• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

آفاق شهر رمضان في القرآن الكريم

أسرة البلاغ

آفاق شهر رمضان  في القرآن الكريم

 

آفاق شهر رمضان

في القرآن الكريم

 

 

لجنة التأليف – مؤسسة البلاغ


 

القصّة الرمضانيّة

لماذا (رمضان) في القرآن؟

 لأنّ قصّة الشهر الكريم لا تُحدِّدها آياتُ الصوم لوحدها، وإنْ كانت هي العنوانُ الأبرز فيها؛ لكننا عندما نسمع الوحي الإلهي يطرق أسماعنا: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة/ 185) نفهم أنّ للشهر الفضيل بالقرآن علاقة (تاريخ الميلاد) بـ(المولود).

وعندما يتلو الوحيُ على مسامعنا قوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185)، تتبادر إلى أذهاننا هذه الصلة الوثيقة بين (الشهر) القمريّ وبين (الاستهلال) ويرفع السؤال يده: لماذا كانت مطالعُ الشهور ونهاياتها مُحدَّداتٍ زمنيّة لبعض فرائضنا وعباداتنا؟

وإذ قرأنا قوله سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة/ 183)، وجدنا سرّ اقتران (الشهرُ) بـ(عبادة الصوم) التي يُراد به ومن خلال – دورة أمدها (30) يوماً – إعداد الإنسان (المقاوم) لذاته أوّلاً، وللتحدّيات الخارجية ثانياً.

وحين يتناهى إلى وعينا قوله جلّ جلاله: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185)، نتحسّس بأداب نفوسنا أناملَ الرحمة التي (تريدُ بنا اليُسر).

وإذا استشرفنا قوله عزّوجلّ: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 185)، تهلُّ علينا تباشير العيد في صبيحة الفطر السعيد، ونحنُ أقوى شكيمة، وأصلبُ عوداً، وأرقُّ نفساً، وأرهفُ مشاعراً، وأطيبُ قلوباً، وأشدُّ التحاماً مجتمعياً.

إنّ قصّة شهر رمضان في القرآن متعدِّدةُ الآفاق والفصول، ويصحُّ أن نقول بأنّ (المناسبة) أو (الموسم) أو (الفصل) الرمضانيّ هو مدرسةُ الزمن الإسلامي المكثِّف، وهو وقت الانعطاف والتغيير، والشحن والإعداد الروحيّ، والتربية والتهذيب، وبناء أو ترميم جسور التواصل الاجتماعي، والإطلالة على رياض الذِّكر الحكيم، كإطلالتنا في الصباحات الربيعيّة المُنعِشة على مفاتن الطبيعة المتفتحة بالأنوار والأزهار والثمار، وما تُغرِّد به الأطيار، وما يُموسقهُ خريرُ الأنهار وحفيفُ الأشجار.

هذا إذن هو الذي دعانا أن نقرأ قصّة رمضان بفصولها وآفاقها في (القرآن)، لا ببعض (آيات القرآن) ذات الإشارة المباشرة إلى فريضة وفضيلة الصوم، وسنتسلسل مع القصّة مُتدرِّجين بها فصلاً فصلاً، وحلقةً حلقة، ونِعمةً فنعمة، ذلك أنّ جمال البناء الهندسيّ لا يظهر من واجهته فقط، بل من خلال مرافقه وأروقته وباحاته وأفنائه أيضاً.

 

-              أوّلاً: شهرُ رمضان.. الاستهلالُ (شهادةُ الشهر)

ما هي الغايةُ من خلق (الأهلّة) وهي جمع هلال، ولماذا لكلِّ شهرٍ هلالهُ الزمني؟!

قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ) (البقرة/ 189).

وقال سبحانه في الاستهلال (مراقبة مطلع الشهر) بالنسبة لشهر رمضان: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185).

وشهودُ الشهر رؤية الهلال، بأي نوع من أنواع الرؤية المعتمدة التي تبعث على الاطمئنان.

والغايةُ من التحقُّق من بدء الأشهر القمرية سواء أكانَ ذلك للتأكُّد من دخول شهر (الصوم) أو أيام (الحج) أو غير ذلك، هو تبيان مُتعلِّقات الأحكام الشرعية، أي إنّ شهر رمضان مخصصٌ للصيام لا يجوز صيامُ الفريضة في غيره، وذوالحَجّة معيّنٌ لحجّ الفريضة ولا يجوز التعدّي عنه إلى غيره، وهذا يعني أنّ ثمة تقاويم وحجوزات زمنيّة لابدّ من مراقبتها ومراعاتها وعدم العمل خارج إطارها الزمني المرصود!

 

-              ثانياً: شهرُ رمضان.. الصومُ تشريعٌ أُمميّ

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

شاءت حكمة الله تعالى أن يكتب (يفرض) الصوم على جميع الأنبياء والأُمم التي أُرسِلوا إليها، وليس بالضرورة أن يكون الصومُ المكتوب على السابقين هو نفسه الصوم الذي فُرِض على المسلمين، إذ تتعدَّد مناحي وصُوَر وأشكال الصوم، وما فرضُ أو كتابةُ الصوم على الأُمم السالفة، وأُمّة الإسلام خاتمتها، إلّا للآثار الروحية والنفسية والسلوكية القيِّمة والضخمة المترتِّبة عليه، وليس مستغرباً بعد ذلك أن نسمع من لسان الرواية في الحديث القدسيّ: «كلُّ عمل ابن آدم له إلّا الصيام، فإنّه لي وأنا أجزي به»[1].

 

-              ثالثاً: شهرُ رمضان.. غايةُ كلِّ العبادات (التقوى)

(التقوى) من (الوقاية)، وفي الشريعة الإسلامية (التقوى) حفظُ النفس من الإثم والمعصية بترك ارتكابها.. وعلى ذلك تكون التقوى حِرزاً أو صيانةً من (العقوبة) في الفهم الأوّلي المتبادَر منها؛ لكنها أعمق أثراً حين يُنظر إليها على أنّها حماية من (الشيطان)، وسلاح مقاومة للإنسان ضد نوازع الشرّ والتهالك عند الإنسان نفسه.

يقول المُفكِّر (محمّد مهدي الآصفي;) تعقيباً على قول الإمام عليّ 7 «بالتقوى تُقطعُ حُمّة الخطايا»:

 «التقوى (منطقةٌ آمنة) في حياة الإنسان لا يدخلها الشيطان، وهي أن يعيش الإنسان ويتحرّك، ويعمل في (مساحة الحلال) داخل حدود الله تعالى لا يتجاوزها ولا يتعدّاها، ليس بإمكان الشيطان أن يتبع الإنسان في هذه المساحة، فإذا احتمى الإنسانُ بالتقوى، حمته من الشيطان»[2].

ولا تقوى من غير مجاهدة النفس، وتهذيبها، وتزكيتها، وتطهيرها من الأدناس والدرن ومن الفجور، بل ومن كلّ قبح يزري بها وينتقص من قدرها، والشرط الجامعُ لها هي صيانةُ النفس عن المحرَّمات (العقلية) و(الشرعية) و(الأخلاقية) و(السلوكية). أمّا كيف ذلك؟ فالصوم أحد الأجوبة.

ولو استقرأنا كتاب الله لرأينا أنّ ما من عبادة من العبادات إلّا ويُراد لنتيجتها أن تكون تحصيلاً للتقوى، كما في السرد البياني الآتي:

 

1- إقامةُ الصلاة.. تقوى:

إذ بعد أن يربط القرآن (البرّ) بـ(العمل الصالح) وبالزكاة، والوفاء بالعهد، والصبر على البلاء، يعتبر المقيمين للصلاة (إضافةً إلى تلك الخصائص)، أتقياء، حيث يقول سبحانه: (وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177).

 

2- الأخذ بتعاليم القرآن.. تقوى:

قال عزّوجلّ: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 163).

والأخذ بقوّة يعني فيما يعنيه التطبيق العملي الشامل وعدم التهاون والتراخي في ذلك.

 

3- غايةُ الصوم.. التقوى:

يقول جلّ جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

و(لعلّكم) في القرآن يُراد بها الغاية، أي لكي تحصلوا على التقوى.

 

4- غايةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. التقوى:

قال تعالى في قصّة أصحاب السبت، وفي حوار الفئة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر مع الفئة الساكتة: (قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأعراف/ 164).

و(يتّقون) هنا أي يمتنعون عن المنكر ومخالفة الحكم الشرعي.

 

5- غايةُ الدعوة إلى الله.. تحقيق التقوى:

قال عزّوجلّ مخاطباً نبيّه موسى 7: (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ) (الشُّعراء/ 10-11).

بمنعى يكفّون عن عبادة غير الله ويُوحِّدونه، وذلك أسّ التقوى ومنبعها.

 

6- غايةُ القِصاص (التعامل بالمثل).. التقوى:

قال سبحانه: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 179).

لا الغاية المجتمعيّة التي تحدُّ من حالات الجرأة على القتل والعدوان، بل الامتثال لأمر الله وقانونه الجنائيّ الذي يحدُّ من العدوان وارتكاب الجرائم.

 

7- غايةُ العبادة والعمل كلّه.. التقوى:

قال عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 21).

والتقوى، بصفتها مَلكة مُتحصلة من جهاد النفس، بحاجة إلى (صبر)، لأنّها عمليّة تربية ذاتية شاقّة ومتواصلة على مدى العمر؛ لكنّ ثمارها جنيّة وحلوةٌ شهيّة، قال تعالى: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ) (آل عمران/ 186)، و(عزم الأُمور) أشدّها وقعاً، وأقواها عزيمةً، وأكثرها مردوداتٍ طيِّبةً على المتقين وعلى المجتمع الذي يكثر فيه المتقون، وبمعنى حركيّ يزدادُ فيه الصلاح.

 

-              رابعاً: شهرُ رمضان.. الرُّخصةُ لطفٌ ربّانيّ

تأتي الرُّخَصُ أو الترخيصات الإلهية في القرآن كمنح وهبات لمراعاة ضعفِ الإنسان، وغفلته، وانسياقه مع شهواته تارةً، وتارةً لعجزٍ يُعانيه مما يُنقص من تأهيله أو أهليّته للعمل أو التكليف المناط به، خاصّةً بالنسبة لذوي الاحتياجات الخاصّة، أو المعاقين و(المرضى) الذين تقعد بهم قواهم المنهكة أو المصابة بداءٍ ما عن أداء العمل في وقته، أو عدم القيام به بالمرّة، والملاحظ في مرور القرآن على هؤلاء المعفوّ عنهم، موضوعيّته وتقديره المنصف لمعاناتهم وعجزهم وضعفهم، لذلك نراه (يعفو) عنهم تارةً فيُسقط عنهم التكليف أو المسؤولية الشرعية، في حين نراه في مواقع أخرى (يُخفِّف) عنهم التكليف لحين ارتفاع السبب أو العلّة المانعة، وهذا ما نُلاحظه في الآتي من الآيات:

 

1- تأجيل الصوم بالنسبة لـ(المريض) و(المسافر):

قال تعالى: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185).

إنّ هذا الإرجاء أو التأجيل للصيام من وقت (الأداء) إلى وقت (القضاء) هو من بين ألطاف الله التشريعية الناظرة إلى (الإمكانية) و(القدرة الاستطاعية).. ولذلك جاء في أُصول الفقه أنّ القدرة هي حدُّ التكليف، فإذا عجز الإنسان، لسببٍ أو لآخر، سقط التكليف، أو ارتفع لحين ارتفاع العجز.

وكما يُطاعُ الله في فرائضه (عباداته المفروضة الواجبة)، يُطاعُ كذلك في رُخَصه التي هي تيسيرات على الذين يمرّون بحالة عُسر ومشقّة وصعوبة، فلا يقولنّ المريض أو المسافر أصوم لأنّني أريدُ بذلك الثواب وتحصيل الجزاء على الطاعة لأنّ الامتثال والأخذ بالرخصة هو ثواب، وتجسيد للطاعة أيضاً.

قال تعالى في مشقّة حلاقة الرأس في الحج لمن يعاني من مشكلة صحّية في رأسه: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (البقرة/ 196).

بل إنّ كلَّ آيات (رفع الحرج) الواردة في الكتاب الكريم هي مما يمكن إلحاقه أو ضمّه إلى هذه الطائفة من الرُّخَص والميسرات أمراً، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج/ 78).

وقال جلّ جلاله في الإذن لبعض الأصناف من المعذورين شرعياً: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) (النُّور/ 61).

 

-              خامساً: شهرُ رمضان.. إطعام الجياع والمساكين، بل إطعام الطعام عموماً

ليس مصادفةً أن يكون موسم الإحساس بلذعة الجوع خلال شهر رمضان، بالنسبة للصائمين، موسماً لإطعام الجياع ممّن يشتكون ألم الجوع في سائر أيام السنة، وكأنّ الصوم يأتي بمثابة معادل موضوعي ليُحدث حالة من التوازن الغذائي بين (مُمتلئ) وبين (مُتضوِّر).. بين مَنْ يتلوى من ألم التخمة، وبين مَنْ يتلوّى من ألم الجوع.

ونحنُ وإن كنّا لا نرى وجهاً لحصر غاية شهر الصيام بالإحساس بجوع الجياع، على الرغم من قيمة وأهميّة هذه الحاجة الإنسانية الأساسية، إلّا أنّ إطعام الطعام من ميزات الخُلق الكريم، ومن جاذبات الناس إلى الدين، لأنّ المعدة الخاوية لا يُمكن أن تستقبل كلمة الإيمان أو الوعظ، ولذلك قيل في الأمثال: «إذا غنّيت للجوعان، استمع إليكَ ببطنه»!

ومادمنا في قصّة شهر رمضان، فإنّ فصلاً مهمّاً من فصولها ليس (إفطار الصائمين) وحسب، بل (إطعام الجياع) حيثما يكونون، مسلمين وغير مسلمين، إذ يبقى لكلّ كبدٍ حرّى أجراً. فلننظر كيف تعاطى القرآن مع إطعام الجياع حفاظاً على حياتهم لكي تكتمل شروط إنسانيتهم فيما لو تمّ تأمين (الغذاء) والأمن لهم، حيث يمكن حينذاك أن يتوجّهوا إلى بناء شخصياتهم الدينية، والفكرية، والعلمية، والإبداعية، والإنتاجية.

 

1- الإطعام.. يحتاج إلى (مُطعِم):

قال تعالى في الكافرين الذين لا يؤمنون أنّ في أموالهم حقّاً معلوماً للسائل والمحروم، وأنّ ليس من مسؤوليتهم إطعام الجياع حتى ولو كان لديهم فائض من الطعام: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (يس/ 47).

وكأنّ هؤلاء المجادلين السطحيين يريدون أن يحتجّوا على الطاعمين في أنّ مسؤولية إطعام الناس والفقراء والمساكين والجياع، هي مسؤولية الله جلّ وعلا لا مسؤولية الإنسان عن أخيه الإنسان، وهذا ما اعتبره القرآنُ ضلالاً وانحرافاً عن فهم الإنسان لمسؤوليته المجتمعيّة، وأنّ الله تعالى لا يُطعمُ الناس مباشرة، وإنما هو يُطعِمهم ويُسقيهم بإرشاد الناس القادرين على ذلك أن يقوموا بإحدى وظائف الاستخلاف بإطعام الجائعين. لاحظ كيف يُوظِّف مَنسكاً من مناسك الحج (الأُضحية) في إطعام أُناسٍ ربّما لم يُقدَّر لهم أن يتذوَّقوا طعم اللحم خلال سنتهم: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج/ 28).

ومعلومٌ أنّ (بهيمة الأنعام) هي الإبل (الجِمال)، والبقر، والأغنام، والماعز، والبائسُ هو الإنسانُ الفقير الذي أوصله الفقر إلى حالة البؤس حتى بانَ ذلك في نحافة جسمه، واصفرار وجهه، ورثاثة ثيابه، وتواضع سكنه. يقول سبحانه في هذا المَنسك أيضاً: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الحج/ 36).

و(البُدن): جمع بَدَن، وهي الناقة أو البقرة تُنحر بمكّة قُرباناً. و(القانع): المُتعفِّف الذي يستحي أن يسأل لسدّ حاجته. و(المُعتزّ): السائل الذي يدفعه العوز إلى الطلب.

ومن خلال هذه القراءة الإنسانية للنص، نلاحظ الوسائل العملية التي يتوسّل بها الإسلام ليُحرِّك نزعة التواصل والترافد والتكافل الاجتماعي.

 

2- الإطعام.. إيثار الغير به على النفس:

قال تعالى في قصّة إطعام الإمام عليّ 7 والسيِّدة فاطمة الزهراء 3 المسكين واليتيم والأسير لثلاثة أيام متوالية، كانوا قد نذروا أن يصوموها لله بغية شفاء ولديهما الحسن والحسين8: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) (الإنسان/ 8 – 9).

وقيل في معنى (على حُبِّه): على الرغم من حاجتهم للطعام كونهم صياماً، وقيل على حبّ الله وفي سبيله، كونهما آثرا غيرهما على أنفسهما. ولا يُخفى معنى (لوجه الله) الذي يعني الإطعام بلا مُقابل، وإنما انتظاراً لا لأجر الله على هذا الصنيع والمعروف أو الإحسان، بل ابتغاء مرضاته التي هي أعلى مطمح إيماني.

 

3- الإطعام.. أفضلهُ في أيام المجاعة:

قال تعالى في التعبير عن عبور (العقبة) التي يحتاج الإنسان إلى اجتيازها حتى ينال مرضاة الله تعالى: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (البلد/ 11-14).

وهذا لا يعني الاقتصار على إطعام الطعام في أوقات الحاجة الشديدة إليه، وإنما يعدّ إطعام الطعام، سواء أكان ذلك في إكرام الضيف، كما فعل إبراهيم 7 عندما جاء ضيوفه الملائكة (الذين ظنّ أنّهم بشر لأنّهم أتوا على هيئة البشر) بعجل مشويّ، أو في إطعام المساكين، أو في إقامة الولائم في المناسبات، من المستحبات المؤكدة التي قد ترتفع درجة استحبابها إلى الوجوب في أيام (المسبغة) أي المجاعة الشديدة. وقد ذمَّ القرآن أصحاب القرية التي استطعم الخضر وموسى 8 من أهلها أن يُضيِّفوهما بعدما عضّهم الجوع، في قوله جلّ شأنه: (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) (الكهف/ 77).

وليس غريباً أن تكون إحدى العقوبات المترتِّبة على إهمال الميسورين القادرين على إطعام الطعام للمحتاجين إليه، سبباً في دخول جهنّم: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (المدَّثِّر/ 42-45)، فلا صلابتهم أمرتهم بالرُّفق بالجياع والشفقة عليهم: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون/ 4-7)، ولا دفعهم تضوُّر الجياع إلى المبادرة إلى إطعامهم مع قدرتهم على ذلك، وكانوا يخوضون مع الخائضين في السفاسف والترهات.

 

-              سادساً: شهرُ رمضان.. الصبر والمقاومة

ورد في بعض التفاسير أنّ المراد من (الصبر) في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة/ 45) هو (الصوم).. وسواء أكان المعنى هو الصبر على إطلاقه، أو الصبر على تحمُّل مشقة الجوع، والكفّ عن المحرَّمات، والاستعلاء على استحكام العادات، وكسر الروتين وسائر المُكبِّلات، فإنّ اقتران (الصلاة) كونها (بناءً روحياً) لشخصية الإنسان المسلم، مع (الصوم) بصفته (بناءً للمقاومة)، يعني أنّ المُشرِّع الإسلامي يريد أن يرفع الشخصية الإسلامية نحو مكانتها التي يُفترض بها أن تحتلّها، وهي الشخصية القويّة في ذات الله: «المؤمنُ القويّ خيرٌ من المؤمن الضعيف».

لنتأمّل في فريضة (الصوم) من خلال فضيلة (الصبر) عبر آيات الكتاب المجيد:

 

1- صبر إسماعيل 7 على الطاعة:

قال تعالى: (قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصَّافّات/ 102).

الصائمين عن الدُّنيا، الزاهدين بها، الموطنين على لقاء الله أنفسهم، الذين يوقنون بأنّنا لله وأنّنا إليه راجعون.

 

2- صبر أيّوب 7 على المرض والفقدان:

قال عزّوجلّ: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص/ 44).

صائماً عن الشكوى على البلوى، وعن التذمُّر من فقدان الأولاد والثروة، وعن استلاب العافية، مادام الابتلاء من الله (خالق العافية) و(وليّ العافية) و(رازق العافية).

 

3- صبر الأنبياء : أولي العزم على مشاق الدعوة إلى الله:

صاموا :عن ردّ الأذى بالأذى، وصبروا على المعاناة في سبيل الله، وبذلوا قصارى جهدهم لتكون كلمة الله هي العُليا، قال تعالى مخاطباً النبيّ محمّداً 6: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) (النحل/ 127).. وما من نبيّ عرضَ القرآن قصّته إلّا وكان الصبر أحد وأهم وأقوى أسلحته.

 

4- صبر الأشدّاء في (الحرب) و(النكبة) و(الفقر):

قال جلّ جلاله: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة/ 177).

والبأساء: المعاناة النفسية، والضرّاء: المعاناة الجسدية، وحين البأس: في المعارك والحروب والحصار وما يرافقها ويستتبعها من جروح معنوية.

والصبرُ (صومٌ) لأنّه الكفّ عن (الهوى) وعدم الاسترسال مع (الشهوات)، وحبس النفس عن بعض الرغبات والتطلُّعات، وهو مأخوذ من (الصبر) أو (الصبّار) المُرّ المذاق، لأنّ الصابر يجرع مرارة الحقّ بحبس نفسه عن معاصي الله، ولذلك عُدّ (من عزم الأُمور).

والصابر كـ(الصائم) يصبرُ وقتاً قصيراً ثمّ يفرح برضا الله عند فطوره (إنجاز تكليفه)، يقول الإمام عليّ 7 كما في الرواية عنه واصفاً المتقين: «صبروا أياماً قصيرة، أعقبتهم راحة طويلة، تجارةٌ مُربحة»[3]، أي أفادت ربحاً.. وبما أنّ للصائم فرحتين: فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء الله، فكذلك الصائم.. ففي بعض مواعظ الإمام عليّ 7: «إنْ تصبر ففي الله من كلّ مصيبة خَلَف»[4].

يقول الشاعر في الصوم بمعنى الصبر:

إصبرْ قليلاً وكنْ بالله مُعتصماً                  ولا تعاجل فإنّ العجزَ بالعَجلِ

الصبرُ مثلُ اسمه في كلّ نائبةٍ                  لكنْ عواقبهُ أحلى من العسلِ

 

-              سابعاً: شهر رمضان.. الصلاةُ (فريضةً ونافلة)

لاحظنا في النقطة السابقة الترابط بين (الصبر) و(الصلاة)، وكيف عُبِّر عن الصوم بـ(الصبر)، وجاء الآن الدور للحديث عن الشقّ الثاني من الاستعانة وهو (الصلاة).

والصلاة في معناها اللغوي (الدُّعاء)، وبذلك نفهم بُعداً آخر للاقتران وهو أنّ الاستعانة لمواجهة الشدائد والتحدّيات والنكبات تتطلّب قدراً كبيراً من الجَلَد والتحمُّل، مثلما تحتاج إلى الكفّ عن بعض الأُمور والأخذ ببعضها، لا بجهد ذاتي اكتسابي وحسب، بل بالاستعانة بالله الذي لا حول ولا قوّة إلّا بالله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة/ 5).

والفرق نوعيّ بين (أداء الصلاة) و(إقامة الصلاة)، فذاك الامتثال للتكليف وإفراغ الذمّة من المسؤولية الشرعية.. أمّا (الإقامة)، فتعني أداء الصلاة بحدودها وفرائضها وغايتها المرجوّة منها في النهي عن الفحشاء والمنكر، وفي احترام حضور الله دائماً، وفي تطهير الإنسان من شوائب الأفكار والأخلاق والسلوك ما وسعه ذلك.

ولعلّ الحديث المرويّ عن النبيّ 6: «إذا دُعي أحدكم إلى طعام فليجب، وإنْ كان صائماً فليُصلِّ»[5] قد ربط بين (الصوم) و(الصلاة) بمعنى الدُّعاء، لأنّ معنى (فليُصلِّ) أي ليدعو لأهل الطعام بالخير والبركة والمزيد من التوفيقات والأعمال الصالحة.

والداعي إلى إلفات النظر إلى الصلاة كأُفق واسع من آفاق شهر رمضان، هو أنّ الفسحة الروحية التي يتيحها الشهر الفضيل، تمنح الصائم فرصة إضافية للانتهال والتزوُّد الروحيّ، لا من خلال أداء الفرائض فقط، بل ومن خلال القيام ببعض النوافل والمستحبّات، لاسيّما (نافلة الليل)، فكيف نستشرف أُفق الصلاة في رمضان بمقارنتها مع الصوم؟

 

1- الصلاة (حسنة) تذهب (السيِّئة)؛ وكذلك يفعل الصوم:

قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) (هود/ 114).

وإذا عدنا لمبدأ الاقتران، نرى أنّ الصوم كفّارة للبَدن بما يجري فيه من عملية تطهير وتزكية، بل (إنّ شهر رمضان عموماً) يزيل الكثير من ركام الذنوب والمعاصي، حتى إذا أحسن ضيف الرحمان آداب الضيافة والتأدُّب بين يدي مُضيِّفه، فإنّه يعود صافياً نقيّاً من شوائب ورواسب حسنته، تماماً كما تفعل الصلاة (بشقّيها الفرائضي والنوافلي الاستحبابي) فعلها في إذهاب وإزالة السيِّئات التي تعلق بالإنسان في بحر يومه. وهذا هو معنى وصف النبيّ 6 للصلاة بأنّها أشبه بـ(الحمّة) أو بالنهر الجاري عند باب أحدنا يغتسل منه في اليوم خمس مرّات، هل سيبقى عليه شيء من الدرن (الوسخ)؟!

 

2- الصلاة.. (كتاب موقوت)؛ وكذلك (الصوم):

قال عزّوجلّ في كون الصلاة ذات مواعيد مُحدَّدة: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) (النِّساء/ 103).

وقال في (الصوم): (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة/ 185).

وقال أيضاً: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185).

 

3- الصلاة (تُقصَر في السفر).. والصوم يُؤجَّل:

قال تعالى في تقصير الصلاة: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (النِّساء/ 101).

وقال تعالى في إرجاء الصوم لوقت آخر: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة/ 185).

 

4- اقتران عيدُ الفطر بصلاته:

قال تعالى: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة/ 185).

يُقال بأنّ التكبير هنا يعني (تكبيرات العيد)، حيث ورد: «زيِّنوا أيامكم بالتكبير»[6].

 

5- (الصلاة) تنهى عن الفحشاء والمنكر.. و(الصوم) يزرع التقوى:

قال عزّوجلّ في أثر الصلاة على السلوك: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45).

وقال جلّ جلاله في غاية الصوم: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183).

 

6- الاستعانة بهما على مكاره الحياة ومتاعبها:

قال سبحانه: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة/ 45).

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 153).

 

7- الصلاة عبادة نهاريّة وليليّة.. والصوم نهاريّ:

قال تعالى في صلاة النهار والليل: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ) (هود/ 114).

وقال جلّ شأنه في فترة الصوم: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة/ 187)، غيرَ أنّ نهاية الصوم لا تُلغي ليليّته، حيث تعدّ ليالي شهر رمضان أخصب وأطيب وأرحب الأوقات للقاء الله على (بساط) و(جناح) صلاة الليل.

 

8- (الصلاة) لله.. و(الصوم) لله:

قال سبحانه: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام/ 162).

بما يتوفّران – هما وكافة العبادات الأخرى – على شرط (الإخلاص).

بقي أن نقول بأنّ الصلاة (فريضة ونافلة)، كالصوم (فريضة ونافلة)، وهنا تحديد وسعة في الصوم، وهناك تحديد وسعة في الصلاة، لمن شاء أن يكتفي ولمن شاء أن يستزيد.

 

-              ثامناً: الدُّعاء والتضرُّع

الموسمُ الرمضاني سماءٌ صافية غير مُلبَّدة بالغيوم، وأبواب مُفتَّحة لا تُغلق لا في الليل ولا في النهار، ملائكة يصعدون بالدُّعاء، وملائكة ينزلون بالرحمة، والفيضُ الربّاني مبسوط لكلّ يدين مرفوعتين بتذلُّل وخشوع واستعطاء ورجاء.. إنّه موسمٌ آلى الله تعالى على نفسه وكرمه ورحمته أن لا يردّ فيه سائلاً سأله شيئاً من الخير والصلاح والتوفيق.

 

1- الدُّعاء.. ضمانةُ الاستجابة:

قال جلّ جلاله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة/ 186).

ويرشدون تعني حتى يبلغوا الرّشاد وهو الفلاحُ والسعادة، ولهذا اعتبر سبحانه المنصرف عن الدُّعاء مُتكبِّراً، قال عزّوجلّ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60)، وداخرين أي مُرغمين. ولهذا أيضاً وصفت بعض الروايات الدُّعاء بأنّه (مُخّ العبادة) لقوله جلّ جلاله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (الفرقان/ 77).

 

2- الدُّعاء (كما الصوم والصلاة).. شرطه التوجُّه الصادق:

قال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل/ 62).. والمضطر الذي لا يملك حولاً ولا قوّة، ولم يجد مُسعفاً ومُنجداً غير الله تبارك وتعالى الذي يقول: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف/ 28)، وإرادةُ وجهِ الله: طلبُ مرضاته.

 

3- الدُّعاء.. قرينُ (الصلاة):

قال عزّوجلّ في استثمار أوقات الليل للتقرُّب منه: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة/ 16-17).

والتجافي عن الجنوب يُرادُ به قيام الليل (صلاته).

 

4- الدُّعاء.. سلاحُ الأنبياء::

فإذا كان الأنبياء:، وهم الموفودون أو المبعوثون من قبل الله لهداية الناس، والمزوَّدون بسلاح النبوّة، لا يتركون (سلاح الدُّعاء) في معترك الحياة التي تتطلب (الصبر) و(المواجهة) و(الثبات) و(الرِّضا بقضاء الله)، فما بالك بالإنسان الأعزل الذي لا يملكُ إلّا الدُّعاء، كما ورد في بعض الأدعية.

لاحظ بعض ضراعات الأنبياء::

قال تعالى في دُعاء أيوب 7: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء/ 13-14).

وقال عزّوجلّ في دُعاء يونس 7: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء/ 87 – 88).

وقال سبحانه في دّعاء نوح 7: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ) (الصَّافّات/ 75).

هذه وغيرها من أدعية الأنبياء والرُّسُل: ترشدنا إلى حقيقة أنّ الدُّعاء ليس (قناة) نبويّة حصريّة، وإنما هو قناة مفتوحة على الله من قبل كلّ الداعين المُتضرِّعين، بدلالة قوله عزّوجلّ: (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).

ورد في الرواية عن الإمام عليّ 7: «ما كان الله ليفتح على عبد باب (الشُّكر) ويغلق عنه (باب الزيارة)، ولا يفتح على عبد باب (الدُّعاء) ويغلق عنه باب (الإجابة)، ولا يفتح على عبد باب (التوبة) ويغلق عنه باب (المغفرة)»[7].

ويقول الشاعر الواثق برحمة الله تعالى وإجابته:

أشكو إليكَ أُموراً أنتَ تعرفُها       ما لي على حَملِها صبرٌ ولا جَلَدُ

وقد مددتُ يدي للضُرِّ مستكناً     إليك يا خيرَ مَنْ مُدّتْ إليه يدُ

 

-              تاسعاً: شهر رمضان.. التوبةُ والاستغفار

شهر رمضان موسمُ (التوبة والاستغفار) أيضاً، إذ طالما كانت أبوابُ السماء مُفتَّحة لاستجابة الدُّعاء، فهي مشرعة لاستقبال استغفار المستغفرين وتوبة التائبين. وطالما كان العطاءُ الإلهي مضاعفاً في شهر الضيافة الربّانية، كان التائبُ المستغفرُ في هذا الشهر راجياً لمزيد من الرحمة واللطف والبركة والعناية.

قال سبحانه على لسان نوح 7 وهو يخاطب قومه، وهو خطاب لكلّ الناس: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) (هود/ 52).

 

1- الاستغفار.. قرين التوبة أو مقدّمتها:

قال تعالى على لسان صالح 7: (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود/ 61).

العطف بـ(ثمّ) يعني التتابع، أي إنّ الاستغفار ندم لفظي، وأنّ التوبة ندم عملي، ولا يكفي استغفار من غير توبة.

 

2- شرط التوبة.. الإقلاع عن المعصية:

قال عزّوجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) (التحريم/ 8)، والتوبةُ النصوح التي لا عودة بعدها إلى الذنب. قال جلّ جلاله: (إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة/ 160).

 

3- (التوبة).. عملٌ يحبّه الله ويحبّ العاملين به:

قال جلّ جلاله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/ 223).

رُوِي عن الإمام عليّ 7: «ومَنْ أُعطي التوبة لم يُحرَم القبول»[8].

من هنا كان الرافض للتوبة، المُصرّ على ذنوبه، والمقيم على معاصيه، ظالماً لنفسه لأنّه يحسن استثمار الفرص، لأنّه وجدَ (باب التوبة) مفتوحاً أمامه ولم يدخله لينال المغفرة، قال تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات/ 11)، فلماذا (التسويف) و(التأخير) و(التأجيل) وعدم التدارك، ولا ضمانة عند المسوّف متى يأتيه أجله، قال سبحانه: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النِّساء/ 18).

 

4- التوبة.. غفرانٌ شامل:

ورد في الأخبار إنّ (أرجى) آية في كتاب الله (أي أكثرها رجاءً برحمة الله) قوله سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزُّمر/ 53).

قال الإمام الباقر 7 لصاحبه (محمّد بن مسلم): «كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة، وأنّ الله غفورٌ رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيِّئات، فإيّاك أن تُقنِّط المؤمنين من رحمة الله»[9].

 

-              عاشراً: شهر رمضان.. شهرُ القرآن (ربيع القرآن)

عندما نقول بأنّ شهر رمضان هو شهر القرآن، فإنّنا نعني به المعاني أو المرادات الآتية:

1- أنّ القرآن نزل فيه: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة/ 185) وأنّ ليلة عظيمة من لياليه هي التي أُنزل فيه القرآن جُملةً واحدة – على رأي بعض المفسِّرين – على صدر النبيّ 6 ليأخذ فكرة عامّة شاملة استيعابية عن مضامينه الكاملة، وهي (ليلة القدر) التي قال الحقّ فيها وفي القرآن: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (القدر/ 1).

2- أنّ أجواء الشهر الكريم مناسبة ومساعدة على قراءة القرآن وختمه والتدبُّر فيه، سواءً في نهاراته إنْ كان ثمة متسعٌ من نهار، أو في لياليه التي هي أفضلُ الليالي كما ورد في خطبة النبيّ 6 لاستقبال شهر رمضان، في فضل مَن قرأ آية فيه كمن ختم القرآن في غيره من الشهور.

3- أنّ فرصة دراسته في المعاهد والمساجد والبيوت متاحة أيضاً، لأنّ قارئ القرآن يحتاج إلى أن يسأل عن معانيه، أو يتوقّف عند إشاراته ودلالاته وإيحاءاته، وقد تكون فرصة الشهر مواتية للقراءة الواعية بالتدبُّر والمدارسة واستلهام المعاني والدروس.

4- وربّما أُريد أن يكون شهر رمضان بداية عهدٍ وعقد جديدين بين القرآن وبين الإنسان المسلم الذي يتلو آياته، حتى إذا انتهى الشهر لا يُودِّعه إلى العام المقبل، وإنما يتواصل معه بقراءة ما تَيسَّر، وبذلك يكون شهر رمضان المنطلق لعلاقة أوثق وأعمق مع الذِّكر الحكيم، تماماً كما نقول عن يوم بأنّه (يوم النظافة)، أو أسبوع النظافة، فإنّنا لا نقصد الاهتمام العالي بالنظافة في ذلك اليوم أو الأسبوع، ثمّ نترك هذا الاهتمام في بقية الأسابيع والأيام، وإنما نتخذ من ذلك اليوم بدايةً ومنطلقاً لاهتمام جدّي بالنظافة والتنظيف، وهكذا نفهم من أنّ شهر رمضان (شهر القرآن) بامتياز.

والسؤال هنا: كيف نستثمر الموسم الرمضانيّ في إقامة علاقة أفضل مع كتاب الله المجيد؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تتطلّب التعرُّف على روابط الموضوع الآتية:

 

1- القرآن.. مُصدِّقٌ لكلّ الرسالات السماويّة، ومهيمنٌ عليها:

قال تعالى: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (الأحقاف/ 30).

وقال عزّوجلّ: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (النِّساء/ 162).

والهيمنة تعني (الحاكمية)، إذ إليه يُرجع لمعرفة (الحقّ) و(الصواب) و(الأصيل من الدخيل).

 

2- القرآن.. كتابُ تذكير:

إنّ من خصائص القرآن العظيمة أنّهُ (تذكرةٌ)، ومعنى التذكرة أن يُذكِّر الإنسان دائماً بـ(علاقته بالله) و(برسوله) و(بكتابه) و(بمسؤولياته) و(بالمعاد) يوم الحساب والجزاء، كما يُذكِّره بسُنن التاريخ التي يُمثِّل القواعد المجتمعية التي يتعيّن عليه النظر والتأمُّل فيها وإدخالها في الحسابات والمعادلات والتحليلات واستخلاص الرؤى والتصوّرات، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) (الزخرف/ 44)، وقال جلّ جلاله: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر/ 17)، والمُدَّكِّر: المُتذكِّر، المُتّعظ، المُعتبر.

 

3- القرآن.. للتفكُّر والتدبُّر، لا للقراءة والحفظ فقط:

قال تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النِّساء/ 82).

وقال سبحانه: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمّد/ 24).

 

4- القرآن.. كتابُ الحقّ والحقيقة:

قال عزّوجلّ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة/ 2).

وقال سبحانه: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فُصِّلت/ 42).

ولأنّه خالٍ من الريب والباطل أمكن اعتماده مرجعاً ومرجعية.

 

5- القرآن.. شفاء لأمراض خُلقيّة ومجتمعيّة:

قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) (الإسراء/ 82).

والشفاء يعني المعالجات التي تقود وتؤدّي إلى الصلاح.

 

6- القرآن.. كتاب الوعي (بصائر):

قال تعالى: (هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 203).

والبصائر هي الحجج البيِّنة والبراهين الساطعة التي تُمثِّل منارة الوعي، وأرقى ما يرتقي به، لأنّه (هدى) يهتدي به السائرون في طريق الحياة، ولأنّه (رحمة) ينجي من المزالق والمهالك لمن يتخذه مناراً يستنير به، قال جلّ جلاله: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأولِي الألْبَابِ) (يوسف/ 111).

 

7- القرآن.. فيه تبيانٌ لكلِّ شيء:

قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل/ 89) لا بمعنى أنّ فيه كلّ التفاصيل والجزئيات، وإنما هو كتاب (كلِّيّات) و(عموميّات)، أي قواعد عامّة و(خطوط عريضة)، و(أُصول) يمكن أن تُشتق منها فروع وتفريعات، وآراء وتصوُّرات، يقول تعالى في ما يمكن أن يُعتبر تفسيراً أو تقريباً للمعنى: (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الزُّمر/ 27).

ويكفي للتدليل على قيمة القرآن التي يجب أن نستشعرها ونُقدِّرها في شهر نزوله (شهر رمضان) ما قاله الإمام عليّ 7 في وصفه: «واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناجي الذي لا يغشّ، والهادي الذي لا يضلّ، والمُحدِّث الذي لا يُكذِّب، وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان من عمى، واعلموا أنّه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة (فقر) وحاجة إلى هادٍ سواه، ولا لأحد قبلُ القرآن من غنى»[10].

وكم هي جميلة دعوةُ (إقبال اللاهوري) للخروج بالقرآن من دفتيه و(سطوره) إلى فضاءات العمل به مجتمعياً:

أيُّها الشادي بقرآنٍ كريم    وهو في رُكنٍ من البيت مُقيم

قُمْ وأبلغْ نورَهُ للعالمين      قُمْ وأسمعه البرايا أجمعين

إن تكنْ في مثل نيران الخليل       أسمع النمرودَ توحيدَ الخليل[11]

 

-              الحادي عشر: شهر رمضان.. ليلة القدر (سيِّدة الليالي)

قال تعالى في قيمتها وقدرها العظيم: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر/ 2-4).

وقال عزّوجلّ: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (الدخان/ 2-4).

ولقد سبق لـ(مؤسّسة البلاغ) أن أصدرت كتاباً بعنوان (سيِّدة الليالي) تحدّثت فيه بشيء من التفصيل عن قيمة هذه الليلة الفريدة، ومنزلتها عند الله، وما يحتشد فيها من كنوز، الرحمة والمغفرة والتوبة واستجابة الدُّعاء، وما تنطوي عليه من بركات تمدّ بجناحيها أو بظلّها على عام الإنسان الصائم كلَّه، وكنّا قد اعتبرناها (رأس سنة الإنسان المسلم) نظراً لما يجري فيها من تقيُّد لسنته القادمة، ولا نريدُ هنا إعادة ما ذُكِر هناك، ولذا نُحيل القارئ الكريم إلى الكتاب المذكور.

 

-              الثاني عشر: شهر رمضان.. مدرسةُ الأخلاق والتهذيب

مرّةً أخرى نؤكِّد أنّنا لسنا بصدد حصر الآفاق الرمضانية في داخل حدود هذا الشهر الكريم، إذ ليس هناك شيء مختصّ ومقتصر على الشهر سوى صوم الفريضة، وما عداه من أعماله ومستحباته، مساحتهُ السنةُ، بل الحياة كلّها.

ونُلفت عناية القارئ الكريم إلى اغتنام الشهر في (تحسين الأخلاق) عملاً بقول النبيّ 6 – كما في الرواية عنه – : «ومَن حَسَّنَ منكم خُلقه في هذا الشهر كان له جواز على الصراط»[12]، لأن تخفف الإنسان الصائم من العوالق والروابط والمكبِّلات المادّية تجعله أقدر على تهذيب سلوكه وأخلاقه، إذ كلّما انخفضت نسبةُ الطعام وتقلّصت الوجبات، أتاح ذلك لجوارح الإنسان نشاطاً أكبر، وروحية أعلى، ولذلك ترى حتى غير المسلمين يقومون برياضات الصوم ليحظوا على بركات الإشراقات الروحية والنفسية والإلهامية (العقلية والفكرية والإبداعية)، بل حتى على التحكُّم أو السيطرة على الجسم أيضاً، مما يندرج تحت أكثر من عنوان تنموي أهمّها (اليوغا) و(امتلاك زمام الإرادة).

وهاهي سياحة الصائم في شهر رمضان تمنحهُ فرصة (التخلّي) عن سيِّئات الأخلاق، كما يتخلّى عن (المفطرات)، و(التحلّي) بمكارم الأخلاق، كما يتحلّى بصفاء الروح وسكون الجوارح، وتطامن الغرائز، أو الحدّ من جموحها.

ويمكننا أن نرصد ذلك في بعض إشارات القرآن، وهي واسعة كثيرة لا تسعها مساحة هذا الكتاب:

 

1- الأخلاق.. اكتسابية:

قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10).

والتزكية (التنشيط بالصلاح) مسعى إنساني تربوي للتنمية والترقية الذاتية، كما أنّ التدسية (الإنقاص والإخمال بالفجور) تقاعس إنساني للمراوحة ثمّ التراجع والانهيار.

 

2- الأخلاق.. عامل جذب واستقطاب:

قال عزّوجلّ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159).

إذ ليس القرآن الصامت (الكتاب الكريم) وحده بكافٍ على بناء الأخلاق، بل لابدّ من نسخة بشرية ناطقة ومتحرِّكة تُرافقه وتلازمه ليؤدّي وظيفته الأخلاقية على أكمل وجه، فكان النبيّ6 مترجم القرآن عملياً، ثمّ الأئمة من أهل بيته: الذين قرنهم6 بالقرآن في (حديث الثقلين).

 

3- الأخلاق.. سيِّدها التواضع:

قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر/ 88).

وقال سبحانه في وصيّة لقمان لابنه: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) (لقمان/ 18-19).

لأنّ كلّ الخصال الكريمة المحمودة قد تحمل الإنسان على الإعجاب بنفسه، وما لم يجللها التواضع تفسد.

 

4- الأخلاق.. اختيارُ واعتمادُ محاسَنها:

قال تعالى: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا) (الإسراء/ 53).

وقال سبحانه: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83).

وقال جلّ جلاله: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) (المؤمنون/ 96).

وقال تقدَّست أسماؤه: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا) (النِّساء/ 86).

والتفضيل في (أحسن) أي الذي يحقق التقارب والتوادد والتصافي والتكامل.

 

5- الأخلاق.. سباقٌ وتنافس في الخيرات:

قال تعالى: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (البقرة/ 148).

وقال عزّوجلّ في صفة الصالحين: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران/ 114).

وقال جلّ جلاله: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26).

وعلى ذلك فنحن لسنا –كما يُقال ويتردَّد– في دار امتحان وحسب، بل في مضمار سباق أيضاً.

 

6- الأخلاق.. (صَلاحٌ) و(إصلاح):

قال تعالى في (الصلاح): (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة/ 105).

وقال عزّوجلّ في (الإصلاح): (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 10).

هما إذن عملان متلازمان: صلاح للذات وإصلاح للمجتمع.

 

7- الأخلاق.. توازنٌ واعتدال:

قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (الأعراف/ 31).

وقال عزّ شأنه: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الإسراء/ 26-27).

وقال سبحانه في صيغة الدُّعاء: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 147).

رُوِي عن رسول الله 6: «إنّكم لا تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم»[13].

وهذا ما استوحاه الشاعر منه في قوله:

لا خيلْ عندك تهديها ولا مالُ       فليُسعد النطق إنْ لم يسعدُ المالُ

 

-              الثالث عشر: شهر رمضان.. والصدقةُ والزكاة

1- كرمُ الله ولطفهُ وسعة رحمته ومغفرته في هذا الشهر الاستثنائي الكرم والتكريم والكرامة.

2- كرمُ المحسنين الصائمين الذين يندفعون لإطعام الجياع، وإكساء العُراة، والإحسان إلى الأقرباء والإخوان والجيران، وقضاء حوائج المحتاجين بحسب القدرة والاستطاعة.

وبذلك يكون هذا الكرم المزدوج مصداقاً لقول الشاعر:

يجودُ علينا الأكرمون بمالِهم  ونحنُ بمالِ الأكرمينَ نجودُ

إنّ دوافع الصدقة والتصدُّق والتزكية (أداء الزكاة) تزداد في هذا الشهر الفضيل، لما يستحضره الصائم من بركات تنالهُ جرّاء صدقاته، ولما يتقاضاه في المقابل من مكافآت وجوائز وعطايا، ولذلك فإنّ اقتران (الصدقة) بـ(الصوم) ليس عابراً أو طارئاً أو مُقحماً على الشهر الذي يتصدّق فيه المولى الكريم بالعفو والمغفرة على عباده، ويُراد لهم أن يتخلّقوا بأخلاقه.

ولذا كان لابدّ من إستشراف هذا الأُفق الرمضانيّ من خلال:

 

1- الصدقة.. (تطهيرٌ) للمال و(تنمية):

قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة/ 103).

والتطهير هنا تخليص وإزالة لرواسب وشوائب البُخل والشُّحّ والتقتير، والتزكية هي تنمية الأموال بالخير والبركة والتوفيق في الدنيا، والجزاء المنتظر في الآخرة.

 

2- الصدقة.. أفضلها:

أ) الإنفاق من الحلال الطيِّب:

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (البقرة/ 267).

(تُغمضوا فيه) تتساهلون في الإنفاق من الرديء، في حين إنّ الصدقة تقع بيد الله قبل يد السائل، فلابدّ من أن نحرص على أن تكون طيِّبة، جيِّدة، لائقة، قال تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) (التوبة/ 104).

ب) عدم إتباعها بالمنّ والأذى:

قال عزّوجلّ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 262).

والمنّ: التذكير بالصدقة وبالمتفضِّل بها بين حين وآخر، والأذى: إخبار الآخرين عنها بحيث تنكشف حالة ضعف المُتصدَّق عليه في أعينهم، وعلى ذلك كان الإمام عليّ 7 يقول: «لا يستقيم قضاء الحوائج إلّا بثلاث: استكتامها لتظهر، واستصغارها لتكبر، وتعجيلها لتهنأ»[14]، إذ لا حاجة لإيذاء المحتاج بالكشف عن الصدقة أو الصدقات التي كانت تصله من أيّة جهة كانت، خاصّة وأنّ الله تعالى سيتولّى نشرها في الدلالة على إحسان المُحسن.. وإذا لم تظهر للناس، فيكفي أنّ الله يعلم بها، ولا تضيع الودائع عند مَن لا تضيعُ ودائعه.

 

3- الصدقة.. مظهرٌ عمليّ من مظاهر الصلاح:

قال تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون/ 10).

أي إنّ بعض الذين يتوفّاهم الله تعالى يجدون ثواب الصدقة العظيم فيندمون لأنّهم لم يتصدّقوا في حياتهم، فيرجون من الله إعادتهم إلى الدنيا لكي يتصدّقوا ويكونوا من المؤمنين المحسنين الصالحين.

ولابدّ – ونحنُ نعيشُ السِّعةَ في شهر رمضان – أن نَتعرَّف على السعة الذاتية التي يحملها مفهوم الصدقة، إذ ليست الصدقة محصورة في المال فقط، وإنما هي كلُّ بذلٍ مادّي أو معنوي يُريدُ به الباذل (المُتصدِّق) وجه الله ورضاه.

جاء في الخبر، عن رسول الله 6: «على كلّ مسلم في كلّ يوم صدقة. قيل: مَن يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: إماطتك (إزالتك الأذى) عن الطريق صدقة، وإرشادك الرجل إلى الطريق صدقة، وعيادتك المريض صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وردّك السلام صدقة»[15].

وورد عنه 6 أنّ الكلمة الطيِّبة صدقة، وتبسُّمك في وجه أخيك صدقة؛ لكن هذا يأتي إذا لم يكن لدى الإنسان المسلم سعة مالية، فيتسع الموضوع لولائه المعنويّ.. وإذا كان ذا سعة (غنياً أو ثرياً)، فإنّ المفهوم يتسع لعطائيه: المادّي والمعنوي، لا أن يكتفي بالثاني دون الأوّل.

والصدقة ممدوحة (علنيةً) كانت أو (سرّية)، وإن كانت الثانية أقرب إلى التقوى وأحبّ إلى الله لأنّها بعيدة عن الرِّياء، وإذا أُريد بصدقة العلن أحياناً تشجيع الآخرين الذين يبخلون بمالهم، فإنّ النيّة تقلب العلن إلى عمل مستحب. ورد عن الإمام عليّ 7 في أفضل ما توسّل به المتوسِّلون إلى الله: «... وصدقةّ السرّ، فإنّها تُكفِّر الخطيئة، وصدقة العلانية، فإنّها تدفعُ ميتةُ السُّوء»[16].

وأمّا (زكاة الفطرة) التي يُعبَّر بها عن زكاة الأبدان العنوان البارز للتصدُّق في شهر الصيام، حيث إنّ استخراجها في ليلة العيد عن كلّ فرد من أفراد الأُسرة، وإيصالها إلى الفقراء صبيحة العيد، يعدّ استكمالاً واستتماماً لفريضة الصوم، وبلوغاً بصدقات الشهر المستحبّة إلى هذه الزكاة الواجبة على القادرين.

 

-              الرابع عشر: شهر رمضان.. والجهاد والمقاومة

خلدت معركة (بدر الكبرى) في التاريخ الإسلامي لأسباب عدّة:

منها: أنّها الأُولى التي انتصر فيها المؤمنون على المشركين، وأنّها أحدثت انعطافة في مسار الرسالة بعد ذلك، وأنّها حصلت في شهر الصيام (شهر رمضان) الذي يُعلن فيه الإنسان الصائم استعداده للمقاومة الذاتية في مكافحة (البُخل والشُّحّ)، وفي مقارعة العادات السيِّئة والسلبية والمستحكمة بقراراته وإرادته، وفي تجاوز البذيء من الكلمات، والمُسيء من التصرُّفات، ومجانبة المكروهات والمُحرَّمات.

وبهذا يكون شهر رمضان ليس محطة للتعبئة أو الشحن بالوقود الذاتي من خلال الآفاق التي عرضنا لها، وإنما من خلال الإعداد والاستعداد ليكون الجنديّ الباسل والمقاوم في حركة الدفاع عن (الوطن) و(القيم) و(المقدّسات) والأنفس والأموال والأعراض.

وقعت غزوة بدر في (17 رمضان) من العام الثاني للهجرة، وهذا هو وصفُ القرآن لمشهدها الحيوي المُتحرِّك، الذي مازال يُفرغ في النفوس حماسةُ للدفاع عن الدين العظيم واقتدائه بكلّ شيء، قال تعالى: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ) (الأنفال/ 42-44).

ويرى المؤرِّخون أنّ معركة بدر الكبرى حقَّقت نتائج إستراتيجية مهمّة ذكرت الموسوعة الإسلامية الميسّرة لمحمود عكام أهمّها، نشير إليها بتصرُّف:

1- قَوَّت شوكة المسلمين وكسرت شوكة قريش (المشركين)، حيث قُتل سبعون من كبارهم ومنهم (أبو جهل)، وأُسِر سبعون.

2- غَيَّرت قريش طريق تجارتها إلى طريق بعيد، مما كبَّدها خسائر فادحة، وأمن المسلمون من شرورهم.

3- انكشف الواقع المجتمعي المسلم عن (طابور خامس) خطير، وهم فئة المنافقين الذين كانوا يتوقّعون هزيمة المسلمين، وراحوا يفتضحون بسبب تصريحاتهم المعادية.

4- أظهرت المعركة عداوة اليهود للمسلمين.. (ومازال اليهود يعادون المسلمين، بل احتلّوا أرضهم في فلسطين التي فيها بيت المقدس أولى القبلتين، وثالثُ الحرمين).

5- مَهَّدت الطريق لانتصارات لاحقة.

6- أعزّ الله بنصره ومدده الغيبي دينه العظيم، وقد لمس المسلمون ذلك لمس الحقيقة، وشاهدوه بأُمّ أعينهم، فزادهم ذلك إيماناً على إيمانهم.

هذه الواقعة الجهادية التاريخية لا ينبغي أن تمرّ في ذاكرة المسلمين كتاريخ يُقرأ ويُثير الإعجاب والتمجيد، وإنما زرعت في وعي المسلمين حقيقة أنّ الله يدافع عن الذين آمنوا، وأنّه ناصرُ مَنْ ينصره، وأنّ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، وأنّ طريق الجهاد والمقاومة سالكة، كلّما أرادت الأُمّة أن تحافظ على حرِّيّتها وعزّتها وكرامتها، وأن تستقل بقرارها، وأن تواجه التحدّيات التي تعترض رسالتها، وتحاول إضاعة إنجازاتها.

 

-              الخامس عشر: شهر رمضان.. واستثمار الوقت والفُرص

الدعوة إلى اغتنام الفُرص لأنّها تمرّ مرّ السحاب، وقلّما ذهبت فرصة وعادت ثانية، تتركّز في إيلاء شهر رمضان (على اعتبار أنّه مقطع زمنيّ) العناية الخاصّة التي تمكن شاهده، وصائمه، وقائمه، والمتصدِّق فيه، والمتعاطي مع وعيه القرآني، والمُتخلِّق بخُلق حسن، والمُصلح بين الناس، والمستغفر التائب من ذنوب سنته، من استثمار هذا الوقت النفيس أفضل الاستثمار للدواعي الآتية:

1- شهر رمضان كفّارة السنة، أي إنّ الذي يُوفَّق لصيامه وقيامه والالتزام بآدابه وأعماله، يكون قد أجرى عملية مسحٍ شاملة لذنوبه السنويّة، وبذلك يمكن اعتبار شهر رمضان حمّاماً سنوياً، كما أنّ الصلاة اليومية حمّاماً يومياً، وصلاة الجمعة حمّاماً أسبوعياً، والحج حمّاماً عُمرياً (لأنّه مرّة في العمر).

2- في شهر رمضان ليلة واحدة فقط وهي (ليلة القدر) خيرٌ من ألف شهر، والألف شهر يزيد عن الثمانين عاماً، فإذا كان معدّل أعمار الإنسان الآن هو بين (70 - 80) سنة، فإنّ ذلك يعني أنّ ليلة واحدة مُتقبَّلة عند الله تعادلُ العمرَ كلّه، فأي استثمار للوقت المكثف والنوعي النفسي، أعظم من هذا وأكثرُ بركات؟!

3- في شهر رمضان تتضاعف الرحمات، والمغفرات، والبركات، والألطاف، والهدايا، والجوائز، والهبات، فأيّ (تاجرٍ) يفهمُ في حقل التجارة جيِّداً، وقد عقد الصفقات الضخمة والكبيرة، ويعرف كيف يقتنص ويغتنم الموسم ويجني الأرباح، يُفوِّت فرصة استثمارية عظيمة هي (شهرُ رمضان) والتجارة فيه رابحة بأرباح فوق العادة والمتوقع، وأكيدة، ومضمونة، بل وتكفي العمرَ كلّه؟!

يقول تبارك وتعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر/ 1-3).

ولقد شاءت حكمة الله تعالى أن يجعل في الزمن أوقاتاً مخصوصة لها فضيلة قد نعلم بعض سرّها بما كشفه سبحانه لنا، وبما عَرَّفنا نبيّنا 6 وأهل بيته : ذلك، فكانت مظانّ الرحمة، ومنتديات القُرب، وموسم القطاف، كما إنّ الأشهر الثلاثة (رجب وشعبان ورمضان) وكما هو (ذوالحجّة).

القرآن يتحدّث عن خسارة الإنسان (المُضيِّع) و(المُفرِّط) و(المُسوِّف) و(المُهمِل) و(المُتقاعِس) و(التاجر الفاشل) حقّاً هو الذي لا يعرف كيف يستثمر الوقت الثمين ليجني أرباحاً مضاعفة، يقول الشاعر:

إذا أنتَ لم تزرع وأبصرتَ حاصداً   ندمت على التقصير في زمن البذرِ

هذه هي قصّةُ (شهر رمضان) في آفاقه التعدُّدية، وأبعاده الروحية والاجتماعية والتنموية، فهل يمكن أن نُعيد تقييم شهرنا القادم على ضوء ذلك، ليكون رمضاننا الآتي أيمن رمضان، وأبرك، وأفضل، وأغنى رمضان يمرّ بنا.

أللّهمّ وفِّقنا إلى استثماره حقّ الاستثمار.

-وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-

 

 

 

 


[1] - رواه البخاري/ 1761، ومسلم/ 1946.

[2] - جاء ذلك في بعض دروسه لتفسير القرآن.

[3] - نهج البلاغة، الخطبة 193.

[4] - نهج البلاغة، قصار الحكم/ 291.

[5] - صحيح مسلم، كتاب الصوم، 1150.

[6] - إعلاء السُّنن للتهانوي، ج8، ص117.

[7] - نهج البلاغة، قصار الحكم/ 425.

[8] - نهج البلاغة، قصار الحكم/ 135.

[9] - المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص4.

[10] - نهج البلاغة، الخطبة 176.

[11] - مجالس شهر رمضان، ص199.

[12] - الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج4، مجلد7، كتاب الصوم، ص227.

[13] - في صحيفة الإمام الرضا 7، عن الإمام عليّ 7.

[14] - أمالي الطوسي، 1/ 198.

[15] - سفينة البحار، عباس القمي، مادّة (صدق).

[16] - نهج البلاغة، الخطبة 11.

ارسال التعليق

Top