• ٢٦ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٤ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القرآن الكريم.. معجزة خالدة

أسرة البلاغ

القرآن الكريم.. معجزة خالدة

- القرآن معجزة:

إنّ القرآن الكريم هو الكتاب السماوي الوحيد الذي أعلن وبكلّ صراحة وقوّة أنّ أحداً لا يتمكن من الإتيان بمثله، وحتى لو اجتمعت الإنس والجن، فلن يتمكنوا من ذلك (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) (الإسراء/ 88)، بل إنّهم لا يقدرون على الإتيان بعشر سور مثله (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (هود/ 13)، بل حتى سورة واحدة قصيرة ذات سطر واحد (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس/ 38).

إذن فمما لا يقبل الشك والتردد أنّ هذا الكتاب الشريف قد حمل معه دعواه بأنّه معجزة، كما أنّ مَن جاء به عرضه للبشر كمعجزة خالدة، وبرهان قاطع على نبوّته وإلى الأبد، واليوم. وبعد مرور أربعة عشر قرناً، لا زال صدى هذا الصوت الإلهي يطرق أسماع الجميع، صباح مساء.

إذن، فكلّ إنسان عاقل منصف يجزم بعد التوجه لكلّ هذه الملاحظات. بأنّ القرآن الكريم كتاب استثنائي لا يقبل التقليد والمحاكاة، ولا يمكن لأي فرد أو جماعة الإتيان بمثله مهما بذلت من جهود، وتلقت من تعليم وتدريب على ذلك، أي أنّه يملك كلّ خصائص المعجزة (من كونه خارقاً إلهياً للعادة، وأنّه لا يقبل التقليد والمحاكاة، وطرحه دليلاً على صحّة النبوة). ومن هنا فهو أفضل دليل قاطع على صدق دعوة النبيّ الأعظم (ص) وعلى أنّ الدين الإسلامي المقدس على حقّ وأنّ من أكبر النعم الإلهية على الأُمّة الإسلامية أن يكون هذا الكتاب الشريف قد نزل بصورة يبقى معها وإلى الأبد معجزة خالدة، وأن يملك في داخله الدليل على صدقه وصحّته واعتباره. هذا الدليل الذي يمكن لأي فرد فهمه واستيعابه وتقبله دون احتياجه لتعلم وتخصص.

 

- عناصر الإعجاز في القرآن الكريم:

الآن، وبعد أن عرفنا وبصورة مجملة أنّ القرآن الكريم كلام إلهي معجز، نوضح أكثر بعض عناصر الإعجاز القرآنية.

أ- فصاحة القرآن وبلاغته: إنّ أوّل عنصر من عناصر الإعجاز في القرآن الكريم هو فصحاته وبلاغته، أي إنّه تعالى استخدم لعرض مقاصده وفي كلّ موضوع أعذب الألفاظ وأجملها، وأجود التراكيب سبكاً واعتدالاً وإتقاناً ووقعاً، ومن خلال ذلك يوصل المعاني المقصودة للمخاطبين من خلال أفضل الأساليب وأقربها للفهم، لا يتيسر اختيار أمثال هذه الألفاظ والتراكيب المتناسقة الملائمة للمعاني العالية والدقيقة إلّا لمن كانت له إحاطة تامة بكلّ خصوصيات الألفاظ ودقائق المعاني، والعلاقات المتبادلة فيما بينها، ليمكنه اختيار أفضل الألفاظ والعبارات، مع ملاحظة كلّ أبعاد المعاني المقصودة وجوانبها، وملاحظة مقتضى الحال والمقام. ومثل هذه الإحاطة العلمية الشاملة لا يمكن توفرها في أي إنسان بدون الاستعانة بالوحي والإلهام الإلهي.

إنّ الجميع يدركون مدى ما يشتمل عليه القرآن الكريم، من أعذب الألحان الملكوتية والأنغام الخلابة، وإنّ كلّ العارفين باللغة العربية وفنون الفصاحة والبلاغة، فلا يتيسر إلّا لأولئك الذين يملكون الخبرة والتخصص في فنون الكلام المختلفة، ومقارنة ما يتميز به القرآن الكريم مع سائر أنواع الكلام الفصيحة والبليغة، واختبار قدراتهم بالقياس معه. ومثل هذه المهمّة لا يقوم بها إلّا الشعراء والبلغاء العرب، وذلك لأنّ أعظم ما كان يتميز به العرب من فن في عصر نزول القرآن هو البلاغة والأدب، إذ بلغ ذروته آنذاك وكانوا ينتخبون بعض القصائد والأشعار بعد نقدها وتقييمها أدبياً كأفضل المنجزات الفنية والأدبية. والملاحظ أنّ الحكمة والعناية الإلهية تقتضي أن تكون معجزة كلّ نبيّ متلائمة مع العلم والفن الشائع في ذلك الزمان، حتى يدرك جيِّداً امتيازها وتفوقها المعجز على كلّ المحاولات والمنجزات البشرية.

ب- أُمِّيَّةُ النبيّ (ص): إنّ القرآن الكريم بالرغم من صغر حجمه نسبياً كتاب يشتمل على مختلف أنواع المعارف والعلوم والأحكام والتشريعات الفردية والاجتماعية، ويحتاج البحث عن كلّ مجموعة منها فيه ودراستها دراسة كاملة إلى جماعات متخصصة تبذل كلّ جهودها العلمية وخلال أعوام طويلة، ليكتشفوا. بالتدريج بعض كنوزها وأسرارها المخبوءة، وليتوصلوا من خلال ذلك إلى حقائق أكثر، وإن كان اكتشاف كلّ حقائقه وأسراره وكنوزه لا يتيسر إلّا لأولئك الذين يمتلكون العلم والتأييد والمدد الإلهي، إنّ هذه المجاميع المختلفة تشتمل على أكثر المعارف دقة وسموا، وأرفع التعاليم الأخلاقية وأكثرها قيمة، وأكمل القوانين الحقوقية والقانونية والجزائية عدالة وإحكاماً، وأثرى المناسك العبادية والأحكام الفردية والاجتماعية حكمة، وأكثر المواعظ والنصائح تأثيراً ونفعاً، وأفضل الحكايات التاريخية عظة وتربية، وأنجع الأساليب التربوية والتعليمية.

وبأيجاز فإنّه يشتمل على كلّ الأصول والمبادئ التي يحتاجها البشر من أجل تحقيق سعادتهم الدنيوية والأخروية. ولقد امتزج كلّ ذلك بإسلوب رائع بديع لم يسبق له مثيل، بحيث يمكن لفئات المجتمع جميعاً الاستفادة والتزوّد منها، كلّ بحسب استعداده وقابليته.

إنّ جمع كلّ هذه المعارف والحقائق في مثل هذا الكتاب يفوق قدرة البشر العاديين، ولكن مما يزيد الدهشة والإعجاب أكثر، أنّ هذا الكتاب العظيم ظهر على يد إنسان لم يعرف الدرس والتعليم خلال حياته أبداً، ولم يمسك يوماً بيده قلماً وورقة، وقد نشأ في محيط بعيد عن الحضارة والثقافة. والأعجب من ذلك أنّه لم يسمع منه خلال أربعين عاماً قبل بعثته مثل هذا الكلام المعجز، وخلال أيام رسالته وبعثته أيضاً كان ما يصدر منه من آيات قرآنية ووحي إلهي يتميز بسبكه وأسلوبه الخاص، وهو يختلف تماماً عن سائر كلامه وأحاديثه، وهذا الفرق الواضح بين هذا الكتاب وسائر أحاديثه مشهود وملموس للجميع.

والقرآن الكريم يشير إلى هذه الأمور فيقول: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت/ 48).

وفي آية أخرى يقول: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (يونس/ 16).

وثمّة احتمال كبير في أن تكون الآية (23) من سورة البقرة: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)، مشيرة لهذا العنصر الاعجازي، أي أنّ هناك احتمالاً كبيراً في رجوع ضمير (مثله) إلى (عبدنا).

والحاصل: إذا افترضنا محالاً قدرة المئات من الجماعات المتخصصة والمثقفة وبالتعاون والاشتراك فيما بينهم على الإتيان بمثل هذا الكتاب، ولكن لا يمكن لفرد أُمِّي واحد القيام بذلك.

ومن جهات إعجاز القرآن الكريم.

ج- التناسق وعدم الاختلاف: إنّ القرآن الكريم كتاب نزل خلال ثلاثة وعشرين عاماً من حياة النبيّ (ص) وهي مُدَّة شهدت مرحلة مضطربة مليئة بالحوادث الملتهبة، وزخرت بالكثير من التحديات والمحن والحوادث المُرة والسعيدة، ولكن هذه المتغيرات لم يكن لها أي تأثير في تناسق محتويات القرآن وأسلوب إعجازه. ومثل هذا التناسق وعدم الاختلاف في شكله ومضمونه جهة أخرى من جهات إعجازه. وقد أشير إليها كما أشير للعلامتين السابقتين في القرآن الكريم: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82).

وتوضيحه: إنّ كلّ إنسان يواجه على الأقل نوعين من المتغيرات:

الأوّل: إنّ معلوماته وخبراته تأخذ بالتزايد والنمو، وهذا النمو والزيادة في ثقافته ومعلوماته وخبراته وقدراته تنعكس وتؤثر في أحاديثه وكلامه، وبطبيعة الحال، سوف يبرز الاختلاف الواضح بين أحاديثه خلال عشرين عاماً.

والثاني: إنّ حوادث الحياة المختلفة تؤدي إلى ظهور حالات نفسية ومشاعر وأحاسيس مختلفة، أمثال: اليأس والأمل، والفرح والحزن، والقلق والهدوء، ولمثل هذا الاختلاف في الحالات تأثير كبير في تفكير المرء وفي أقواله وأفعاله، وبطبيعة الحال، مع اشتداد هذه التغيرات واتساعها فإنّ أحاديثه سوف يطرأ عليها اختلاف كبير. وفي الواقع إنّ تغيرات الكلام خاضعة لتغيرات الحالات النفسية، وهي بدورها خاضعة لتغير الظروف الطبيعية والاجتماعية فإذا افترضنا أنّ القرآن الكريم من صنع النبيّ (ص) نفسه كإنسان خاضع لكلّ المتغيرات المذكورة، فمع ملاحظة الظروف المتغيرة الحادة التي شهدتها حياته فلابدّ أن تظهر في كلامه اختلافات كبيرة في شكله ومحتواه، مع أنّه لم يشاهد أي أثر لمثل هذه الاختلافات.

إذن، فهذا الانسجام وعدم الاختلاف في مضامين القرآن، وفي مستوى بلاغته المعجزة، يعد علامة أخرى على صدور هذا الكتاب الشريف من مصدر العلم الثابت واللامتناهي لله تعالى، الحاكم على الطبيعة وغير المحكوم لكلّ الظواهر المختلفة والمتغيرات.

 

المصدر: كتاب دروس في العقيدة الإسلامية

ارسال التعليق

Top