• ١٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تهذيب النفس الإنسانية.. من وجهة نظر إقتصادية

د. طالب الحمداني

تهذيب النفس الإنسانية.. من وجهة نظر إقتصادية

إنّ المهمة الأولى للنظام الإسلامي السياسي هي القضاء على كل أشكال الظلم في العلاقات الاقتصادية، وإرساء الأسس لبناء نظام عادل في توزيع الموارد الاقتصادية. ولكن في الوقت ذاته فإنّ مصدر الظلم الإنساني، كما يذكر السيد الصدر، ليس منشأهُ العلاقات الاجتماعية أو أدوات الإنتاج، وإنما هي طبيعة النفس الإنسانية، وهي غريزة حبّ الذات التي تقود الإنسان نحو المحافظة على مصالحه ومعيشته الذاتية على حساب الآخرين. ووجود هذه الغريزة النفسية ضروري لبقاء وحفظ النفس الإنسانية ومعيشتها في الأرض.

فالفائدة مثلاً، وهي المظهر الاقتصادي لغريزة حبّ الذات النفسية والناتجة عن استثمار الملكية الشخصية، إنما تشكل الطاقة المحركة للماكنة الاقتصادية. فهي تعطي الفرد المستثمر الدافع الذاتي للعمل بجدية، والتغلّب على مصاعب العمل التي تواجهه في حقل استغلال الموارد الاقتصادية. ولكن ترك هذه الغريزة النفسية بدون قيود سوف تقود الإنسان إلى بعض مظاهر الظلم البشري، فعندما يركّز الإنسان على الحفاظ على مصالحه الذاتية فقط ينقاد إلى درجة الاعتداء على مصالح الآخرين. وبدون إيجاد حَل يتغلغل إلى داخل النفس الإنسانية فإنّ الفرد سوف يستغل كل الوسائل المتاحة له في استغلال مصالح الآخرين، حتى ضمن الأنظمة التي تقوم بتوزيع الثروات الاقتصادية بصورة عادلة. والواقع أنّ أساس التناقضات الاجتماعية الكبرى إنما هو نابع من إجحاف غريزة حبّ الذات النفسية. ففي النظام الرأسمالي، فهذه الغريزة النفسية تبرز بعدة أشكال من استغلال الآخرين في الحقل الاقتصادي. أما في النظام الشيوعي، وعندما يتم القضاء على الملكية الشخصية، تبرز غريزة حبّ الذات بأشكال من الظلم السياسي عن طريق الصراع على مصادر القوى وما تنضمنه من مواقع اجتماعية واقتصادية. فالدين بالنسبة للسيد الصدر يعطي البشرية الحل الوحيد للتناقض العميق في داخل النفس الإنسانية. فالدين يوفر القوة الذاتية من خلال الإرشاد والتهذيب الأخلاقي؛ للتغلب على نوازع الإنسان النفسية، وإعطائه القدرة على التحكم في تصرفاته مع الآخرين. أو بعبارة أخرى يقوم الدين بإنهاء التناقض الحاصل بين المصالح الاجتماعية والفردية. ومن أُولى الوسائل التي يرشد إليها الدين للسيطرة على النوازع الذاتية هي الجانب الروحي، ويعني تلك القوة النفسية التي تعطي الإنسان إرادة التحكم في تصرفاته الفردية. فهذا الإنسان الذي يمثل خليفة الله في الأرض بكل ما تعنيه الخلافة من مسؤولية في حمل الأمانة على الأرض، وتعني هذه الخلافة في الجانب الاقتصادي أنّ الإنسان هو أمين الله – عزّ وجلّ – في التصرف العادل للثروات التي وفرت له في هذه الحياة الدنيا، وسوف يحاسب على تصرفاته. فالخلافة تشمل أيضاً تلك المحاسبة الربانية للأعمال الشخصية للإنسان، والتصرف باستغلال الثروات والموارد الطبيعية بصورة تتلاءم مع أوامر الله – عزّ وجلّ –. فالتصرف غير المسؤول وتبذير الثروات التي وفرها الله إلى عباده تجعل الإنسان محاسَباً أمام الله، وينال جزاء سوء أعماله، كما أنّه ينال الإحسان الإلهي عند التزامه بتعاليم وأوامر الله. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأنعام/ 165). وعليه فإنّ الله – عزّ وجلّ – سوف ينزّل على النسان تعاليمه في كيفية التصرف المسؤول عن كيفية استغلال وتوزيع الثروات الاقتصادية التي أعطيت له. وهذه العلاقة المتلاحمة بين هذه الحياة الدنيا والحياة الآخرة التي توازن العلاقة بين المصلحة الشخصية مع المصالح العامة، فكل مَن يضحّي بمصلحته الشخصية من أجل الصالح العام في هذه الحياة سوف يجازى الثواب الإلهي في الحياة الآخرة. فالحل الديني هو ليس حلّاً ماديّاً للمعظلة الاقتصادية، بل هو حل يتصل بالجانب الروحي؛ لتهذيب النفس الإنسانية بأنّ خدمة الآخرين والتضحية بالمصلحة والمنفعة الشخصية من أجل المصالح العامة للأُمّة إنما تجازى بأحسن الثواب. وفي الإسلام فإنّ الخوف من العقاب الإلهي والرغبة بنَيل الثواب ورضوان الله تعوّض عن الدفع الغريزي لحالة الطمع الإنساني في النفس البشرية. وعندما يهذب الدين النفس البشرية في السيطرة على جَشعها وحبّها للمحافظة على المصالحة الشخصية على حساب مصالح الآخرين الكامنة ضمن طبيعته الإنسانية، فإنّ النظام الاجتماعي سوف يتغلب على التناقضات الحاصلة من تصرفات الظلم والاستغلال الفردي. وبما أنّ هذا الهدف المعلن هو مثاليٌّ بطبيعته، فقد وضع الإسلام آلية اجتماعية لتحقيق السلام والوئام ضمن المجموعة البشرية. فلم تكن الخلافة التي وضعها الله – عزّ وجل – تخص شخصاً معيناً من الناس، وإنما جُعِلَتْ لمجموع البشرية جمعاء. فالأمّة بكاملها هي التي تتحمل الأمانة التي اختصها الله لبني آدم، ومن ضمنها تلك المسؤولية العامة عن الثروات الاقتصادية. فجميع أبناء الأمة مسؤولون أمام الله في تصرفهم العادل وإرادتهم الحكيمة؛ لاستثمار الموارد الطبيعية لتحقيق الفائدة التي تعم الصالح العام للجميع. فالآية القرآنية الكريمة توضح هذه المسؤولية العامة: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا) (النساء/ 5). ويفسّر السيد الصدر الآية المذكورة أعلاه بأنّ الله – عزّ وجلّ – يعد أموال القاصرين والسفهاء من أموال الأُمّة جميعاً. فالمجموعة البشرية كلها محاسبة عن التصرف غير المسؤول لأموال السفهاء والقاصرين من الناس. وهذا يجعل الفرد ليس مسؤولاً أمام الله – عزّ وجلّ – في تصرفه الشخصي للثروات الاقتصادية فحسب، وإنما هو مسؤول أمام الناس أيضاً. ويدخل التهذيب النفسي الذي يدعو له الإسلام إلى درجة محاربة ربط بعض القيم الاجتماعية لملكية الثروات الاقتصادية، فالغنى واليُسر المادي للفرد يجب أن لا يكون مقياساً لمنزلته الاجتمعية. (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (عبس/ 1-10). فيريد الإسلام للإنسان أن يعد امتلاك الأموال والثروة المادية، عبءاً شخصيّاً يتطلب المسؤولية الملقاة على عاتق الأغنياء من الناس لاستخدامها في الصالح العام. فالثروة إنما هي وسيلة لخدمة الإنسانية، فلا يجب أن يكون الغني هو الهدف الأعلى الذي يجاهد الفرد لتحقيقه في حياته، كما هو في المجتمع الرأسمالي، والذي يجعل من الفرد مهتماً باستغلال كل الوسائل المتاحة لتكثير ثروته، حتى وإن أدّى هذا الهدف إلى استغلال الآخرين والإضرار بمصالحهم الشخصية. ولكن إذا عدّ الغنى وسيلة لشكر الله تعالى على نعمه، فتصبح مساعدة الآخرين هيَ الهدف الذي يجاهد من أجله الأغنياء والميسورون. وفي هذا يحاول الإسلام أن يغيّر من القيَم الإنسانية المتصلة بالغنى والملكية الشخصية للثروة المادية. فلا حاجة للقضاء على الملكية الشخصية للفرد كما تقترحه الماركسية، فسياسة التخلص من الملكية الشخصية، حسب ما يقول السيد الصدر، إنما هي سياسة فاشلة حتماً؛ لأنّها تسير ضد الطبيعة الإنسانية. والحل الوحيد لهذا التناقض، إنما يكمن في إصلاح القيم الإنسانية بطريقة تحوّل الثراء والغنى المادي من هدف أعلى للفرد إلى آلية لتحقيق هدف اجتماعي سامٍ.   المصدر: كتاب النظرية السياسية عند محمد باقر الصدر   المراجع: 1- اقتصادنا للسيد محمد باقر الصدر 2- النظام الإسلامي المقارن للسيد محمد باقر الصدر

ارسال التعليق

Top