• ١٨ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ٩ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

طباعك قابلة للتغيير

طباعك قابلة للتغيير

◄تسمع من بعض الناس قولهم: "العادة التي في البدن لا يغيِّرها إلّا الكفن"، وتسمع من آخرين: "مَن شبّ على شيءٍ شابَ عليه"، ومن طائفة ثالثة: "تغيير النهر من مجراه أسهل من تغيير الطِّباع"، ومثله: "ما تأخذه مع الحليب لا يخرج إلّا مع النفس"، وهناك مَن يلخِّص ذلك كلّه بقوله: "اطرد الطبع من الباب يدخل من الشّبّاك"!!

هذه الأقوال والأمثال وما شاكلها تريد أن تقول أنّ: "للعادة قميصاً من حديد"!

هل قميص العادة أو الطبع حديدي لا يُفلّ ولا يُكسر؟

هل الطبع مقيمٌ دائم لا يغادر منزله أبداً؟

هل طباع وعادات الطفولة والصِّبا والشباب  (خبيثها وطيِّبها) لا تتغير ولا تزول إلّا إذا زالت النفس من الجسد عند الموت؟

هل الطِّباع عصيّة على التغيير إلى هذا الحدّ؟

الأمثال والأقوال السابقة تجيب بـ(نعم)، فهي لا ترى الطبع أو العادة إلا قدراً مقدوراً ولا يغيِّر الأقدار إلّا مقدِّرها، أي أنّ التغيير (حسب وجهة نظر هؤلاء) عملية خارجية ليست بيد الإنسان.

لكنّ ما يجب أن نلتفت إليه أيضاً، أنّ هذه الأمثال والأقوال لم تُطلق جُزافاً، فهي تتحدث عن العادات المستحكمة والمتحكِّمة في مسار شخصية الإنسان، أي التي تتحوّل إلى (طبع ثانٍ) وهو ما تصفه بعض الأحاديث بـ(عدوّ تملّك) أي بسط هيمنته واحتلّ محاور الشخصية أو غزاها غزواً.

كما أنّنا هنا نتحدث عن العادات السلبية السيِّئة، وإلّا فإذا اعتمدنا عادة خير، فإنّنا لنرجو وندعو الله تعالى أن يديمها علينا فلا تزول أو تضعف أو تتلاشى، بل نحن نعمل على غرس عادات الخير فينا كجزءٍ من بنائنا لشخصياتنا بناءً تربويّاً صحيحاً.

وفي ذلك جاء الحديث: "إتّخذ لنفسك من كلِّ خلق أحسنه، فإنّ الخير عادة، وتجنّب من كلِّ خلق أسوأه، وجاهد نفسك على تجنّبه، فإنّ الشر لجاجة".

وعلى هذا، فلسنا ضدّ كلّ عادة، بل نحن ضدّ كلّ شيء سلبي وضار ومُضرّ.

لكنّنا نخالف القول في أنّ عملية التغيير والتبديل غير ممكنة حتى في الذي يبدو في الظاهر مستعصياً أو غير قابل للتغيير، فعملية التغيير ممكنة وقابلة للتطبيق، رغم ما يعترضها أو يكتنفها من صعوبات، وتلك حقيقة حياتيّة، فالوصول إلى الأهداف الكبيرة يتطلب بذل جهود كبيرة، وعلى حسب قول الشاعر (أبي فراس الحمداني): "ومن يخطب الحسناء لا يُغلهِ المهر"، فالأشياء الأجمل والأفضل، تتطلّب جهداً أكبر وصبراً أطول.

إنّ الذين عانوا من البدانة المُفرطة واستطاعوا تخفيض أوزانهم إلى النصف أو الربع، أناس مثلي ومثلك، لكنهم يتصفون بشيءٍ – قد يكون موجوداً لديَّ ولديك لكنّنا لن نستثمره مثلهم – وهو العزم والتصميم والإرادة، فمن أراد شيئاً خضع له ذلك الشيء واستجاب لإرادته، والشهادات على ذلك تجدها عند أناس قريبين منك.. قرّروا.. وحاولوا.. وربما فشلوا في البدايات.. لكنّ النهايات كانت دائماً ناجحة وسعيدة.

كما أنّ الذين تركوا التدخين إلى غير رجعة بعد سنين طويلة ومتطاولة من معاشرة الدخان ومعايشة الإدمان.. هم مثل حيّ آخر يُمكنك أن تسألهم وتطمئنّ بنفسك أنّهم ما وصلوا إلى ما وصلوا إليه بـ(معجزة) خارجيّة، بل بـ(إرادة داخلية).

والذين استطاعوا التغلب على الخجل بعد صراعٍ قاسٍ معه، وبعدما لازمهم طويلاً، لم تذهب جهودهم سُدى، بل تمكّنوا من الإفلات من قبضته وتحرّروا من أسره، فإذا هم اليوم يعيشون حياتهم الطبيعية يألفون.. ويؤلفون.

والذين غيّروا نمط حياتهم، وطبيعة سلوكهم، وبعضاً من أخلاقهم، بل والذين غيروا أعمالهم وانتقلوا من عملٍ إلى عملٍ مختلف تماماً، هم (حججٌ) علينا في أنّهم قالوا لأنفسهم: "نحنُ قادرون، وعبّروا عن إرادتهم بصدقٍ فنالوا ما تمنّوا.

هؤلاء لهم حكاياتهم الواقعية في كيف كانوا؟ وكيف صاروا؟.. إنّهم ليسوا من كوكبٍ آخر غير كوكبنا.. إنهم نماذج وعيِّنات معنا.. ومنهم نتعلّم.

    

- نظرة مُغايرة:

حتى تغيِّر شيئاً، اُنظر إليه نظرة مغايرة، لأنّ النظرة التقليدية تجعلك تقتنع بما أنت فيه فلا ترى حاجة للتغيير.. ذلك أن أيّة عملية تغيير أو تبديل في أي طبع أو عادة تحتاج إلى شعور داخلي أنّ هذا الطبع أو العادة ليسا صالحين ولابدّ من تغييرهما.

دعنا – في البداية – نطرح عليك بعض الأسئلة:

- هل جرّبتَ أن تعدِّل سلوكاً معيناً إثر تعرّضك إلى نقدٍ شديد؟

- هل قرأتَ مقالة، أو حديثاً، أو حكمة، أو قصّة ذات عبرة ودلالة، فتأمّلتها جيِّداً، وإذا بها تُحدِث في كيانك هزّة، لتعيد النظر على ضوئها في أفكارك أو تصرفاتك؟

- هل التقيت – ذات مرّة – بشخصٍ غير اعتيادي، وحينما حادثته شعرت أنّ لأفكاره قابليّة النفوذ إلى قلبك وعقلك، وأنّ سلوكه من التهذيب والنزاهة والإستقامة ما يجعلك أن تتأسّى به؟ بل وتعيد حساباتك القديمة؟

- هل حدثَ أن مشيتَ في طريق لمسافةٍ طويلة، ثمّ اكتشفتَ أنّ هذه الطريق ليست الطريق التي تريدها، ولا هي التي توصلك إلى هدفك، ورغم معاناتك في السير الطويل وتعبك الشديد، تُقرِّر أن تسلك طريقاً أخرى تهديك إلى ما تريد؟

- هل سبقَ أن كوّنتَ قناعة معيّنة حول شيء ما، وقد بدت لبعض الوقت ثابتة لا تتغيّر، لكن وقع ما جعلك تراجع قناعتك.. كفشل في تجربة، أو تعرّضك لصدمة فكرية أو روحية، أو تشكّلت لديكَ قناعة جديدة إمّا جرّاء الدراسة والبحث، أو من خلال اللِّقاء بأناس أثّروا في حياتك، فلم تُكابر ولم تتعصّب تعصّب الجاهلين، لأنّك رأيتَ القناعة المغايرة الأخرى أسلم وأرشد وأهدى؟

- هل سكنتَ في منطقة، أو بقعة من الأرض، لفترة طويلة، فألفتها وأحببتها وتعلّقت بها، لأنّها كانت مرتعاً لذكرياتك، ثمّ حصل ما جعلك تهاجر منها، أو تستبدل بها غيرها لظروف ذاتية أو خارجية، وإذا بكَ تألف المكان الجديد، وقد تجد فيه طيب الإقامة وحسن الجوار؟

إذا لم تكن – لحدِّ الآن – تعرّضتَ لأيٍّ من الحالات السابقة، فالحياة كفيلة بتغيير بعض قناعاتك، وبعض أفكارك، وبعض السبل أو الوسائل التي تعتمدها في حياتك، وبعض الطِّباع التي أدمنتها وداومتَ عليها.

تغيير القناعات أمر طبيعي، ويدلِّل في الكثير من الحالات على درجةٍ من النضج والوعي والمرونة والعافية النفسية.

دعنا نراجع الأمثال السابقة من وجهة نظر أخرى، وقبل ذلك نسأل:

- هل الأقوال المارّة الذِّكر مقدّسة لا تقبل النقد أو الطّعن؟

- هل هي توقيفيّة [1]، أي وقفت على معنى ثابت لا يتغيّر؟

- إذا لم تكن لا هذا وذاك، فهي قابلة للنقد والنقاش والطّعن والتنفيد وربّما التعديل.

إنّ العادة التي في البدن قد تكون مادية كالشراهة في الأكل، وقد تكون معنويّة كالكذب. وبالرغم أنّ الاعتياد والإدمان يجعل الترك أو التخلي والتخلّص من هذه العادات صعباً عليك، لكن بإمكانك أن تسأل الكثير من الشرهين والشرهات، الذين كسروا هذه العادة، وقنّنوا وانتظموا واعتدلوا في طعامهم، ولك أن تسأل عن كيفيّة نجاحهم.

فلقد بثّت إحدى قنوات التلفزة الفضائية العربية برنامجاً للمسابقات في تخفيض الوزن، وكانت النتائج – بعد ستّة أشهر من التمرين والحمية – مُذهلة ليس للمشاهدين فقط، بل للمتسابقين أنفسهم أيضاً، حيث انخفضت معدّلات وزن بعضهم إلى النصف.

لاشكّ أنّ تمارين التقنين الغذائي (الرِّجيم) والبرنامج الرياضي المُقنِّن التي التزمها بعض الرجال وبعض النساء أتت بنتائج باهرة، إذ مَن كان يتصوّر أنّ الذي فاق وزنه المائة كيلوغرام يغدو رشيقاً إلى هذا الحدّ؟

وتلك البدينة التي أثقلها حملها من اللّحوم والشحوم، مَن يُصدِّق أنّها هذه التي أصبحت خفيفة لطيفة.. رشيقة وأنيقة تسرّ الناظرين؟

وبعد، بالإرادة! بالتصميم ير المتردِّد، والعزم غير المتذبذب.. وبالمثابرة غير المتقطِّعة، وبالإمتناع: أنّ همّته أحدهم إذا تعلّقت بالثريا (نجم في السماء) لنالها، كما يقول النبي (ص).

- كيف نجحوا؟

- بالإرادة!

وحتى الكذب، أو أيّة خصلة سيِّئة أخرى، حينما عقد المبتلون بها العزم على معالجتها والقضاء عليها، وصدقوا في عزمهم وقرارهم، استهجنوا تلك الخصال الذميمة، وعملوا على استبدالها بأضدادها، وندموا على الماضي الملوّث بها، وعادوا انقياء منها كما هو الثوبُ الملوّث بعد الغسل. وربّما اعترضتهم، في بعض أشواط تجربتهم للتخلص من أسر العادات الضارة، حالات من الضعف أو التراجع أو الإنهزام، لكنّهم سرعان ما تذكّروا خطورة التراجع، وسلبيّات ما هم فيه من واقع مؤلم، فإذا هم مبصرون، فكانت (إرادتهم) أصلب من (تراجعهم).

أمّا مقولة: "مَن شبّ على شيءٍ شابَ عليه"، فقد أسيء فهمها، وتركّزت النظرةُ إليها في الجانب السلبي، أي مَن اعتاد على خصلةٍ ذميمةٍ في شبابه فإنّها ستلازمه حتى مشيبه، والحال أنّ المقولة أو الحديث ناظر إلى إهمال العادات والطِّباع وتركها لتستفحل دونما معالجة، حتى لتصبح بعد حين جزءاً لا يتجزأ من الجسد، أي أنّ المقولة ليست قاعدة ثابتة أو قانوناً صارماً، وإنّما هي توصيف لحالة استعباد يصعب قلعها.

وأمّا الأمثال التي تصوِّر الطبع أو العادة قميصاً من حديد، والتي تبيِّن استحالة تغيير الطِّباع بما يوحي بحالة من اليأس من ذلك، فلا تصمد أمام النقد.

ففي الحديث: "غَيِّروا العادات، تسهل عليكم الطاعات"، وفي الآخر: "بغلبة العادات، الوصول إلى شرف المقامات"، والآخر: "غالِبوا أنفسكم على تركِ العادات، وجاهِدوا أهواءكم تملكوها"، والآخر: "لسانكَ يستدعيكَ ما عوّدته، ونفسك تقتضيكَ ما ألفته"..

إنّ هذه وغيرها من الأحاديث، تؤكِّد على أنّ عمليّة التغيير (ممكنة) أوّلاً، ومفاتحها بيد الإنسان نفسه، ثانياً.

إنّ القميص الحديدي قابل للكسر والتقطيع، إذا كانت النار الموجّهة إليه حامية، أو أنّ منشاراً كهربائيّاً سُلِّط عليه، أو أنّ حديداً أقوى وأصلب منه يلويه، ألم تقرأ في الأمثال: "لا يفلّ الحديد إلّا الحديد".

إنّ ما يوصف بـ(الإرادة الحديديّة)، قابلة أن تكسر الطِّباع والعادات التي تبدو في الظاهر حديديّة، ودونك قصص أصحاب الإرادات الفولاذيّة وما صنعوا، فتأمّل فيها [2].►

......................................................

[1]- نقول عن شيء أنّه توقيفيّ إذا كانت الشريعة قد حدّدت له إطاراً ثابتاً لا يخرج عنه ولا يجوز تغييره أو تبديله أو التلاعب به، فأسماء السور القرآنية توقيفيّة، وترتيب السور كذلك، فلا يحقّ لنا أن نجري عليها أيّ تعديل.

[2]- إذا أجريتَ مقارنة بين أوضاع الناس وطباعهم وأفكارهم وعاداتهم في الجاهلية، وبين أوضاعهم وطباعهم وأفكارهم وعاداتهم بعدما دخلوا الإسلام، يمكنك أن تعرف مدى قابلية الدِّين على تحريك الإرادة في تغيير كلّ شيء.

ارسال التعليق

Top