◄إنّ الله تبارك وتعالى لعلمه بما ستجنيه هذه النفس الأمّارة بالسوء من الموبقات والمدنسات والخبائث، هيأ لها شتى الوسائل لتئوب إلى ربها وتكفِّر عن سيئاتها وتحظى بغفران الله وجليل رحمته. ومن أهم تلك الوسائل المطهِّرة للنفس الإنسانية من الدنس والرجس هو شهر رمضان المبارك بما فيه من إمساك وتسبيح وتهليل وتحميد ومناجاة وتلاوة قرآن وصدقة وإطعام وكفِّ النفس والجوارح عن الأذى وكلّ ما يؤدي إلى التسافل والتدنس. فالصوم نعم المربي وإنّ شهر رمضان المبارك شهر تربية وتزكية، شهر تهذيب وتثقيف دينيين. فكما أنّ بعض الأُمم تخصص أسبوعاً لشؤون التربية فتسمي هذا الأسبوع أسبوع التربية أو أسبوع المعارف، كذلك فإنّ الله تبارك وتعالى رحمة بعباده قد خصص شهراً للإنابة والاستغفار وكفِّ النفس عن مشتهياتها كي تكمل بالصبر والعزم على اقتحام الأذى. فإنّ النفوس تقاس بدرجة تحملها النوائب وصبرها على المكاره. لذلك قد جاء في الحديث القدسي أنّ الله يقول: "الصوم لي وأنا أجزي عليه" وفي حديث آخر: "عمل ابن آدم له إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به". نعم انّ الله يمتحن عباده بالصبر على البلاء والمكاره لأمرين: أوّلهما: انّ البلايا والمكاره مهذِّبة للنفس آخذة إياها إلى أرفع مراتب الكمال، ثانيهما: ليكون الجزاء عن جدارة ولياقة. وهو القائل: (وَأَنْ لَيْسَ لِلإنْسَانِ إِلا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأوْفَى) (النجم/ 39-41). ولا شيء أعلى مرتبة عند الله من الصبر. والصوم تمرين ورياضة على الصبر. فقد قال الله تعالى كما جاء في الحديث "كلّ أعمال ابن آدم بعشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلا الصبر فإنّه لي وأنا أجزي به" فثواب الصبر مخزون عند الله والصبر هو الصوم: وقد روي في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) (البقرة/ 45)، أي بالصيام. ولما كان الصوم في الحر أشد لذلك جاء عن الصادق (ع): "مَن صام يوماً في الحر فأصابه ظمأ وكَّل الله عزّ وجلّ به ألف ملك يمسحون وجهه ويبشرونه حتى يفطر وقال الله عزّ وجلّ: ما أطيب ريحك وروحك، ملائكتي اشهدوا أني قد غفرت له". ومن كلام رسول الله (ص): "الشقي مَن حرّم غفران الله في هذا الشهر" وإنما سمي هذا الشهر بشهر رمضان، لأنّه يرمض الذنوب (أي يحرقها) كما جاء في الحديث. وفي الإقبال عن كتاب الجعفريات عن الكاظم عن الصادق عن زين العابدين عن الحسين بن علي علي بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: "لا تقولوا رمضان، فانّكم لا تدرون ما رمضان، فمن قاله فليتصدق وليصم كفارة لقومه، ولكن قولوا كما قال الله تعالى: شهر رمضان. كلّ ذلك تنويهاً بعظمة هذا الشهر حتى سمّاه الله تعالى باسمه. ولكن قد ورد في بعض الأخبار لفظ رمضان مجرداً عن لفظ الشهر ولذلك حمل على الكراهة". الصوم زكاة الأبدان ومطهر إياها من الخبائث. فقد جاء في الحديث انّ لكلّ شيء زكاةً وزكاة الأبدان الصيام. وما أعظم الخطاب الذي خطب به رسول الله (ص) الناس قبيل شهر رمضان المبارك، فإنّه مستجمع لجميع الخصال التي يكون بها الإنسان إنساناً كاملاً، انّه خلاصة جميع الفضائل ودستور جامع لجميع الكمالات. فأين هذا البشر المادي المسكين من التمسك بهذه الفضائل وتتبع هذه المكرمات، ليست الوسائط المادية من النفس الإنسانية وكمالها في شيء. ولا أعلم ماذا ينتظر البشر بعد هذا الدستور الإلهي. فلا دستور بعد دستور محمّد (ص) وهل يجدون معشار ما في هذا الحديث النبوي من دساتير تكامل البشر في نظريات: دكارت أو اسبينوزا أو مالبرانش أو بركسون أو اسبنسر أو روسو. فقد روي عن الرضا أبيه عن آبائه عن عليّ (عليهم السّلام) عن النبيّ (ص) انّه خطب ذات يوم فقال: "أيها النّاس، إنّه قد أقبل إليكم شهر الله تعالى بالبركة والرحمة والمغفرة. شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيّامه أفضل الأيّام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات. وهو شهر قد دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجُعلتم فيه من أهل كرامة الله، أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعاؤكم فيه مستجاب. فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي مَن حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم. واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه. وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقِّروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم وعما لا يحل إليه الاستماع أسماعكم وتحننوا على أيتام النّاس يُتحنَّن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرحمة إلى عباده ويجيبهم إذا ناجوه ويلبيهم إذا نادوه، ويستجيب لهم إذا دعوه". "أيّها النّاس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالم ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله جلّ ذكره أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروعهم بالنّار يوم يقوم النّاس لربّ العالمين". "أيّها الناس من فطر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق رقبة ومغفرة لما مضى من ذنوبه. فقيل يا رسول الله وليس كلنا يقدر على ذلك. فقال (ص): "اتقوا النّار ولو بشق تمرة. اتقوا النّار ولو بشربة من ماء". "أيّها الناس من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام. ومن خفف فيه منكم عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه ومن كفّ فيه شره كفّ الله غضبه عنه يوم يلقاه، ومن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه. ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه.
ومَن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءةً من النار، ومَن أدى فيه فرضاً كان له ثواب مَن أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور. ومن أكثر فيه من الصلاة عليَّ ثقَّل الله ميزانه يوم تخف الموازين. ومن تلا فيه آية من القرآن كان له أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشهور". "أيها النّاس إنّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فاسألوا الله ربكم أن لا يُغلقها عنكم، وأبواب النيران مغلقة، فاسألوا الله ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة، فاسألوا الله ربكم أن لا يسلطها عليكم". قال أمير المؤمنين (ع):" فقمت وقلت يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر: الورع عن محارم الله عزّ وجلّ. ثمّ بكى، فقلت يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال يا عليّ، لما يُستحل منك في هذا الشهر. كأني بك، أنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخرين: شقيق عاقر ناقة ثمود، فيضربك ضربة على قَرنك تخضب بها لحيتك، قال أمير المؤمنين (ع)، فقلت: يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني؟ فقال (ص): في سلامة من دينك ثمّ قال يا عليّ، من قتلك فقد قتلني ومَن أبغضك فقد أبغضني، لأنك مني كنفسي وطينتك من طينتي... إلى آخر الحديث".►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق