظام، إنّ قطر الشمس هو أكبر بمئة وثلاث مرات من قطر الأرض، ولكي نتخيل ذلك نقول إنّ قطر الأرض هو 200،12 كيلومتر، فإذا خفضناه سُلَمياً (عددياً) لأبعاد كرة زجاجية، فالشمس سوف تكون بحجم ملعب كرة القدم، لكن الشيء العجيب في ذلك هي المسافة بينهما، وبالاحتفاظ بمقاييس هذا السلم المُخفض فالمسافة الفاصلة بين الكرتين هي 280 متراً، وبعض الأجرام التي تمثل الكواكب الخارجية سيكون لها أبعاد قد تصل عدة كيلومترات بعيداً عن الشمس. قد يبدو ذلك ضخماً جداً، ومع ذلك فالنظام الشمسي ضئيل جداً في الحجم إذا قورن بالطريق اللبني والذي هو مجرة تسبَحُ فيه تلك الهباءة. ويوجد في تلك المجرة أكثر من 250 بليون نجم بعضها يشبه شمسنا والبعض الآخر أكبر من ذلك وبعضها أصغر، وأقرب نجم لشمسنا هو نجم (ألفاسنتوري) فإذا أردنا أن نضيف نجم (ألفاسنتوري) لنموذج نظامنا (الذي تخيلناه) فإنّ ذلك النجم سيكون على بعد 78 ألف كيلومتر من الشمس. إنّ هذا الأمر يصعبُ تخيّله ذلك أنّه عظيم جدّاً، لذلك دعنا نُصغّر السلم أكثر، فإذا افترضنا أنّ حجم الأرض هو من الكبر بحيث يساوي جسيمة غبار، فهذا سيجعل الشمس بحجم الجوزة، وبعدها عن الأرض حوالي ثلاثة أمتار، وسيكون نجم (ألفاسنتوري) موجوداً على بعد 640 كيلومتراً عن شمسنا. تحتوي مجرة الطريق اللبني على حوالي 250 بليون نجم مع مسافات بينها مُحيّرة للعقل من ناحية اتساعها، والشمس أقرب إلى طرف المجرة والتي لها شكل الحلزون أكثر من مركزها. حتى ولو كانت مجرة الطريق اللبني مُقزمة بالمقارنة بالاتساع الهائل لكلّ الكون، فهي واحدة من عديد المجرات التي ربما بلغ عددها 300 بليون مجرة وذلك وفق الحسابات الحالية، وأنّ المسافات بين المجرات هي ملايين المرات أكبر من تلك التي بين الشمس والنجم (ألفاسنتوري). علّق (جورج غرينشتاين) في كتابه "الكون التكافلي" على هذا الاتساع الذي لا يمكن تخيله بقوله: "لو كانت النجوم أكثر بعداً مِنْ بعضها البعض ممّا هي عليه بقليل لما كانت الفيزياء الفلكية أكثر اختلافاً عما هي عليه". ولن يكون هناك أيّ تغيّر، مهما كان بسيطاً، في النجوم والسّدم وفي بقيّة الأجسام السَماوية، وعند النظر إلى مجرّتنا من نُقطة بعيدة فانّ هذه المجَرة سَوفَ تكون كما هي عليه الآن. والفرق الوحيد، هو أنني عندما أستلقي على العشب ليلاً وأنظر إلى السمّاء فإنّني سوف أبْصرُ عدَداً أكبر من النجوم، عفواً ثمة اختلافٌ آخر: إنّ الذي يتابع ذلك المشهد سوف لن أكون "أنا" فالفضاء الشاسع الموجود في السَماء هو شرط أساسي لوجودنا. فسر (غرينشتاين) سبب ذلك الاتساع الفضائي من وجهة نظره بأنّ المسافات الهائلة في الفضاء تجعله ممكناً لأنّ تترتب فيه بعض المتحولات الفيزيائية كي تكون ملائمة تماماً لحياة الإنسان، كما أنه لاحظ أهمية هذا الاتساع الفضائي في السماح للأرض كي تبقى موجودة وذلك بتخفيض أخطار التصادم مع النجوم الأخرى. باخّتصار، إنّ توزع الأجرام السماوية في الفضاء هو بالضبط ما يلزم لحياة الإنسان كي تبقى قائمة على سطح كوكبنا، وسبب تلك المسافات الشاسعة الهائلة هو أنها نتيجة تصميم مقصود ومقصود لغرض ما وليس نتيجة للمصادفة.   الانتروبي والانتظام: كي نستوعب مفهوم الانتظام في الكون فإننا نحتاج أولاً إلى الحديث حديث عن القانون الثاني في الترموديناميك وهو أحد قوانين الفيزياء الكونية. إنّ القانون الثاني في الترموديناميك يقول بأنّ جميع الأنظمة في الكون إذا تُركت للظروف الطّبيعية فإنّها مع الزمن سوف تدخل في حالة من الفوضى وعدم الانتظام. وهذا القانون يدعى أيضاً بقانون (الانتروبي) وفي الفيزياء تعني الانتروبي كمية عدم الانتظام (الفوضى) في جملة، وانتقال الجملة من حالة مستقرة إلى حالة أخرى غير مستقرة هو ذاته كزيادة في الانتروبي لها. وعدم الاستقرار يتعلق مباشرة بالانتروبي لتلك الجملة. هذه المعلومة مألوفة واعتيادية وكثير من الأمثلة نشاهدها في حياتنا اليومية عنها. فأنت إذا تركت سيارة وهجرتها في مكان لمدة سنة أو حتى لمدة شهرين. فعندما تعود إليها فأنت بالتأكيد لن تتوقع أن تجد حالتها جيدة تماماً كما تركتها. ومن المحتمل أنك ستلاحظ أنّ الإطارات فارغة ومسواة بالأرض والنوافذ محطمة وأجزاء الجسم والمحرك متآكلة صدئة.. إلخ، وبطريقة مماثلة إذا أهملت العناية ببيتك لبضعة أيام فسوف تجده مُغبّراً وأكثر فوضى مع مرور الوقت، هذا نوع من الأنتروبي، على كل حال تستيطع إزالته بالتنظيف والتقاط الأشياء، ثم تأخذ النفايات إلى خارج البيت. القانون الثاني في الترموديناميك مقبول بشكل واسع لأنّه فعّال وصفته الربط. أما العالم (أنيشتاين) وهو أهم عالم في قرننا فقد قال إنّ ذلك القانون هو أول قانون في جميع العلوم. كما أنّ العالم الأمريكي (جيرمي زفنك) علّق في كتابة "الأنتروبي، نظرة العالم الجديد" (Entropy: A New World View) بما يلي: "قانون الأنتروبي سوف يسيطر كقانون نموذجي في الفترة التاريخية التالية. وقال (إلبرت أينشتاين) أنّ القانون الأول هو الأسبق لكلِّ العلوم. أما السير (آرثر أدينغتون) فقد أرجع ذلك القانون إلى كونه قانوناً ميتافيزيقيّاً أسمى لكلِّ الكون. (وكلمة ميتافيزيقي تعني ما وراء الطبيعة وما يكون ذا نظام غيبي معين). من المهم أن نلاحظ أنّ قانون الأنتروبي بذاته يعالج كثيراً من قضايا المادية غير الصالحة وبالضبط من البداية، لأنّه إذا كان يوجد تصميم معين ونظام في الكون، فإنّ القانون ينص على أنّه مع مرور الوقت فإنّ هذه الحالة سوف تزول من قبِل الكون ذاته، تُوجد استنتاجات يتم الوصول إليها من هذه المشاهدة: 1-    إذا ترك الكون لوحده فلا يمكن أن يبقى إلى الأبد، والقانون الثاني يقول أنّه بدون تدخل خارجي من نوع ما فالأنتروبي أخيراً سوف يتعاظم عبر الكون مسبباً حالة متجانسة كلياً. 2-    الادعاء بأنّ النظام والترتيب اللذين نشاهدهما ليسا نتيجةً لتدخل خارجي هو أيضاً غير صحيح، فعقب الإنفجار العظيم كان الكون في حالة فوضى تامّة والتي كانت ستبقى لو أنّ الأنتروبي تعاظم، ولكن ذلك تَغيّر لأننا نستطيع أن نرى ذلك بوضوح بالنظر فيما حولنا، وذلك التغير حدث بالخروج عَنْ واحد من القوانين الأساسية في الطبيعة وهو قانون الأنتروبي. (السيارة المهجورة تفسد وتتلف وتتساقط متفككة، وكلّ شيء في الكون يتعرض للأنتروبي، والقانون يقول أنه إذا ترك شيء ما لنفسه (لوحده) فكلّ شيء سيصبح أقل استقراراً وأقل تنظيماً مع مرور الوقت). (كلّ مجرة في الكون تدُل على تركيب منظّم موجود في كلّ مكان. تلك الأنظمة الرائعة والتي يحتوي كلّ منها على 300 بليون نجم وهي تكشف عن توازن وتوافق وانسجام). ولا توجد طريقة لتعليل وتفسير ذلك التغير ماعدا افتراض وجود نوع من الخلق الفوق طبيعي (الخارق للطبيعة). سنذكر مثالاً ربما يجعل النقطة الثانية أكثر وضوحاً، تخيّل أنّ الكون عبارة عن كهف هائل مملوء بخليط من الماء والصخور والوحل، فإذا تركنا ذلك الكهف وحيداً لبضع بلايين من السنين ثم عدنا إليه ونظرنا فإننا سنلاحظ أنّ بعض الصخور صار أصغر حجماً وبعضها اختفى، وأنّ مستوى الوحل صار أعلى. وأنّه صار فيه طين أكثر... وهكذا صارت الأشياء أكثر فوضوية وبالضبط هذا ما كنا نتوقعه. ولكن إذا وجدت بعد بلايين السنين لاحقاً أنّ الصخور منحوتة بنعومة ولطافة وبشكل تماثيل، فأنت بالتحديد ستقرر أنّ هذا الترتيب لا يمكن تفسيره بقوانين طبيعية، والتفسير المعقول لذلك هو أنّه من تدبير عقل مدرك واعٍ وهو الذي أراد لتلك الأشياء أن تكون على هذا النحو. لذلك فإنّ الترتيب في هذا الكون هو أعظم دليل على وجود إدراك ووعي فائق أسمى، والفيزيائي الألماني الحائز على جائزة نوبل وهو (ماكس بلانك)[1] يفسر الترتيب في الكون كما يلي: "إجمالاً نقول أنّه وفق كلّ شيء تعلمناه بالعلوم القطعية عن المملكة الضخمة للطبيعة والتي يلعب فيها كوكبنا الصغير دوراً تافهاً، أنّه يسود نوع من الترتيب والنظام في كلّ الحوادث لا يستطيع عقل إنسان أن يستوعبه، وفوق ذلك فنحن من خلال شعورنا نستطيع أن نؤكد أنّ ذلك الترتيب والنظام لا يمكن أن يصاغ إلا من قبل فعالية هادفة وثمّة دليلٌ يؤكد وُجُود ترتيب في هذا الكون". فسر (باول ديفز) انتصار هذا التوازن الرائع والتناسق على المادية هكذا: "أينما نظرنا في الكون من المجرات المندفعة بعيداً وإلى أعمق أعماق الذرة فإنّنا نواجه الترتيب والنظام... والفكرة الرئيسية لشيء خاص حقيقي مثل الكون المنظّم هو مفهوم المعلومات، فالجملة ذات التركيب الجيد تبدي مقداراً كبيراً من النشاط المنظّم، وهذا بدوره يحتاج إلى معلومات كثيرة لوصفه، وبديلاً عن ذلك ربما نقول أنّ ذلك النظام يحتوي كثيراً من المعلومات. ويَحضُرنا الآن سؤال فضولي وهو إذا كانت المعلومات والنظام لهما دوماً ميل نحو الاختفاء فمن أين أتت أصلاً كلّ هذه المعلومات التي جعلت العالم في هذه المكانة الخاصة؟ الكون مثل الساعة يجري ببطء شديد والسؤال الآن هو كيف أمكن لتلك الساعة أن يُعبأ دورانها؟ لقد اعتبر أينشتاين أنّ النظام الموجود في الكون لا يمكن تخيّله، ويمكن وصفه بالمعجزة، وعبّر عن ذلك قائلاً: "حسناً، وفق المبدأ الأسبق في الكون (البرهان على الناشئ من السبب إلى الأثر) كان الإنسان يتوقع أنّ العالم يُعالج بالقوانين، وأنه طيِّع مذعن للقانون والنظام، وحدود ذلك المبدأ هو المدى الذي يتدخل فيه ذكاؤنا الإنساني المُنظم... لكن بدلاً من ذلك فنحن نجد أنّ العالم المادي على درجة عالية من الترتيب لم نكن نتوقعه، كما لا توجد لدينا طريقة مسبقة تقرّبه أو تجيزه، وتلك هي معجزة تقوى أكثر فأكثر مع نمو معلوماتنا". وبالاختصار يتطلب النظام في الكون معلومات وفهم عميقين، فهو كون مصمّم ومنظّم ومحفوظ من قِبل الله. لقد أوضح الله في القرآن كيف أنّ السماء والأرض حُفظتا بقدرته العليّة السامية: ... (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (فاطر/ 41). يكشف النظام الإلهي في هذا الكون ضعف الاعتقاد المادي حول الكون باعتباره كتلة من مادة لا تخضع لشيء. وهذا ما توضحه آية أخرى هي: ... (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون/ 71).   النظام الشمسي: النظام الشمسي هو واحد من أروع الأمثلة لهذا التناسق التناغمي الجميل الذي يمكن مشاهدته، يوجد فيه تسعة كواكب مع أربعة وخمسين تابعاً وعدد غير معروف من الأجسام الصغيرة، والكواكب الرئيسة المعدودة بالابتعاد خارجاً من الشمس هي، عطارد، الزهرة، الأرض، المريخ، المشتري، زحل، أورانوس، نبتون، وبلوتو، والأرض هي الكوكب الوحيد الذي عُرف أنّ الحياة موجودة فيه، وبالتأكيد هي الوحيدة التي تستطيع الكائنات البشرية أن تحيا عليها وتبقى وتدين بالفضل لوفرة الأرض اليابسة والماء والجوّ القابل للتنفس. في تركيب المجموعة الشمسية نواجه مثالاً جميلاً آخر من التوازن، وهو التوازن بين القوى النابذة والتي يقابلها التجاذب الثقالي من أوليتها (ويقصد بالأولية في علم الفلك بأنّه شيء يدور حول جسم آخر)، فالأولية للأرض هي الشمس، والأولية للقمر هي الأرض، وبدون ذلك التوازن فسوف يقذف كل شيء في هذا النظام بعيداً في الأعماق الباردة للفضاء الخارجي، والتوازن بين هاتين القوتين يكون له محصلة في المسارات (المدارات). والمدارات هي المسارات التي ترسمها الكواكب أو الأجسام أثناء دورانها حول أوليتها، فإذا تحرك جسم بسرعة بطيئة جداً فسوف يسقط على الأولية ويغوص فيها، أما إذا ترحك بسرعة أكبر (أسرع) فالأولية سوف لن تتمكن من الإمساك به، وسوف يطير ذلك الجسم بعيداً في الفضاء، وبدلاً من ذلك لابد أن يتحرك كل جسم بالسرعة الصحيحة تماماً كي يحتفظ بمداره، والأكثر من ذلك هو أنّ التوازن يجب أن يختلف من جسم إلى آخر بسبب أنّ المسافة للكوكب إلى الشمس تختلف، وكذلك تفعل كتلتها، لذلك يجب أن يكون لَهَا سرعات مدارية مختلفة بحيث لا تغوص في الشمس ولا تقذف بعيداً عنها وتطير في أعماق الفضاء. يتضمن علم الفلك المادي فكرة وهي أنّ أصل النظام الشمسي وبقاءه يمكن تفسيره بالصدفة، وفي القرون الثلاثة الماضية صار عديد من المناصرين لها يتأملون في مدى روعة هذا النظام وفي كيفية ظهوره وبقائه لكنهم فشلوا كيفما توجهوا، لأنّه بالنسبة للمادي فإنّ التوازن والنظام في المجموعة الشمسية هي أمور غامضة لا تفسير لها عنده. قال تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (يس/ 40). يُعتبر الفلكيون من أمثال (كبلر وغاليليو) من أوائل الذين اهتموا باكتشاف ذلك التوازن الأمثل. وقد اعترف هؤلاء أنّ تصميمه تم بتأن وتؤدة، وأنّ هناك إشارة للتدخل الإلهي في كلِّ الكون. كذلك يعتبر (إسحاق نيوتن)[2] من العقول العلمية العظيمة والمتميّزة في كلِّ الأزمان، وقد كتب مرة: "النظام الرائع للشموس والكواكب والمذنبات يمكن أن تشرق من هدف وغرض لسلطة عليا لكائن قدير وعبقري... وهو يَحْكمها كُلَّها ليس كروح بل كسيد مالك لكلِّ الأشياء وبسبب سلطته العليا الغالبة فهو يدعى عادة بالسيد الإله القدير". (أينشتاين: نحن نجد في العالم المادي درجة عالية من الترتيب والنظام).   موقع الأرض: بالإضافة إلى ذلك التوازن الرائع فإنّ موقع الأرض في النظام الشمسي وفي الكون هو أيضاً آية أخرى على كمال العمل الإلهي في الخلق. بيّنت آخر الاكتشافات أهمية وجود الكواكب الأخرى للأرض، فحجم المشتري وموضعه مثلاً أتيا على نحو كانا فيه حدّيان، كما بيّنت الحسابات الفلكية ذلك، فأكبر كوكب في المجموعة الشمسية وهو المشتري يقدم الثبات لمدارات الأرض وكلّ الكواكب الأخرى، ويفسر النص التالي دور المشتري في حماية الأرض، والذي عنوانه "كيف يكون المشتري المميّز" وكاتبه هو (جورج ويذرل): "بدون وجود كوكب ضخم متَمَوْقع بدقة حيث المشتري موجود، فإنّ الأرض كانت ستصطدم في الماضي ألوف المرات وبشكل تكراري بالمذنبات والشهب وغيرها من الحطام بين الكوكبية، فإذا لم يكن المشتري موجوداً فلن نكون موجودين لندرس أصل النظام الشمسي". ولنقلها باختصار: إنّ تركيب المجموعة الشمسية صمّم خصيصاً لحياة الجنس البشري، ولنأخذ بالحسبان أيضاً مكان النظام الشمسي في الكون، فالنظام الشمسي موجود في أحد الأذرع الحلزونية الضخمة لمجرة الطريق اللبني، وهي أقرب إلى الطّرف منها إلى المركز. والسؤال المطروح هنا، ما هي المُحسنّة التي يمكن أن تكون فيها؟ ويفسر (ميشيل دينتون) في كتابه "قدر الطبيعة" (Nature Destiny) ذلك بقوله: "الذي يصدم بشدة هو أنّ الكون يبدو كما لو أنّه ليس ملائماً مثالياً لجنسنا ولتكيفنا الحيوي. ولكن من أجل أن نفهم أكثر وبسبب موضع مجموعتنا الشمسية في طرف الحافة المجرية فإننا نستطيع أن نُحدّق (نتفرس) أبعد في الليل للمجرات البعيدة، وأن نكسب معلومات عن كلِّ التركيب الشامل للكون، في حين إذا كان موضعنا في مركز المجرة فسوف لن نتمكن من النظر إلى جمال مجرة حلزونية ولا حتى أن نأخذ فكرة عن تركيب الكون". بكلمات أخرى. يعتبر حتى موقع الأرض في المجرة دليلاً على أنّ ذلك الموقع كان مقصوُداً لصالح الجنس البشري ليحيا عليها، ومع ذلك فهي تخضع لقوانين الفيزياء نفسها التي يخضع لها الكون. وهي الحقيقة الواضحة في أنّ الكون خُلق ونُظِّم من قبل الله. والسبب في أنّ بعض الناس لا يستطيعون فهم تلك النقطة هو إنكارهم. ولكن أي فكر موضوعي سيفهم بسهولة أنّ الكون خُلق ونُظم من قِبل الله لحياة الجنس البشري كما وضح ذلك في الآيات التالية: ... (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص/ 27). وهذا الفهم العميق وضح علاوة على ذلك في آية أخرى في القرآن:

... (.. وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 191).

 الهوامش:


[1]- الفائز بجائزة نوبل الفيزيائي (ماكس بلانك): يوجد نوع من النظام يسود كوننا وهذا النظام يمكن صياغته بعبارات النشاط الهادف.

[2]- إسحق نيوتن: أحد الرواد المؤسسين في الفيزياء الحديثة والفلك. رأى في تركيب الكون دليلاً رائعاً على الخلق الإلهي.

    المصدر: كتاب خلق الكون

ارسال التعليق

Top