• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

محمّد (ص) .. الأُمّي العالِم العابد

عمار كاظم

محمّد (ص) .. الأُمّي العالِم العابد

ممّا تميّز به خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند مُعلِّم بشريّ ولم ينشأ في بيئة علمية، وإنما نشأ في مجتمع جاهلي. ولم يُكذِّب أحد هذه الحقيقة التي نادى بها القرآن العظيم. وقد نشأ أيضاً في قوم من أشدّ الأقوام جهلاً، وأبعدهم عن العلوم والمعارف حتى سُمِّي ذلك العصر بالعصر الجاهلي.

ومع ذلك، فقد جاء بكتاب يدعو إلى العلم والثقافة، وتنشيط الفكر والتعقُّل، واحتوى على صنوف المعارف. لقد بدأ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعليم الناس الكتاب والحكمة وفق منهج بديع، حتى أنشأ حضارة فريدة، اخترقت الشرق والغرب بعلومها ومعارفها، وما زالت تتلألأُ بهاءً ونوراً. فهو أُمّي؛ ولكنه كان يكافح الجهل والجاهلية وعبادة الأصنام، كما جاء بدين قيِّم إلى البشرية، وبشريعة عالمية تتحدّى البشرية على مدى الزمن. ولذا فهو معجزة بنفسه في علمه ومعارفه، وجوامع كلمه، ورجاحة عقله، وثقافته ومناهج تربيته. ومن هنا قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف/ 158).

لقد أوحى الله إليه ما لم يكن يعلم، وعلَّمه الكتاب والحكمة حتى أصبح نوراً وسراجاً منيراً، وبرهاناً وشاهداً، ورسولاً مبيناً، وناصحاً أميناً، ومُذكِّراً ومُبشِّراً ونذيراً. فهو الذي شرح الله له صدره، وأعدّه لقبول الوحي، والقيام بمهمّة الإرشاد في مجتمع كانت تسيطر عليه العصبية البغيضة والأنانية الجاهلية، فكان أسمى قائد عرفته البشرية في مجال الدعوة والتربية والتعليم.

كما كان أوّل المسلمين وسيِّد العابدين حيث إنّ الخضوع المطلق لله، خالق الكون ومبدع الوجود، والتسليم التام لعظيم قدرته ونفاذ حكمته، والعبودية الاختيارية الكاملة تجاه الإله الأحد الفرد الصمد هي القمة الأولى التي لابدّ لكلّ إنسان أن يجتازها، كي يتهيأ للاجتباء والاصطفاء الإلهي. وقد شهد القرآن الكريم لهذا النبيّ العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي فاق النبيين (عليه السلام) في كلّ شيء حتى قال عنه: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام/ 163).. إنّه وسام الكمال الذي حازه هذا العبد الصادق في عبوديته، وفاق في ذلك مَن سواه على الإطلاق. وتجلّت هذه العبودية الصادقة في أفعاله وأقواله حتى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «قرّة عيني في الصلاة»، فقد حُبِّبت إليه كما حُبِّب الماء إلى الظمآن، فإذا شرب رَوِيَ؛ ولكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرتوِ من الصلاة، إذ كان ينتظر وقتها ويشتدّ شوقه للوقوف بين يدي ربّه عزّوجلّ، وكان يقول لمؤذِّنه: «أرحنا يا بلال».

ورُوِي أنّه كان يُحدِّث أهله ويحدِّثونه، فإذا دخل وقت الصلاة فكأنّه لم يعرفهم، ولم يعرفوه. وكان إذا صلّى يسمع لصدره أزيز (كأزيز المِرْجل)، ويبكي حتى يبتلّ مصلّاه، خشية من الله عزّوجلّ، وكان يُصلِّي حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فيقول: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟». وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يصوم شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كلّ شهر، كما كان إذا دخل شهر رمضان يتغيّر لونه، وتكثر صلاته، ويبتهل في الدُّعاء. وإذا دخل العشر الأواخر منه شدّ المئزر، واجتنب النساء، وأحيا الليل، وتفرّغ للعبادة. وكان يقول: «الدُّعاء مُخُّ العبادة، وسلاح المؤمن، وعمود الدين، ونور السماوات والأرض». وقد كان دائم الاتصال بالله، دائم الانشداد إليه بالضراعة والدُّعاء في كلّ عمل كبير أو صغير، بل إنّه كان يستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة، ويتوب إليه سبعين مرّة من غير ذنب. ولم يستيقظ من نوم قط إلّا خرَّ ساجداً، وكان يحمد الله في كلّ يوم ثلاثمائة وستين مرّة، ويقول: «الحمد لله ربّ العالمين كثيراً على كلّ حال»، ولقد كان دؤوباً على قراءة القرآن وشغوفاً به.

ارسال التعليق

Top