قال تعالى في كتابه العزيز: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2). إنّ المؤمنين هم هؤلاء، ومن خلال أداة الحصر (إنّما)، فإنّ مَن لا يتّصف بهذه الصفات فليس مؤمناً في عمق الإيمان. فأن تؤمن بالله، هو أن تتجلّى عظمة الله في نفسك في كلّ مواقع العظمة في صفاته، وفي كلّ آفاق العظمة في ذاته. وأن تؤمن بالله، يعني أن ينفتح فكرك وقلبك وإحساسك على أنعُم الله، لتتحسّس ارتباط وجودك به في كلّ تفاصيله، من خلال ارتباطه بالنِّعم التي أسبغها الله عليك. وقد عبّر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عن هؤلاء المؤمنين الذين يعيشون هذا الإحساس بالوجل أمام الله من خلال الشعور بعظمة الله، حيث يقول: «عظُم الخالق في أنفُسهم، فصغُر ما دونه في أعيُنهم»، فلقد تمثّلت عظمة الله في النفس، بحيث ملأت كلّ وجدان الإنسان، فلم يرَ أحداً عظيماً قبال عظمة الله سبحانه وتعالى، بل عندما دخل في مجال المقارنة، رأى أنّ الآخرين صغار صغار. فإذا كان الله يحصر المؤمنين في هؤلاء، فعلينا أن نعمل على تربية عظمة الله في نفوسنا، بالتفكّر في مواقع العظمة وفي مواقع النِّعمة، وفي الإحساس بالفقر المطلق فينا إلى الله الغنيّ المطلق عنّا، وأن نمارس ذلك ذِكراً وعبادةً وفكراً وما إلى ذلك.
(وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، إذا تُليت عليهم آياته الكونية وآياته القرآنية، بحيث إنّ إيمانهم يتحرّك ويتطوّر ويزيد من خلال زيادة المعرفة، فكلّما عرفت الله من خلال آياته أكثر، عرفت عظمته على أساس ما تفهمه من أسرار هذه الآيات أكثر، وهذا ما عبّر عنه الله تعالى في قوله: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (آل عمران/ 191) وينتهون إلى النتيجة (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ) (آل عمران/ 191) فنحن نستوحي من ذلك عظمتك ونستوحي عبادتك (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 191). وهكذا (وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ) آيات القرآن، من خلال النور الذي يشرق من كلّ آية (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ) (المائدة/ 15) (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة/ 257) وهو الهدى، فعندما تُتلَى عليهم آياته، فإنّها تزيدهم إيماناً، لأنّها تزيدهم معرفةً بالله سبحانه وتعالى، ومحبّةً له وخوفاً منه. من هنا جاء القرآن وجاءت السنّة الشريفة بالحثّ على قراءة القرآن (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمّد/ 24)، وهكذا نلتقي بالأحاديث الواردة في فضل قراءة القرآن، لأنّ العقيدة ترتكز على الله في توحيده، وجاء القرآن من أجل أن يعمّق توحيد الله في نفوس الناس.
لذلك، فلو قرأنا القرآن كلّه، لرأينا العنوان الكبير الذي يحكم كلّ سورة وكلّ آية هو «توحيد الله»، إمّا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، فقيمة القرآن أنّه يفتح عقولنا على الله من خلال ما في القرآن من موعظة ومن وعي ومن انفتاح ومن حركة نحو التفكير في آفاق الله سبحانه وتعالى. وهذا ما يدفعنا إلى أن نقرأ القرآن لنتثقّف به، ولتكون لنا الثقافة التوحيدية في تصوّرنا لوحدانية الله، والثقافة الإيمانية في تصوّرنا لكلّ خطوط الإيمان به، وفي تصوّرنا لمسؤولياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية والحركية في كلّ مواقع الحياة، لأنّ القرآن يختصر لنا كلّ ما جاء به، وما جاء به هو «الحياة» (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال/ 24)، لما يحيي قلوبكم وعقولكم وحركتكم في الحياة. ولذلك، فإنّ ما جاء به القرآن هو «الدعوة إلى الحياة»، أن نعيش حياتنا، فالله تعالى لا يريد لنا أن نهمل حياتنا، ولكن أن نعيشها كما يجب لنا أن نصنعها وأن نحرّكها وأن نغنيها وأن نوجّهها، وأن نفتح كلّ آفاقها على الله سبحانه وتعالى، لتكون حياتنا كلّها ذِكراً لله في الفكر وفي العاطفة وفي الحركة والممارسة والمسؤولية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق