كلما حاول الأديب أن يحرّر قلمه من التقريرية والمباشرة في الوصف، رفع من قيمة وروعة نتاجه الأدبي.
وقد يعمد القرآن الكريم إلى نفخ الحياة والعقل في الأشياء والجمادات، وهذا النوع من التصوير هو أسمى وأرفع أنواع التصوير الأدبي والفنّي.
وعلى سبيل المثال فلنتأمّل قوله تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ) (الأعراف/ 154)، وما فيه من جمال وفنيّة وروعة في التصوير؛ فلقد عمد القرآن الكريم إلى استعارة صورة الإنسان لحالة فوران الغضب في النفس، وكأنّ الغضب كائن ينمو في نفس الإنسان في حالة غياب سيطرة العقل ليحرّضه ويدفعه إلى الثورة والانفعال، وكأنّ – أيضاً – حالة هدوء هذا الغضب تشبه سكون ذلك الكائن وكفّه عن الدفع والتحريض، ونفس هذه الحالة – حالة إضفاء الحياة على الجماد – نجدها في قوله عزّ وجلّ: (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ...) (الملك/ 6-8).
فلقد أبدع القرآن الكريم في تصوير وتمثيل حالة سوء العاقبة، والعذاب الشديد الذي سيؤول إليه الخارجون عن طاعة الله في يوم القيامة، من خلال تشبيه جهنّم بكائن وحشيّ يكاد يتفجّر ويتميّز غضباً وغيظاً، فإذا له شهيق وفوران.
تشبيه العاقل بغيره:
وقد يحدث العكس – والضابط في ذلك تقديم الصورة الحيّة المؤثّرة في النفس والمساعدة على إدراك المعنى – فيعمد القرآن الكريم إلى تشبيه العاقل بغير العاقل، كقوله – عزّ من قائل – في تصوير حالة إعراض الكفّار والمشركين عن التذكرة الإلهيّة: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (المدثر/ 49-51).
فهذه الصورة تثير في نفوسنا الكثير من التهكّم بالحالة النفسية المسيطرة على المعرضين عن هدى الله، فهم يهربون من النور والحق هروب الحُمُر الوحشية من الأسد عندما تقع أنظارها عليه، فسوء عاقبة الكفار، ومرض قلوبهم، والغشاوة المحيطة بأبصارهم كلّ ذلك هو الذي دفعهم إلى الهروب من الحق والهدى وكأنّهم كائنات ألفت العيش في الظلمات حتى إذا سلّط عليها بصيص من نور استخفت ولاذت بالفرار منه!
استخدام المألوف:
والقرآن الكريم يوظّف في صوره الأدبية والفنيّة كلّ ما هو مألوف في حياة الإنسان، زيادة في التأثير، وضماناً في الاقناع؛ فقد يستمدّ عناصر تلك الصور من الطبيعة؛ من نباتها وحيوانها وجمادها كالعرجون، وأعجاز النخل، والعصف المأكول، والأشجار الطيّبة، والسنابل، والعنكبوت، والحمار، والكلب، والفراش، والجمال، والأنعام، والعهن المنفوش، والجبال، والحجارة، والخشب.. متوخّياً في كلّ ذلك الدّقة الفائقة في التصوير، هذه الدقّة التي تصل إلى حدّ الإعجاز، لاحظ – مثلاً – قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف/ 4).
فأيّة دقة ومطالبقة أكبر من أن توصف الوحدة والتلاحم اللذان ينبغي أن يسودا التجمّع الإيماني عند القتال بالبنيان المرصوص المتلاحم الأجزاء، والمتماسك إلى حد (الرصّ)، وعدم السماح لأي شيء بالنفوذ إلى داخله؟ فهذا التشبيه يثير في أذهاننا تصوّراً دقيقاً لقوّة ومناعة الجماعة المؤمنة وهي تحارب الأعداء.
وتحقيقاً لعنصر الدّقة في التصوير الذي يعدّ من أهم عناصر التعبير الفنّي يعمد القرآن الكريم في كثير من صوره إلى جعلها صوراً تفصيليّة لا تفوتها الجزئيات، فهو لا يكتفي بذكر صفة واحدة للمعنى الذي يطرحه، بل يبادر في كثير من الأحيان إلى مدّ هذا المعنى بأكثر من تشبيه، توخّياً للدقة التي تعدّ شرطاً ضرورياً وأساسيّاً لجمال الصورة وتأثيرها، تأمّل قوله تعالى: (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (القارعة/ 5).
فقد كان بإمكان التعبير القرآني أن يكتفي بوصف الحالة التي ستؤول إليها الجبال يوم القيامة بأنّها "عهن" أي صوف، ولكنّه أضاف إلى هذه الصفة صفة أخرى زادت من دقّة هذه الصورة، وأضافت إليها العمق والقدرة على التأثير فوصف هذا (العهن) بأنّه (منفوش) لكي ترتسم في أذهاننا صورة أقرب إلى الحقيقة عن مصير الجبال يوم القيامة.
الاستعانة بالمجاز والكناية:
وكما استعان القرآن الكريم بأساليب بلاغيّة من مثل التشبيه والاستعارة، فقد استند أيضاً إلى (الكناية) و(المجاز) مفضّلاً هذا الأسلوب في كثير من المواضع على التعبير الحقيقي الصريح الذي يقلّل من القيمة الأدبية والفنيّة للتعبير، ويحدّ من قوّة تأثيره في النفوس.
والكناية تعني التعبير عن معنىً حقيقي من خلال استخدام صورة غير حقيقيّة تبدو لا علاقة لها بذلك المعنى الحقيقي المقصود، ولكنّها تمتلك قدرة فائقة على تجسيد المعنى الذي يريد الأديب طرحه، لاحظ – مثلاً – قوله عزّ وجلّ: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) (الإسراء/ 29).
فواضح أنّ القرآن الكريم استخدم هنا الكناية في التعبير عن حالة البخل والإسراف، فالإنسان البخيل هو في الحقيقة إنسان غُلّت يده إلى عنقه فلا يمدّها للإنفاق على نفسه، وعلى الآخرين، والإنسان المسرف انبسطت يده كلّ البسط فإذا به يتلف أمواله، ويبذّرها في التوافه من الأمور دون أن يحكّم عقله في هذا الانفاق.
ولنلاحظ أيضاً روعة الكناية، وقوّة تأثيرها في النفوس في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ...) (الحجرات/ 12).
إنّها كناية لها أضعاف قدرة الحقيقة على تصوير بشاعة وقبح الغيبة، وإنّها لتمثّل لوناً من الأدب القرآني في تهذيب الأخلاق، والنهي عن الصفات الذميمة؛ فغيبة الإنسان المؤمن من قبل أخيه هي بمثابة أكل لحمه وهو ميّت، لأنّه كالميّت في حال غيبته إذ لا يستطيع الدفاع عن نفسه، فما الفرق إذاً بين اغتيابه، وبين أكل لحمه ميتاً؟ وأيّ عمل أبشع وأفظع من أن يأكل الإنسان لحم أخيه في العقيدة ميتاً؟
صور حافلة بالحياة:
وهكذا نرى أنّ القرآن الكريم يسعى دائماً في نهجه الأخلاقي والتربوي لأن يقدّم للإنسان صوراً ماديّة محسوسة حافلة بالحركة والحياة، ونابضة بكلّ ما يألفه هذا الإنسان لكي يتاح له إدراك واستيعاب تلك المفاهيم، والمعاني الأخلاقيّة، ومن ثمّ العمل بها في حياته، وعكسها على سلوكه.
وفي الحقيقة إنّ هذا هو المنهج الصحيح والسليم في التربية، لأنّ هذا اللون من المعرفة يعتبر من الموضوعات العملية المتصلة بأسباب وثيقة بسلوك الإنسان وحياته، فكان من الطبيعي أن تكون وسائل إيصال هذه التربية إلى الإنسان عملية ملموسة أيضاً.
وقد أثبت علم النفس التربوي الحديث أنّ التمثيل المادّي الملموس، والأساليب العمليّة هي من أنجع وسائل التربية، وأكثرها تأثيراً ورسوخاً في نفس الإنسان، ولذلك فليس من العجيب أن يركّز الخالق تعالى في كتابه الكريم على التعبير الأدبي والفنّي المستند بالدرجة الأولى إلى العناصر الحسيّة الملموسة والمألوفة لدى الإنسان في حياته؛ تمشّياً منه تعالى مع طبيعة هذا الإنسان المجبولة على الفهم، والإدراك في حدود تجاربها، ومعارفها المستمدّة من البيئة التي يعيش فيها.
المصدر: مجلة رسالة الثقلين/ العدد 10 لسنة 1994م
ارسال التعليق