إنّ أسلوب القرآن التربوي في هذا المجال هو الوصل بين (الإنسان) وبين (الله) وبين (اليوم الآخر) بما يشتمل عليه من (ترغيب بالجنّة) أو (ترهيب بالنار)، أي أنّ القرآن يُعزِّز (الفكرة) ويقرنها بـ(الأجواء الروحية) من جهة، ويعضدها بـ(التطبيقات العمليّة) من جهة أخرى.
فعلاقة الحبّ مع الله ليست علاقة عاطفيّة مجرّدة، بل هي رعاية لعياله (الخلق كلّهم) من خلال الأعمال التي تستجلب رضاه، أي أنّ (حبّ الناس) و(نفع الناس) و(خدمة الناس) هي تعبير إيماني وعملي عن (حبِّ الله)، وحيثما وردت عبارة (في سبيل الله) في القرآن، فإنّ المراد بها الأعمال التي تخدم الإنسانيّة.
أمّا الطرق أو العوامل المقوِّية لهذا الحب، فمنها:
1- الحمد والتسبيح والذكر والشكر:
قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة/ 1).
التطبيق الحياتي: (الحمد لله) ليست مجرّد كلمة شكر وثناء، بل هي أداة لتفجير منابع الإيمان في النفس، في استذكار واستحضار كلّ النِّعم التي لا تُعدّ ولا تُحصى لا في الجانب الإيجابي من النعمة و(المحنة)، بل حتى في جانبها السلبي (المحنة)، فالله تعالى حميد محمود فيما يهب وفيما يسلب.
ومثل الحمد لله (سبحان الله) عند مشاهدة مظاهر وآثار عظمة الله تعالى في الكون، كإعراب لا عن الإعجاب السطحي، بل تقدير أنّ وراء كلّ شيء عظيم ربّ عظيم، قادر، ومدبِّر، وعالم، ومحيط، ورحمان ورحيم.
ومثلهما قولك عن الخوف والضعف والإحساس بالخطر: "لا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله"، لتتحوّل الكلمة من ألفاظ لسانيّة إلى استمداد القوّة المطلقة، والاستعانة بمَن بيده كلّ شيء، والاستغاثة بمَن يرجع إليه الأمرُ كلّه.
أو الهتاف الوجداني (الله أكبر) عند مواجهة القوى الكبرى في الكون، لتتضاءل عظمتها إزاء عظمة الله الذي لا عظيمَ إلّا هو، أو مَن استمدّ العظمة من عظمته.
فذكرُ الله – إنّ في الحمد أو التسبيح أو التهليل أو التكبير – تتجلّى انعكاساتها الحياتية في وعي معانيها، وما يترتّب عليها من مزيد الإندكاك في ما يُرضي الله، والنأي – ما استطعت إلى ذلك سبيلاً – عن محارمه.
رُوي الإمام الصادق (ع): "شكر النِّعمة: اجتناب المحارم، وتمام الشكر قولُ الرجل: الحمدُ للهِ ربّ العالمين"[1]
ولابدّ من الالتفات – كتطبيق حياتي – أنّ شكر الله يتمثّل في شكرك للناس أيضاً، ففي أدبنا الإسلامي: "مَن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق".
يقول الإمام زين العابدين (ع): "يقول الله تبارك وتعالى لعبدٍ من عبيده يوم القيامة: أشكرتَ فلاناً؟ فيقول: بل شكرتكَ يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره، ثمّ قال: أشكَرُكُم لله أشكرُكُم للناس"!![2]
ذلك أنّ كل مَن له فضلٌ علينا هو أداةُ الله في إيصال نعمه إلينا، ولهذا أمرَ الله تعالى بشكر الوالدين: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) (لقمان/ 14).
2- الدعاء:
قال تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ) (الفرقان/ 77).
التطبيق الحياتي: إمكاناتنا مهما اتّسعت فهي محدودة، وللخروج من ضيق المحدوديّة فتح الله تعالى قناة للاتِّصال بـ(المطلق) أي به تبارك وتعالى، فإذا سُدّت جميع الأبواب يبقى الباب المفتوح عليه ملاذاً وملجأً ومعراجاً.
إنّك إذ تدعو الله يعني أنّك تعترف بوجوده وبقوّته وبقدرته وبرحمته وبرعايته وبلطفه وبإغاثته وبمدده. فالدعاء ليس هروباً من الحياة، بل هو الشعور العميق بحضور الله في الحياة، وبالحاجة الدائمة إليه في مطالب الدنيا والآخرة.
إنّ حقيقة الدعاء في حياتنا هي أنّه يجعلنا نشعر شعورين مختلفين: شعور بالانسحاق أمام الألوهيّة المطلقة التي تملك الملك كلّه وتتصرّف فيه بالإعطاء والمنع، وتملّك حاجاتنا، وشعور الأمن والطمأنينة والقوّة والعطاء والرحمة المطلقة، وبين هذين الشعورين: شعور (الفقر) وشعور (الاغتناء) تظهر قيمة الدعاء.
يقول النبي الأكرم (ص) في بعض دعائه: "اللّهمّ أغنني بالافتقار إليك، ولا تُفقرني بالاستغناء عنك"!!
قال الشاعر:
ويُعجبني فَقْري إليكَ ولم يكنْ **** ليُعجبني لولا محبّتُكَ الفَقْرُ!!
3- مُثول مشاهد القيامة أمام أعيننا:
قال تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنعام/ 27).
التطبيق الحياتي: (ولو ترى) أي كأنّك ترى، أو اجتهد أن تستحضر المشهد، فهو ليس من نسج خيال كاتب سينمائيّ، إنّما هي حقيقة واقعة، حيث أنّ تقديم مشاهد القيامة بصورة حيّة، يُراد له تجسيد قضيّة المصير في حياتك، لتواجهها بالإيمان أو عدمه، ولئلا يكون الموقف كما يرسمه المشهد طلب العودة إلى الحياة للاستدراك والتعويض ولا أمل في ذلك بتاتاً، فإنّ في الوقت مُتّسع لتدارك المشهد المروِّع والمهول، فلو أنّ أحداً نقل لك صورة حيّة لشخصٍ يحترق في منزلٍ شبّت فيه النِّيران فالتهمته، أكنتَ تُكذِّبه وتقول له: مستحيلٌ أن يقع شيء كهذا الذي أراهُ في الفيلم المصوّر؟!
إنّ كلّ مشهد من مشاهد القيامة ذُكِرَ في القرآن، هو عامل تربوي للمراجعة وإعادة الحساب، وتلافي ما يمكن تلافيه.
[1] - بحار الأنوار: 16/443.
[2] - بحار الأنوار: 24/262.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق