"لقد كنت في طفولتي خجولاً، أو خجولة"
"كنت دائماً شديد الحساسية، وكان شعوري يُجرح بسهولة"
"كان يبدو أنّني كنت دائماً أخاف شيئاً ما"
"كان من العسير عليَّ أن يكون لي أصدقاء، وكنت أحسد أخوتي وأخواتي لقدرتهما على ذلك"
"كنت طول حياتي أريد أن أكون محبوباً، ذا حظوة عند الغير، ولكن كان ذلك عسيراً عليَّ".
"لا استطيع أن أعبّر عما يجول في ذهني، مهما بلغت معرفتي بالشيء الذي أريد أن أقوله. ويبدو لي أنّ هناك شيئاً يحول بيني وبين التعبير عن رأيي. اسمح للآخرين أن يبدوا آراءهم، وبذلك يغطون بأقوالهم على أقوالي، وأقف حيال هذا مكتوف اليدين. وبعد ذلك آخذ في التفكير في هذه الحالة الأليمة عندما آوي إلى فراشي، واحتد غضباً، وأحارب نفسي لأنّ الشجاعة قد خانتني، فلم استطع الدفاع عن آرائي ومعتقداتي".
ليست هذه الاعترافات مجرد أقاويل ساقتها الصدف. أنّها قرائن وأدلة لها أهميتها لطبيب الأمراض العقلية في تشخيص المرض.
الخجل – سواء في الصغير أو الكبير – من أكثر أعراض التعب في الجهاز العصبي ظهوراً، وهو في الوقت نفسه من أسباب إضعاف الطاقة العصبية.. فلندرس هذه الظاهرة إذاً من ناحيتين: كعارض أوّلاً، وكسبب ثانياً.
لا يولد أحد خجولاً:
ليس الخجل صفة يولد بها الإنسان، وإن كان صاحبه لا يذكر مناسبة واحدة في حياته، تجرد فيها من الخجل.. الخجل حالة مكتسبة، ارتبطت بحادث معين مفزع قد يرجع إلى عهد الطفولة المبكرة، لاسيّما إذا كان الجهاز العصبي ضعيفاً شديد الحساسية.
وخذ مثلاً:
طفل في السابعة من عمره مرهف الحس يُطلب إليه أن يعزف على الكمان أمام قريبة له بمناسبة حضورها للزيارة. وتلبية لهذا الطلب يمسك الطفل بالكمان ويسندها إلى كتفه بالكيفية التي تعلّمها، ولكنه وهو يفعل ذلك يشعر بإحساس غريب مزعج في معدته. تأخذ عضلات بطنه في التقلص. يقول في نفسه: "أخشى أن أقع مغشياً عليّ من شدة الألم أمام قريبتنا الزائرة".
وفي الحال يعتريه خوف مزعج، لاسيّما أنّه يعلم أنّ أُمّه تريده أن يعزف أمام الزائرة، حتى تظهر إعجابها به. وهنا أخذ يخشى أن يفتضح أمره بما يظهر عليه من الارتباك والألم. حاول أن يمس الأوتار بالقوس فعجز. فأخذت أُمّه في تشجيعه، فلما لم يجد التشجيع نفعاً، أخذت في توبيخه وأخيراً نجح الطفل بعض الشيء في مقاومة الميوعة والخوف، وتمكن بشق النفس أن يعزف لحناً، تقبل لأجله الإطراء، ثم أوسع الخطى منسحباً، إنقاذاً للموقف. فلا الضيفة ولا الأُم كان عندهما أدنى فكرة عما كان يشعر به الطفل أو عما حدث له. وللأطفال مهارة في حفظ الأسرار لا تضارع. ومهما يكن من شيء، فقد احتفظ الطفل بهذا الحادث الأليم، ولم يفه به لأحد. فإذا ما طلب إليه مرة أخرى أن يعزف على كمانه أمام أحد أو جماعة، فقد يتسبب عن خشيته من تكرار ما حدث له، أن تعود إليه تلك الأعراض فعلاً.. بل الواقع أنّ عودة هذه الأعراض لا مفر منها، إذا كان جهاز الطفل العصبي ضعيفاً، وكان قد ركّز تفكيره فيما حدث له، وساوره الهم لأجله. أما الأطفال الأصحاء ذوو الجهاز العصبي السليم القوي، فسرعان ما ينسون أمثال هذه الذكريات، وبذلك ينقذون أنفسهم من عامل الارتباط الذي يتسبب عنه مثل هذا الاضطراب. وهذا ما لا يستطيع عمله الطفل شديد الحساسية، الذي يلتصق حوله الخوف من افتضاح أمره أمام الضيوف، التصاق الكرمة حول الشجرة، وبذا يصبح جزءاً منه.
لنزيد هذه النقطة إيضاحاً.. إنّ هذا الخوف قبل كلّ شيء خوف من الأحاسيس، وهي التي انطلقت مندفعة في جسم الطفل الذي اتخذناه مثلاً. وقد كان يحتمل أن ترتبط بشيء آخر غير العزف على الكمان، كما إذا كان طلب إليه إحضار شيء من حجرة مظلمة، أو من مكان آخر أثناء هبوب زوبعة شديدة، أو إذا كان قد طلب إليه أن ينظر إلى هوة عميقة من مرتفع شاهق، أو أن ترتبط أحاسيسه بلعبة مع كلبه المدلل، أو في أية مناسبة أخرى.
وهذا ما يحدث تماماً في غير هذا من أنواع الخوف. مثال ذلك أصل الخوف من وقوف الطعام في الزور أثناء الأكل والخوف من الأماكن الفسيحة المفتوحة، والخوف من الأماكن المغلقة، أو الحيوانات أو الجراثيم والأقذار.
يبدأ الخجل في المدرسة:
قد يشعر الطفل بإحساس ألم مفاجئ يسري في جسمه، إذا ما دعي إلى الوقوف وتسميع الدرس أمام تلاميذ فرقته أنّه في هذه الحالة يريد أن يحسن القول، ولكنه يخشى أن تكون النتيجة غير ذلك، يخاف أن يفتضح أمره أمام زملائه، ويكون موضعاً لسخريتهم. وقد يرتبط خوف هذا الإحساس الذي يسري في جسمه بفكرة التسميع أو الكلام أمام مجموعة من الناس، فيخجل بعد ذلك من كليهما.
وإذا ما تكرر هذا الموقف وما يشعر فيه من أحاسيس، أصبح يحاول التملص من أن يُدعى للكلام. ويتسبب عن هذا الخجل وتمنعه من التسميع، تأخره في أعماله المدرسية ونواحي النشاط فيها، فإذا أقامت المدرسة حفلة راقصة امتنع عن الذهاب إليها. وإذا لم يغلب عليه الخوف وحضرها لا يجرؤ أن يطلب فتاة من زميلاته للرقص، وإنما يكتفي لمشاهدة الراقصين دون أن يساهم معهم. وهكذا يزداد ميلاً للوحدة تدريجياً وتجنب الغير. وتخلو حياته من صديق يثق فيه أو يبوح له بسره. وهكذا يبيت سجيناً مكبلاً بأغلال الخجل.
ومتى تمكنت صفة الخجل من اُمرئ، أصبحت جزءاً لا يتجزأ من شخصيته.
والخجل ينمو كما تنمو النباتات السامة.. تطول فروعه وتمتد إلى كلّ ناحية من نواحي الحياة، فتغزو فريسته في كفايته وقدرته على العمل، كما تغزو رياضته وتسليته ولهوه. فكم من ألوف النساء والرجال الأكفاء حسان الوجوه والأجسام، يسيرون في طريقهم والجبن باد على وجوههم، ويؤدون أعمالهم والشعور بالخجل والتعس والألم لا يفارقهم. يعيشون في حياة كلّها إحراج لهم، أو يخيل إليهم أنّ كلّ العيون في الطريق تتطلع إليهم، وتنتقد حركاتهم وسكناتهم وقلما يقدمون على إتيان عمل، بغير أن يخشوا استرعاء الأنظار إليهم.
وقد يصبح الخجل وسواساً.. فقد شهدت مريضة كانت تعتقد في أحد خديها حفرة تشوه منظرها، وتدعو المارة للتديق فيها والسخرية منها. وكانت تخشى الخروج حتى لا تكون أضحوكة لمن يراها في الشارع أو أي مكان آخر. ولما تمكنت منها الفكرة وأصبحت جزءاً منها، كانت تنظر في المرآة وترى فعلاً تلك الحفرة الموهومة، وتضع أصبعها فيها، فتزداد يقيناً من وجودها.
وكانت مريضة أخرى تشكو من أنّ فكها السفلي هبط حتى كاد يصل إلى صدرها، وكانت تؤكد لي أنّها تراه هكذا كلما نظرت خيالها في المرآة، ومن الأقوال التي كررتها على مسامعي: "عندما أنظر في المرآة لا يسعني إلّا أن أقول: ما هذه الخلقة القبيحة المشوهة؟".
وجاء مرة لاستشارتي مدير محل تجاري كبير، بشأن أمر طال تردده فيه، وأعجزه عن البت في الطريق الذي يسلكه حياله، قال أنّ الشيب قد دب في رأسه، ولا يدري إذا كان من اللائق صبغه أو تركه على حالته الطبيعية، وهو حائر لا يدري أي قرار يأخذ. فمن جهة يخشى أن يبدو عليه الكبر والهرم إذا ترك الشعر الأبيض يغزو رأسه، ومن جهة يخشى أن يصبغه، فيصبح أضحوكة زملائه ومرؤوسيه، والواقع أنّه كان شديد الرغبة في صبغ شعره ولكنه لم يجرؤ على اتخاذ قرار حاسم.
وكان إلزاماً لي أن أبين له أّن هذا التردد الذي سبب عذابه، وأرقه، وعصبية مزاجه، وقلقه، وارتيابه في نظرات زملائه ومرؤوسيه، وسرعة غضبه، وتعطيل عمله، لا دخل له إطلاقاً بالشعرات البيضاء التي دبت في رأسه، كلّ ما هنالك أنّ التردد تصادف ارتباطه بهذه الفكرة. وكان الأمر يكون كذلك، لو أنّه طلب إليه أن يبت بين أحد هذه الأمور: أما الزواج، أو شراء بيت، أو استثمار المال في تجارة.
وبعد الاستماع إلى قصة حياته، اتضح لي ما يأتي.. مرت عليه في شبابه فترة من التردد قاسى فيها شدة الألم، وذلك أنّه لم يستطع البت في الاحتفاظ بشاربيه أو الاستغناء عنهما، وكان في طفولته يخشى التلعثم في الكلام، بالرغم من أنّه كان لا يبدو عليه ذلك إلّا قليلاً.
والواقع أنّ هذا المريض كان منذ ولادته دقيق الحس ضعيف الجهاز العصبي، عرضة للشعور بأحاسيس بدنية عنيفة. وقد كانت هذه سبباً في شعوره بالخجل. وقد علمت منه أنّه لم تمر به فترة في حياته، كان لا يخاف فيها أن يبدو مضحكاً أمام الغير.
كان في صغره شديد الرغبة في أن يكون مثل زملائه من الصبية، وأن يكون موضع احترامهم وإعجابهم به، ولكن نظراً إلى خجله وتركيز همه في نفسه، لم تتحقق رغبته، ولما كبر، ظن أنّ الاحتفاظ بشاربيه، يضفي عليه شيئاً من الهيبة والوقار.. وهما صفتان كان يشعر بافتقاره إليهما، ومع ذلك فقد أحجم عن ذلك خشية أن يكون موضعاً لانتقاد أهله، وأضحوكة زملائه وأصدقائه.
أخيراً أطلق شاربيه، وبذلك تغلب على الخوف بوقوفه في وجه أحاسيسه، وقد كان هذا سبباً في تحسنه بعض الشيء، ولكنه بالرغم من فوزه في هذا الجولة، فإنّ الخوف كان لا يزال متأصلاً فيه، متغلغلاً في شخصيته. كان دائماً شديد التأثر إزاء كلّ ملحوظة أو إشارة يبديها إنسان عن منظره، والغريب أنّه كان حسن المنظر، حسن الهندام، أنيقاً. وكان يبدو أصغر سناً مما هو، وكان الناس يمتدحون قوامه وشكله، ومع ذلك فقد كان تفكيره يصوّر له كلّ مديح وإطراء، هزؤاً وسخرية. وكان يخيل إليه أنّ ما يقوله الناس عن حُسن هندامه وطلعته، بعيد عن الصدق والإخلاص. وكثيراً ما كان يتطرق إليه الشك فيظن أنّ الناس يضحكون منه في غيبته.
وكان قبل أن أبدأ في علاجه، يحتد غضباً وتثور أعصابه إذا ما حاول أحد مرؤوسيه إنجاز عمل معين من تلقاء ذاته بغير استشارته، لتوهمه أنّ هذا العمل إهانة له.
وقد نجح الدواء والعلاج النفساني في إنقاذه من عنف حساسيته وضعف جهازه العصبي، ونجحت عملية تربيته من جديد في إزالة الأوهام من ذهنه، فلم يعد يظن أنّ الناس يحدقون النظر فيه ويعلقون على ما يرونه في منظره. وتكسرت تدريجياً شوكة المرض فلم يعد يركز فكره في نفسه ودفاعه عما يتوهم فيها من هيبة زائفة ووقار كاذب. وحلت الطمأنينة محل الخوف، وبدا يدرك أنّ صبغ شعره أو تركه على ما هو عليه، أمر خاص به، لا يهم سواه، كما أنّ تخيره المظلة أو رباطة الرقبة، من شأنه لا من شأن غيره.
وكان طبيعياً، بعد شفائه من عصابه، أن يجد علاقاته بمرؤوسيه وزملائه قد تحسنت تحسناً كبيراً، وأن تجد زوجته الحياة معه أسعد مما كانت. وبالجملة بدأ يفهم حقيقة السلامة العقلية.
الخجل والانهيار العصبي:
وهذه حالة رجل من رجال الأعمال الذين كان الحظ حليفهم، فبلغ من النجاح ورغد العيش ذروته، ولكنه أخذ يشكو يوماً من انهيار أعصابه، ولم يجد تعليلاً لما حل به، لأنّه كان لا يبذل في عمله جهداً أكثر مما اعتاد طيلة الأعوام الماضية، ولم تشغل أفكاره هموم مالية، وكان وزوجته من أبرز سكان الضاحية التي كان يقطنان فيها، ومن أحب أفرادها إليهم. ولكن على حد قوله.. "أخذت أحس بغتة أنّني تمزقت إرباً إرباً، ولم يعد في وسعي أن أقوم بعمل غير إجهاد مضن".
وكان يشعر بما يشبه انفجارات شديدة الوقع في جسمه فيرتجف من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، ويسمع طنيناً متواصلاً في أذنيه، ويرى نقطاً وأشباحاً سوداء أمام عينيه، ويخيل إليه أنّ قمة رأسه على وشك الانفجار في الهواء، وكان وهو في هذه الحالة يشكو سوء الهضم، والتقلصات المعدية، والإمساك تارة والإسهال أخرى. ولجأ إلى الأطباء فشخصوا مرضه بالتسمم تارة وبالتهاب المرارة تارة أخرى وعالجوه على هذا الأساس، بغير نتيجة.. وساءت حالته يوماً بعد يوم.
ولم تكن آلام المعدة سبباً في آلام مبرحة وحسب، بل كانت نذيراً له بخطورة حالته. وأصبح يخشى الخروج من منزله، فتصيبه أزمات المرض في الطريق، وبات يخاف أن يعرض نفسه أمام الناس للسخرية والفضيحة، ولم يعد يجد لذة في عمله أو فيما يساهم فيه من ألوان النشاط في المجتمع الذي يعيش فيه. فكف عن الذهاب إلى النادي، وأن يلعب "الجولف" أو "البردج" وأن يصحب زوجته إلى الحفلات، وإذا ما جاءهم أصدقاء لزيارتهم، اعتذر عن البقاء معهم ولزم حجرته الخاصة.
ولما فحصته وأطلعت على سجل حياته في البطاقة التي أعدتها السكرتيرة، قلت له فوراً أنّ انهياره العصبي يعزى إلى خجله. فأبى أن يقر هذا التشخيص، وأحتج بقوله أنّ هذا مدعاة للضحك. ولكنه بعد أخذ ورد، وسؤال وجواب، اعترف بأنّه كان في كلّ حياته يحارب في نفسه شعوراً "بالحرج والارتباك" والتهرب من مقابلة الغريب الذي لم يسبق له عهد بمعرفته، أو كما قال لي حرفياً: "كنت أخشى دواماً أن أظهر بمظهر لا يشرف".
وكان هذا الخجل مصدر ألم له في المدرسة. حينما كان يطلب إليه التسميع أو الإجابة عن أسئلة، كان يضطر حينئذ أن يشدد الضغط على أسنانه، حتى يظل صوته متزناً واضحاً، واتبع هذه الوسيلة من ضبط النفس وتدريبها، في الألعاب الرياضية، وبعد ذلك في الحياة الاجتماعية في مرحلة الدراسات الجامعية، وكان مما اعترف به قوله: "أما في الحفلات الراقصة فكنت أشعر باضطراب شديد، بسبب العرق الذي كان يتصبب من جسمي. وكانت يدي تظلان مبللتين طول الوقت".
ولما أتم دراسته، توظف في عمل يتطلب المرور على العملاء وكان يكره ذلك بشدة، ولكنه وطد العزم – برغم هذه الكراهية – على أن يقوم به على أكمل وجه. ومن أقواله: "وكنت كلما ركبت المصعد الكهربائي لزيارة أحد مديري الأعمال لقضاء مهمة تخص وظيفتي، كانت تعتريني نوبات من الألم بسبب التقلصات المعدية، وكنت أشعر أثناء الحديث معه بتوتر شديد الوطأة، وكانت يداي ترتجفان، حتى تكونت عندي عادة غريبة، وهي وضعهما في جيبي. وفي النهاية أخرج وقد نالت مني هذه المهمة ما نالت، ومع ذلك كلّه كنت أنجز العمل الذي ذهبت لأجله".
أجل، قد أنجز العمل ولكن على حساب ماذا؟ على حساب الطاقة العصبية التي لا تقدر بمال، والتي نالت من جهازه العصبي الضعيف ما نالت، وقد استطاع أن يحتفظ بهذه الوظيفة زمناً، لأنّه كان يسمح له بعطلة لا بأس بها مرتين في العام، ولأنّ حياته البيتية كانت تعينه على مواصلة العمل. بيد أنّ ذلك قد انتهى أخيراً باستنزاف طاقته هبوطها إلى مجال النورستانيا فانهارت أعصابه وأقعد عن العمل.
وحتى يستعيد المريض صحّته، كان عليه أن يدرك حقيقة حالته، ويفهم أنّه – ليس كما يتصور – فريسة مرض خطير خبيث مجهول الاسم، بل فريسة الخجل ليس إلّا. وكان عليه أن يعلم أنّ هذا الخجل والمعارك العنيفة التي كانت يشترك فيها ضده، تسبب عنهما هبوط طاقته وشكواه من أعراض الإسهال والإمساك وتشنجات المعدة وتقلصاتها. وطنين أذنيه، والأشباح السوداء أمام عينيه، وارتجافه، وتصبب عرقه، وشعوره بأنّه لم يعد هو هو، وأنّ قمة رأسه تنفجر وتطير في الهواء.
احمرار الوجه:
هذه قصة شابة مثقفة تخرجت في إحدى كليات التجارة وعملت في إحدى المؤسسات كاتبة سجلات، ولما أنس رئيسها فيها الذكاء والكفاية، عرض عليها أن ينقلها إلى عمل آخر، أعلى مرتباً وأمتع، فأبت ذلك رغم كلّ إلحاح. فلماذا رفضت؟.. لأنّها مصابة بداء الارتباك والتحرج، والشعور بشدة الألم إذا كان عملها يستدعي التحدث إلى غريب أو العمل بين مجموعة من الناس. ولذا آثرت البقاء في وظيفتها على تفاهتها إذ فيها تتهيأ لها فرصة لا تجدها في سواها، إلّا وهي دفن وجهها في السجلات فراراً من لقاء الناس وجهها لوجه. هذه الفتاة لا ينقصها ذكاء ولا كفاية ولا مجال ولا طموح، ولكنها لا تطمئن إلى ملابسات الحياة اليومية. تخشى أن يفتضح أمرها لاحمرار وجهها خجلاً. وهذا ما يضطرها إلى إخفائه وراء الأوراق والسجلات، لأنّها منطقة الأمان.
وهذا شاب رياضي، كان في حياته المدرسية في مقدمة أعضاء الفرق الرياضية، وأحد المبرزين فيها، ولكنه كان على الدوام يحمر خجلاً إذا وجد مع فتاة. كان إذا قدمه أحد أصدقائه إلى فتاة أو سيدة، اندفع الدم إلى وجهه حتى أصبح قرمزي اللون، متوهج الوَجْنات، وتحولت كلّ من أذنيه لرقعة شديدة الاحمرار، وسبب ذلك أنّه كان يشعر أنّ الفتاة أو السيدة التي أمامه، مصوبة عينيها نحوه، تطيل النظر إليه، لأنّها تراه غريب الأطوار، وتحدو به هذه الفكرة إلى الإمعان في حمرة الخجل، وتصبب العرق، والارتباك.
وكثيراً ما يتخذ الناس احمرار الوجه ذريعة للدعابة والضحك. والواقع أنّه لا يوجب هذا ولا ذاك، بل يستدر العطف على صاحبه، لأنّه مصدر ألم لا مزيد عليه. فالكثير من النساء والرجال يشكو من احمرار وتصبب عرق، لا سبيل إلى التخلص منهما ومما يجلبانه عليه من حيرة وارتباك، وكلما تغلغل فيهم ذلك الشعور، تضاعف تركيز أذهانهم في نفوسهم، وزادت طاقتهم العصبية هبوطاً.
وأمثال هؤلاء، يدفع بهم الاحمرار والخجل إلى الشعور بالاختناق، وتقلصات الحنجرة، وفقدان الصوت، ومنهم مَن تساورهم أفكار مشوشة مفزعة تدور في رؤوسهم، فتضطرب أذهانهم ويعجزون عن التفكير السليم، ويبلغ بهم الخوف من الاضطراب وتشويش الذهن، أنّهم يلزمون الصمت فلا يفتحون أفواههم بكلمة.
هذه كلّها أعراض الخجل.. وهو خشية التعرض لسخرية الغير. وهذه الخشية كما سبق القول مراراً سببها ربطها بأحاسيس الجسم، فإذا ما خاف صاحبها منها، انتقل منها إلى الخوف من أوضاع أخرى يعتقد أنّها سبب سريانها في جسمه. وما سبب هذه الأحاسيس في الواقع سوى هبوط الطاقة في خلايا الجهاز العصبي، وبتجديدها بالعلاج تعود إلى حالتها الطبيعية. أما إذا اقتصر العلاج على الأعراض، دون تقوية الخلايا، اشتدت الأحاسيس وازدادت عنفاً وعدداً، وازدادت الطاقة هبوطاً. وهكذا تصبح الحالة دائرة خبيثة.
قد تكون خجولاً ولا تدري:
إذا كان الخجل طويل المدى – من الطفولة المبكرة مثلاً – فقد يجهل صاحبه أنّه خجول. فالكثير من الناس يتألمون من اضطرابات هضمية ومعوية، أو أمراض قلبية، أو قرح معدية، أو أكزيما أو ضيق في التنفس، وغيرها من العلل التي تدل على أنّها أعراض الخوف من الأحاسيس البدنية. كلّ هؤلاء يخشون أن يفتضح أمرهم أمام الغير.
هذا هو أكثر أنواع أمراض الخوف انتشاراً. وهو عادة أول لون من ألوان الخوف يساور ذهن المريض، ثم يتسع بعد ذلك إلى أن تتضخم أصوله وتمتد فروعه. وبهذه المناسبة نسرد في الفقرات التالية تاريخ مريض وليكن اسمه المستعار (س):
"كنت في السنوات الخمس الأولى من حياتي وحيد والدي، وحدث قبل أن أولد، أن فقد والدي عدة أطفال. فكان طبيعياً أن تشتد عناية والدتي بي، وتوجه كلّ همها وفكرها في صحّتي وفيما أفعل، ولم تكن تسمح لي أن ألعب مع غيري من أولاد الجيران، بدعوى اتصافهم بالخشونة وافتقارهم إلى الآداب السامية، وكانت تخشى على الدوام من أن يدفعوني إلى المساهمة معهم في عمل يتأتى عنه خطر أو نتائج غير حميدة. وكثيراً ما كانت تجرني جراً من بين رفاقي في اللعب. وقد عاقبتني مرة بالضرب بسبب اللعب معهم، وأمام عيونهم، فكرهتها للتدخل في حرّيتي، وعرفت أنّ هذا العقاب قد جعلهم يصفوني بعبارة "ابن ماما" وأمثالها. ولما لم يكن لدي حيلة لمقاومتها رضخت لرغبتها.
"وقد كان هذا سبباً في خجلي وابتعادي عن غيري من زملائي، وكنت اضطر إلى التعويض عن ذلك بالالتجاء إلى أبي أو عمتي أو جدي لتشجيعهم لي وعطفهم عليّ. وكانوا لا يترددون في اللعب معي، وكنت أشعر معهم بالطمأنينة".
"وقد كنت ناجحاً في مدرستي، مكباً على دروسي في الفرقة، وكان المدرسون راضين عني وعن عملي، وكانت نتائجي النهائية في الامتحانات حسنة. غير أنّ الشيء الوحيد الذي كنت أفشل فيه هو الوقوف أمام التلاميذ للتسميع".
"وفي مرحلة الدراسة الثانوية كانت نتائجي كذلك متفوقة غير أنّني كنت لا أساهم في الألعاب الرياضية أو النشاط الاجتماعي. ولم يكن سبب امتناعي عنها عدم الرغبة بها، إنما العكس هو الواقع، إذ كنت اتمنى من صميم فؤادي أن أكون محباً لمشاركة الغير والاندماج في الجماعة. وقد حاولت ذلك فلم أنجح. وكنت إذا تحدثت مع فتاة، شعرت بعدم ارتياح وعصبية في مزاجي، وكانت القريحة لا تجود بكلمة أقولها لها. فإذا حاولت الكلام، يأخذ العرق في التصبب في جبيني، وينخفض صوتي حتى يصبح الكلام تمتعة خائفة غير مفهومة، وأشعر بالخزي. ولجأت بعد ذلك إلى تبرير موقفي بقولي أّن أولئك الزملاء من فتيات وفتية غير جديرين بالاهتمام على كلّ حال، وأنّني أشد ذكاء من أكثرهم. وأصبحت بعد ذلك أسلك مسلك المتعالي المتباهي، وأشعر أنّ سواي لا يستحق مني سوى الازدراء والاحتقار".
"واشتغلت عاماً مع والدي في أعماله التجارية، ثم أعلنت الحرب فدخلت الجندية، حيث عهد إليّ بعمل كتابي في إحدى الفرق. وكان عملي مكللاً بالنجاح، ولم أجد أدنى صعوبة "خجل" في التحدث إلى الضباط، ولكني كنت أشعر بعدم الارتياح والقلق وعدم الميل للكلام، عند وجودي مع أمثالي من المجندين، ولم استطع أن تكون علاقاتي معهم كما يجب رغم محاولتي. ونظراً لما كنت أشعر به من تركيز أفكاري في ذاتي وعدم ارتياحي لوجودي معهم، كنت اتجنبهم. ولذا لم يكن لي أصدقاء، ولم أساهم في الحفلات التي كانت تقام لجنود فرقتي".
"وخطر ببالي مرة أن اتصيد فتاة كما يفعل الغير، ولكني عجزت عن ذلك لجهلي العثور عليها بنفسي. وكان مجرد التفكير في مرافقة فتاة غريبة لا أعرفها، ترتعد له فرائصي إذ كنت لا أدري كيف أسلك معها أو ماذا أقول لها".
"ولما سرحت من الجندية، استأنفت العمل مع والدي وكنت حينذاك قد بلغت العمر الذي ينتظر مني فيه أن أتحمل مسؤوليات العمل، كالمرور على المطاعم التي نبيع لها بعض منتجاتنا، ولكن مثل هذه المهمة كانت عبئاً ثقيلاً عليَّ. وكان ينتظر أن يكون مثل هذا العمل سهلاً، بل داعياً للتسلية، لأنّ والدي كان يعامل تلك المطاعم منذ أعوام طويلة".
"كان يخيفني في هذه المهام علمي أنّني سأتحدث إلى المدير أمام الناس، وأنّ جسمي سيبتل بالعرق بمجرد أن يفتح الباب المؤدي إلى مكتبه، وإنّ عضلات معدتي ستأخذ في التقلص. فأتلوى من الألم وأخشى أن أتقيأ. وكنت أشعر بخشونة في يدي، ولذا كنت أخشى التسليم على الناس. وكنت أخاف أن يهزأ بي الناس إذا ما خانني صوتي فيصبح كلامي فحيحاً ضعيفاً، لا يليق برجل مثلي ضخم الجسم. وكان مما يزيدني ارتباكاً خوفي من أنّ المدير والفتاة الجالسة إلى الخزينة، يرمياني بالجنون".
"وبالرغم من ذلك فقد كان لزاماً عليّ تأدية هذه المهام.. بيد أنّني كنت أعود بعدها مرهقاً، أجر قدمي جراً، ولا استطيع الذهاب إلى السينما، وكنت أكره البقاء مع أفراد أسرتي أو أن أشارك والدي في اللعب، بل كان كلّ همي أن أغلق باب حجرتي واستمع للإذاعة، وآسف على ما وصلت إليه حالتي..".
"تأكدت أنّني فاشل، تعيس، لا يرجى مني، لا حيلة لي في التغلب على متاعبي، وكنت أكره أن أفكر في السنوات الطويلة من عمري، وخطر ببالي أن استعير من المكتبة بعض كتب علم النفس والتحليل النفساني، ففعلت آملاً أن أجد حلاً لمشكلتي الغامضة، وأن أبحث إذا كان في هذا العالم أناس مثلي".
"وكنت كلما توسعت في المطالعة، زدت اضطراباً، وأخذت ألوم أُمي لتربيتي هذه التربية الفاشلة التي خلقت مني "ابن ماما". ثم أخذت ألوم والدي لأنّه لم يوقف أُمي عند حدها في التربية، في حين أنّه كان يجدر به أن يعرف عاقبة هذا النوع من التربية.. كلّ هذا لم يأتِ بنتيجة، ولم يبعد عني ذلك الشعور المخيف الذي يستولي عليَّ كلما لقيت أناساً لا أعرفهم وكان عليَّ أن أتحدث إليهم".
إنّ الأعراض التي كان يشكو منها هذا الرجل كانت في جملتها عقلية لا بدنية، برغم الآلام المعدية والعرق البارد إلخ.
لقد ولد بجهاز عصبي ضعيف، فكان عرضة لشدة الحساسية وسرعة التأثير مما يقال له أو عنه. وقد زاد هذه الحساسية معاملة الأُم. ويذكر القارئ أنّ هذا المريض كان يصادف ارتياحاً في اتصاله بعمته وجديه أكثر مما يجده مع نظرائه من الأطفال الذين في سنه. ولذا قضى شطراً كبيراً من عمره مستسلماً للخوف وعدم الاطمئنان والشك في نيات الغير.. كان لا يشعر بارتياح في حياته المدرسية والجامعية وخلال الفترة التي قضاها في الجيش، كلما حاول الاندماج في الحياة الاجتماعية، فلما نزل إلى ميدان العمل، تأصلت فيه كراهية المجتمعات. وقد تضاعف خوفه لسبب استسلامه لشعوره وتجنبه الغير.
وتسبب عن عصاب الخوف استنزاف الطاقة من جهازه العصبي. ولما اضطر إلى القيام بالمهام التي كان يكره القيام بها – وهي المهام التي تثير فيه تلك الأحاسيس الأليمة – اشتدت هذه الأحاسيس وساعدت على أضعاف طاقته فوق ضعفها.
حارب مشاعرك:
عندما أنصح المريض أن يحارب مشاعره ويقف ضدها ويتحداها، أكون قد مهدت لهذا النصح بشرح هذه المشاعر والأحاسيس له وإيقافه على طبيعتها.. فلابدّ من تعريفه أنّها عديمة الضرر، وأنّها شعور عادي يشتد ويتضخم بسبب مرضه، وأنّها كانت سبباً في خوفه زمناً طويلاً، ومتى أدرك جيداً هذه الحقائق، يطلب إليه أن يتحدى هذا الشعور ويقف في وجهه، ويقوم بعمل الأشياء التي كان يخشى القيام بها. عليه أن يخاطب هذه الأحاسيس بقوله: "هلمي، هلمي.. أنّني أعرف حقيقتك.. أعلم جيداً أنّك لا تستطيعين إيذائي، وأعلم أنّ الخطر الذي كنت أتوهمه فيك لا وجود له".
فإذا ما فهم المريض جيداً طبيعة أحاسيسه: أسبابها وخلوها من الضرر، وأتى الأعمال التي كان يخشى إتيانها يتبيّن له أنّ المشاعر التي تربط بهذه الأعمال باتت أخف حدة ووطأة مما كانت، ويدرك أّنه أصبح في وسعه أن يعمل اليوم ما كان يجبن أن يعمله بالأمس.
وحسب هذا الإدراك أن يكون معيناً له على تجديد طاقته والخطوة التالية أسهل من سابقتاها.. فكلما أتبع أمر الطبيب ووقف لأحاسيسه بالمرصاد، وتحداها أن تتقدم نحوه، أيقن أنّ حدتها قد خفت، وأصبحت لا تستجيب له إذا ما دعاها، والخطوة الأخيرة في سلم العلاج أنّها لا تعود. لقد شفى المريض تماماً.
وهنا أريد أن أوصي القارئ أن يقرأ هذه الفقرات مرة أخرى، لأنّها على الرغم مما تبدو عليه من السهولة والبساطة فإنّ معانيها تختلط على الكثيرين.
وأرجو ملاحظة النقاط الآتية بعناية:
· أنّني لا أوصي المريض أن ينفض يديه من هذه الأحاسيس ويأبى الاعتراف بها. فليس في وسع إنسان أن يخدع عصاب الخوف. بل ينبغي أن يواجهها بصراحة "في الفضاء الأوسع" وفي غير مداراة. أما إذا حاولت طمس معالمها، والزعم بأنّك لست خائفاً، فأنّك تكذب على نفسك، وبذلك تتضاعف قوة الخوف بدلاً من أن تكسر شوكتها.
· أنصح لك أن تلاقي الخوف كما هو – وعلى علاته – بعد أن أصبحت تتفهم طبيعته، وأيقنت أنّه عديم الضرر ومتى تسلحت بهذا الإدراك وهذا الفهم، تقدم نحو أحاسيسك بشجاعة وجرأة. فأنت مزود بسلاح الحقّ، والحقّ لا يغلب.►
المصدر: كتاب فن التعامل مع الناس
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق