◄يقول الإمام زين العابدين (ع): «والحمد لله الذي اختار لنا محاسن الخلق، وأجرى علينا طيِّبات الرزق، وجعل لنا الفضيلة بالمَلكة على جميع الخلق، فكلّ خليقته منقادة لنا بقدرته، وصائرة إلى طاعتنا بعزَّته.
والحمد لله الذي أغلق عنّا باب الحاجة إلّا إليه، فكيف نطيق حمده، أم متى نؤدِّي شكره! والحمد لله الذي ركَّب فينا آلات البسط، وجعل لنا أدوات القبض، ومتَّعنا بأرواح الحياة، وأثبت فينا جوارح الأعمال، وغذَّانا بطيِّبات الرزق، وأغنانا بفضله، وأقنانا بمنّه، ثمّ أمرنا ليختبر طاعتنا، ونهانا ليبتلي شكرنا، فخالفنا عن طريق أمره، وركبنا متون زجره، فلم يبتدرنا بعقوبته، ولم يعاجلنا بنقمته.
والحمد لله الذي دلّناعلى التوبة التي لم نفدها إلّا من فضله، فلو لم نعتدَدْ من فضله إلّا بها، لقد حَسن بلاؤه عندنا، وجلّ إحسانه إلينا، وجسم فضله علينا، فما هكذا كانت سنّته في التوبة لمن كان قبلنا، لقد وضع عنّا ما لا طاقة لنا به، ولم يكلِّفنا إلّا وسعاً، ولم يجشّمنا إلّا يسراً، ولم يدع لأحدٍ منّا حجّةً ولا عذراً، فالهالك منّا من هلك عليه، والسعيد منّا مَن رغب إليه».
لقد خلقنا الله تعالى في أكمل صورةٍ وهيئةٍ، وأروع الإبداع والتكوين، فله الحمد على ما صنع وأتقن من عجائب خلقه، ما نرى منهم وما نجهل ويغيب عن حواسنا، فلقد أعطانا الله تعالى كلَّ ما يلزمنا من حواس وإدراكات ومشاعر تحوِّلنا إلى موجوداتٍ حيّةٍ وفاعلة ومتحرّكة، وما أحسنها لو عملت هذه الجوارح وتحركت في خطِّ طاعة الله وبناء الوجود والحياة على الخير والفلاح!
ولقد سخَّر لنا الله تعالى طيِّبات الرزق لنبقى أقوياء ونستطيع الاستمرار في الحياة، وكي نلبّي حاجاتنا وشهواتنا بالطريقة التي أحلَّها لعباده، وبما لا يخرجون في كلِّ ذلك من قضاء الحوائج إلى الانحراف والفساد والإفساد.
كما سخَّر الله لنا ما في هذا الكون كي نزداد انفتاحاً على خلق الله وعظمته، ونؤدِّي حقوقه، يقول تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ) (النحل/ 12)، ويقول تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا في الأَرْضِ جَمِيعاً) (الجاثية/ 13)، فالإنسان يرتفع ويسمو من خلال حمد الله وشكره.
وينطلق الحمد في نطاق إحساس الإنسان بالعزَّة أمام الكون كلّه والإنسان كلّه، لأنّ الله لم يجعله محتاجاً إلى أيّ شيءٍ من أشياء الموجودات، فهي في ذاتها تختزن معنى الحاجة إليه تعالى، بل جعله محتاجاً إليه وحده.
وللحمد معنى في الأجهزة التي يتميَّز بها الإنسان في حركته، فقد ركَّب الله فيه آلات البسط وأدوات القبض في الأعصاب والعضلات والأوتار، مما يمكِّن الإنسان من الانبساط والانقباض في عضلاته، لتكون له حرّية الحركة في إدارة جسده.
وللحمد معنى في الروح التي تمدّ الجسد بالحياة، وفي الأعضاء التي يتحرّك من خلالها في إدارة شؤونه وتوجيه أعماله. وهذا كلُّه يجعل طبيعة الوجود المادّي والروحي منفتحةً على الحمد بكلِّ آفاقه، بحيث يتّصل الحمد بالعمر كلِّه وبالحياة كلِّها.
والعبد الصالح المؤمن بربّه يعرف معنى التوبة وقيمتها، إذ يقبل على ربّه مخلصاً عابداً، تائباً من كلِّ الذنوب والآثام، معاهداً ربّه على الاستزادة من الحسنات والخيرات، ساعياً إلى نيل مراضيه. إنّه التائب بقلبه من كلِّ مشاعر الغفلة والاستغراق في عبث الدُّنيا، والمقلع عن السَّير في خطِّ الفكر المنحرف.
ومَن يرحمه الله يهدِ قلبه إلى التوبة النصوح التي تجعل المرء في مواقع الرحمة الإلهيّة التي يستحقّها العبد من ربّه، وتلك هي النِّعمة الكبرى التي تمنح الحمد عنفوانه وروحه، لأنّها تنقل الإنسان من غضب الله إلى رضوانه، وتهديه إلى طريق الجنّة، وتبعده عن طريق النار، فهو الذي هدانا إليه ودلّنا عليه بفضله وتوفيقه.
ولو نظرنا إلى طريقته في الأُمم التي سبقتنا في تقاليد التوبة وفرائضها، لعرفنا قيمة النِّعمة الكبرى والفضل العظيم فيما أولانا من تسهيلها علينا، فقد وضع عنّا ما لا طاقة لنا به من التكاليف الشاقة، ولم يكلِّفنا إلّا بما يتحمَّله وسعنا.
وهذا هو الذي يجعل الرحمة الإلهيّة للإنسان متّصلةً بالبرنامج الروحي والعملي الذي وضعه الله له، ويسَّره لحركته، كما كانت متّصلةً بالجانب الوجودي من حياته، وهو الذي يفتح له أبواب جنّته، ويغلق عنه باب ناره، من خلال التوبة في إرادة التغيير، ومن خلال المغفرة في إرادة الرضوان.
وفي انفتاحنا على نِعمة الحمد والتوبة كلّ الحياة، وفيه بعث لأرواحنا وعقولنا من سباتها. وهذه النِّعَم تجعلنا من العباد المنفتحين على ربّهم في كلِّ أوضاعهم الخاصّة والعامّة، بما يرفع من مستوى حضورهم ووعيهم.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق