عندما ندرس حياة الزهراء (عليها السلام)، ومنذ أن فتحت عينيها على الحياة، رأت أباها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي بين وقت وآخر مُثقلاً بما يلاقيه من ضغوط وأعباء وأذى من المشركين، فتقوم (عليها السلام) باحتضان أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتخفِّف عنه آلامه وترعاه بكلِّ عطف وحنوّ.. فقد وُلِدت الزهراء (عليها السلام) ودرجت في بيت النبوّة وترعرعت في ظلال الوحي ورضعت حبّ الإيمان ومكارم الأخلاق وحنان الأب الرسول والأُمّ الطاهرة. وُلِدت (عليها السلام) في حدّة الصراع بين الإسلام والجاهلية وفتحت عينيها في ضراوة الجهاد بين الطليعة المؤمنة وقريش الوثنية الجائرة.
أحبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة (عليها السلام) وأحبّته، وحنا عليها وحنت عليه، فلم يكن أحد أحب إلى قلبه ولا إنسان أقرب إلى نفسه من فاطمة، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكِّد ذلك ليعرف المسلمون مقام فاطمة (عليها السلام) ومكانة الأئمّة من ذرّيتها (عليهم السلام) ليعطوا فاطمة حقّها ويحفظوا مكانتها ويراعوا الذرّية الطاهرة حقّ رعايتها.
كانت (عليها السلام) تحنو على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حنو الأُمّهات على أبنائهن وترعاه رعاية الوالدات لصغارهن. فذات يوم رأت أباها (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد الحرام وقد وضع المشركون الأوساخ والأقذار على ظهره بينما كان قائماً يصلي لربّه، فما كان منها (عليها السلام) إلّا أن تقدّمت لتزيل عنه الأوساخ بيديها الصغيرتين، معبّرة عن حزنها ومواساتها له (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدموع، وهذا ما جعلها (عليها السلام) تنفتح على المسؤولية وهي في طفولتها الأُولى، لتقف إلى جانب أبيها لترعاه وتحنو عليه، وهو الذي فقد أُمّه منذ أمدٍ طويل، وفقد زوجته الحانية، وقفت (عليها السلام) إلى جانبه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتحدّى بالرسالة ويواجه التحدّي من خلال الرسالة، هذا يسبّه وذاك يتهمه بالجنون أو السحر وثالث يلقي عليه الحجارة والأوساخ، وعمه أبو لهب يصرخ: «جَزماً سَحَرَكم محمّدٌ».. وتثقله (صلى الله عليه وآله وسلم) آلام الدعوة وهو يتحمّلها بصبرٍ، وعندما يعود إلى البيت يرى حنان فاطمة وعاطفتها ورعايتها التي لم تكن رعاية طفل يبكي دون وعي، بل رعاية وعي ينفتح ويبكي من أجل أن يواسي ويخفف الآلام عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد كانت (عليها السلام) تتحسس أنّ آلامه آلامها، فتختزن في طفولتها آلام الرسالة، وآلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ومَن يختزن في وعيه الطفولي المبكر آلام الرسول وآلام الرسالة، لا يسمح له الوقت أن يعبث أو يلهو أو يلعب، وهكذا نشأت الزهراء (عليها السلام)، لا كما ينشأ الأطفال.. نشأت رسالية في مشاعرها وعواطفها ومواقفها وكلّ حركتها.
وإنّنا نستوحي من هذا الحنوّ وتلك العاطفة التي ملأت بها فاطمة (عليها السلام) قلب أبيها وإحساسه، أن تكون تربيتنا لأطفالنا قائمة على أساس تنمية العاطفة وتقوية الحنان لديهم، ما يعطينا كآباء وأُمّهات رصيداً من حنان الأبناء والبنات عندما نحتاج إلى ما يخفّف متاعبنا، وبذلك يتحوّل الطفل إلى أب وأُمّ كما يتحوّل الأب والأُمّ إلى أطفال مع أولادهم، عندما يلاعبونهم ويلاطفونهم، وقد أكّد ذلك النبيّ الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «مَن كان له صبي فليتصاب له». إنّه النموذج القدوة من العلاقة الأبوية الطاهرة التي تساهم في بناء شخصية الأبناء وتوجه سلوكهم وحياتهم وتملأ نفوسهم بالحبّ والحنان.
وأحست (عليها السلام) بمسؤوليتها تجاه أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ينهض بعبء قيادة الدعوة الجديدة إلى النصر، فمضت تعطيه كلّ ما تملك من حنان الأُمومة والنبوّة، وترعى حياته بروحها وقلبها ومشاعرها الرقيقة الفياضة، وبالإضافة إلى هذا الدور الصامت الذي قامت به فاطمة (عليها السلام) في رعايتها لأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في أشدّ الأوقات حَرجاً وأعظمها قسوة، كانت أيضاً تشعر أنّ أباها يمثِّل كلّ شيء في حياتها، ولذا أحسـت أنّ عليهـا أن تبـذل له كلّ شيء من حياتها ووجودها.
كانت (عليها السلام) وهي الطفلة تتابع أباها (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتحرّك في دعوته، تشعر بمسؤوليتها عنه كما هي مسؤولية الأُمّ عن أولادها، وقد جاء في السيرة أنّه عندما ألقت قريش سلا الجزور على ظهر النبيّ وهو ساجد، فجاءت فاطمة وطرحته عنه، نعم، إنّ الزهراء (عليها السلام) كانت إنسانة تشعر بالحاجة إلى أن تتعمق في الانفتاح على قلب أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) والانفتاح على مسؤوليته في ما يخص مسؤوليتها، بأن تجسّد المثل الحيّ لأهل بيت الرسول (عليهم السلام) في نظرة الناس إليهم. وهذا ما يجب أن تتعلَّمه كلّ بنت رسالية الفكر عندما يكون أبوها رسالي الخطّ والمسؤولية، وكذلك كلّ امرأة تتصل بإنسان يعيش بُعداً رسالياً في حياته، عليها أن تتعلَّم أن لا تستغرق في ذاتياتها، بل أن تنفتح على مسؤولية أبيها أو زوجها أو أخيها أو ابنها لتتكامل معه في حركة المسؤولية، حتى لا تثقل مسؤوليته.. لقد كانت هذه العلاقة هي المثل الأعلى في رعاية الإسلام للفتاة والعناية بها وتحديد مكانتها.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق