العقل أوّلُ ما خلق الله تعالى، كما في الرواية عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي الحديث القدسي، أنّه تعالى بعد أن خلق العقل خاطبه: «أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال: وعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً أحسن منك، بك أُعرف، وإيّاك آمر، وإيّاك أنهى، وبك أُثيب، وبك أُعاقب». من هنا تثبت أولوية العقل لقوله سبحانه وتعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة/ 242).
ولقد ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام): «عقلُ المرءِ نظامُه»، وجاء عنه (عليه السلام): «بالعقلُ صلاحُ كلِّ أمر»، ولعلّه استوحى ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي قال: «قوامُ المرء عقله، ولا دينَ لمن لا عقل له»، كما أدركه بوعيه المختزن لقيمة هذا المخلوق العظيم (العقل). فالعقل نِعمة مخلوقة لتُحرَّك في أجواء العطاء والبرّ، في كلّ شكل من أشكال علاقاتنا الاجتماعية والإنسانية، حيث تضبط حركة سلوكيات الإنسان، وتدعوه إلى الأخذ بأسباب التفكّر والتدبُّر، والابتعاد عن الانفعالية والأنانية، بل تجعله يوازن كلّ تصرّفاته بما يحقّق الأمان والاستقرار له.
من وصايا الإمام الكاظم (عليه السلام)، لتلميذه هشام بن الحكم، يقول (عليه السلام): «يا هشام، ما قسّم بين العباد أفضل من العقل»، فالله تعالى قسّم بين العباد أرزاقهم والكثير من أوضاعهم في ما يملكون من درجات في واقع الحياة. ولكلٍّ من هذه الأقسام فضل في واقع الإنسان، ولكنّنا عندما ندخل في المقارنة بين كلّ ما رزقه الله للإنسان، وما أعطاه من العقل، فإنّنا نجد أنّ العقل هو أفضل ما رزقه الله للإنسان، وما قسمه له، ذلك أنّ العقل في كيان الإنسان، يمثّل القيادة التي تمنحه الوعي لكلّ ما حوله، ولكلّ ما ينطلق إليه، وما يأخذ به، وما يختاره، وما يقوم به من دور في الحياة، لأنّ العقل هو الذي يعرّف الإنسان من خلال الفكر والوعي، ما هو قبيح وما هو حسن، وما هو ضار وما هو نافع، وما هو الحقيقة وما هو الباطل، وبذلك، يكون العقل هو الذي يمنهج للإنسان حياته، ويحقق له البرنامج الذي يصل به إلى النتائج الإيجابية. وأيضاً ورد عنه (عليه السلام): «إنّ للهِ على الناسِ حُجَّتين: حُجَّة ظاهرة، وحُجَّة باطنة، فأمّا الظاهرةُ فالرُّسلُ والأنبياءُ والأئمّةُ:، وأمّا الباطنةُ فالعقول» . ولقد عَلَّمَ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، المسلمين كيف يُوظِّفون هذه الحُجَّة أو الرسول الباطني بقوله: «استرشدوا العقل تُرشدوا، ولا تعصوه فتندموا». لمّا قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، في رجل كتابيّ له بيان ووقار وهيبة: ما أعقل هذا! قال للناقل أو القائل: «مهْ! إنّ العاقل مَن وَحَّدَ الله وعمل بطاعته»، إذ ليس عاقلاً أو مكتمل العقل مَن يُشرِك بالله ويعدل به غيره.
إذاً أولوية العقل لا غبار عليها، ولا يختلف عليها اثنان.. أمّا استدلالات العقل فمن خلال إعمال أدواته وأهمّها (التفكُّر) و(التأمُّل) أو (التفكير) وهو إعمال أدوات التفكير العقلي والمنطقي، لقوله سبحانه: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة/ 219). وإنّما كان التفكُّر أداةً من أدوات العقل أولوية، لأنّه بحسب تعبير الإمام عليّ (عليه السلام): «التفكُّر يدعو إلى البرّ والعمل به» ، فهو آلة التمييز بين الظُّلمات والنُّور، وداعية الخير والعمل به. يقول (عليه السلام) كما في الرواية عنه: «فِكرُ المرءِ مِرآة تُريه حُسنَ عَمَله من قُبحه». وليس عجباً بعد ذلك أن تُعدّ ساعة تفكُّر خيراً من عبادة سنة، وفي خبر آخر من ستّين سنة (أي من العمر كلّه)!
بهذا الفكر اهتدى (عليه السلام) إلى وعي التاريخ، ويقول في وصيّته لولده الإمام الحسن (عليه السلام): «يا بُنَيَّ، إنّي وإن لم أكُنْ عُمِّرتُ عُمُرَ مَن كان قَبْلي، فقد نَظرتُ في أعمالِهم، وفَكَّرتُ في أخبارِهم وسِرْتُ في آثارِهم، حتى عُدْتُ كأحدهم، بل كأنّي بما انتهى إليَّ من أُمُورِهم قد عُمِّرتُ مع أوّلِهم إلى آخرِهم».مقالات ذات صلة
ارسال التعليق