• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

حج بيت الله المحرم من الناحية الفلسفية

حج بيت الله المحرم من الناحية الفلسفية
◄الحج كما نعلم جميعاً، ركن من أركان الإسلام، وشعيرة يتطلب القيام بها البذل من المال والنفس، وعبادة لا يتم للقادر عليها دينه، إلا بالاضطلاع بها، حتى ليُروى عن الرسول (ص) أنّه قال: "من مات ولم يحج، فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً". وليس من همِّي الآن بيان ما للحج من مقدمات ومعالم وشروط لا يتم إلا بها؛ بل موضوع الحديث، هو الحج، باعتباره عملاً اجتماعياً تدعو إليه الفكرة الفلسفية، لو لم يدع إليه الدين. الإنسان مركب من عنصرين: أرضي وهو الجسد، وسماوي وهو الروح. وقديماً قام النزاع الحاد بينهما، كما يكون بين الشيئين، أحدهما للآخر ضد وعدو. والناس في ميلهم إلى هذا العنصر أو ذاك، بين مفرِّط ومُفْرط، إلا من كان حكيماً فعرف لكل حقه، وأرضاه بقدر. ولم ترتطم الإنسانية في هذه الغمرة التي نلمسها في هذه الأيام، إلا بسبب انحيازها إلى الناحية المادية، وانغماسها فيها. لهذا، كان لابدّ من عمل يلفتنا بقوة عن هذه الحياة، بما يستلزمه من إعراض عن زينة الدنيا وطيباتها، وبما يوجبه من مساواة تشعر الغني منا بأنّه أخ لمن يعيش بينهم من عبيد الله، لا يتميز عنهم في ملبسه ومظهره وعامة أحواله. هذا العمل، هو الحج، الذي يعتبر في الشريعة الإسلامية – كما يقول الغزالي – عوضاً عن الرهبانية في المسيحية، إذ فيه ما فيها من كبت الشهوات، والبعد عن الدنيا، والإقبال على الله، والسمو بالروح، وقد سلم مما يلازم الرهبانية من عنت وإرهاق دائمين. ثمّ، في الحج، زيارة البيت العتيق الذي أضافه الله إلى نفسه لشرفه، وفيه اجتماع لأكبر عدد من المسلمين في صعيد واحد، يؤمون غرضاً واحداً. ولكن من هذين – الحج والزيارة – حكمته وأثره البعيد، في حياة الأُمّة. والأُمّة إنما تشقى إذا تناكرت وتفرقت بها السبل. والإسلام الذي حث المسلمين على أن يأتمروا بينهم بمعروف، جعل لهم مؤتمرات: بعضها يومي وهو الصلاة جماعة، وبعضها أسبوعي، أوسع وأعم من سابقه، وهو صلاة الجمعة، وبعضها كل عام على نحو أشمل، وهو صلاة العيدين، وأخيراً المؤتمر الأكبر، وهو الحج الذي يجب أن يشهده كل مسلم قادر، مرة واحدة على الأقل في حياته. ومن الناس من لا يفهم الحقائق إلا ممثلة، أو مرموزاً لها بمُثل محسة، فكان من الحكمة أن يكون من شعائر الحج الطواف بالبيت، واستلام الحجر الأسود، رمزاً لما يجب أن يكون عليه المسلمون من وحدة في الهدف، واتحاد في التوجه لله. إنّ البيت الذي أمرنا بالطواف حوله، هو بيت الله، الذي جعله مثابة للناس وأمْناً، وفي الطواف به تشبُّه بالملائكة الحافين بالعرش، الطائفين به، قانتين مسبحين لا يفتُرون، وفي ذلك ما فيه من سمو للروح، وعروج بها إلى السماوات العلا. والحلول بالبيت ورحابه، تمهيد طيب لرؤية صاحبه جلّ وعلا، متى صفت النفس، فصارت أهلاً لهذه السعادة القصوى، وفي استلام الحجر من المسلمين كافة، بيعة منهم جميعاً لله عزّ وجلّ، على كل ما هو حق وجميل وخير وفضيلة. أليس هذا الحجر المقدس، كما جاء في الحديث الشريف: "يمين الله، يصافح بها خلقه"؟ إن في استلام هذا الحجر، وهذا ما يرمز إليه، حافزاً قوياً على وفاء الحاج بما يعاهد الله عليه: من بُعد عن الشر، وحب للفضيلة، وحرص على عمل الخير. وفي الحج مع هذا كله، دلالة قوية على الثقة بالله، واستجلاب لعونه. تعزم على الحج المرأة الضعيفة بطبيعتها، والرجل الضعيف لمرضه وسنه الكبيرة، فما هو إلا أن يبدأ أحدهما السعي لما قصد، حتى يجد من نفسه القوة، ومن غيره المساعدة، وحتى يعود صعبُ الأمر ذلولاً، فتتهيأ له السبل ويمضي لما أراد دون عقبات أو صعاب. ذلك بأنّه نزع عنه رداء الغرور بنفسه وحوله، وألقى نفسه في سبيل الله واثقاً به، متكلاً عليه، معتداً به وحده، فكان له ما أراد. والحجّ، بعد ما نعرف من الأعمال الظاهرة، له حقائق باطنة، يجب النفوذ إليها، وأحوال نفسية يشعر بها الحاج وينعم بها. إنّه ليعجبني في هذا، حديث جرى بين الشِّبليّ – رضوان الله عليه – وبين صاحب له. كان من هذا الحديث، أنّ الشبلي وهو متصوف حريّ بهذا الوصف، يرى أن من عقد الحج لله، ولم يفسخ بهذا العقد كل عقد يخالفه، كان كأنّه ما عقد الحج ونواه. وأن من تجرد من ثيابه للإحرام، ولم يتجرد مع هذا مع المعاصي، يكون كأنّه ما تجرد من ثيابه؛ وأن من لبى، ولم يذق عن الله جواب تلبيته، يكون كأنّه ما لبّى؛ وأن من أشرف على مكة، فلم يشرف عليه حال من الله تعالى، يكون كأنّه ما دخلها. وأن من صافح الحجر الأسود فلم يجد أثر الأمن، كان كأنّه ما صافحه أو لمسه، لأن من صافح الحجر، فقد صافح الحق سبحانه وتعالى، ومن صافح الله، صار في أمن وسلام منه. وأن من رمى الجمار، فلم يرم بهذا جهله، ولم يزدد به علماً يظهر عليه، كان كأنّه ما رمى، وأن من مضى من مكة إلى المدينة، فزار الروضة الشريفة، ثمّ لم يكاشف بشيء من الحقائق، ولم يرَ زيادة في الكرامات عليه، كان كأنه ما زار، لأنّ النبي (ص) يقول: "الحجاج والعمار زوار الله، وحق على المزور أن يكرم زُوَّاره". وهكذا، نجد من الشبلي – رحمة الله عليه – تحليلاً دقيقاً طريفاً للحج وأعماله ومشاعره، تفهم منه كثيراً من أسراره وفلسفته. ومن الحق أن نوافق الشبلي وأمثاله في نظرهم إلى الحج وحكمته وأسراره، هذه النظرة الفلسفية العالية. إنّ منّا من يبذل في سبيل السفر إلى الحاجز، كثيراً من المال، ويتعب نفسه بكثير من المشقات، وذلك في سبيل أن يظفر بلقب "حاج"، ينال به من عروض الحياة الدنيا! ومنا من يعيش أيام الحج في تلك البلاد المقدسة، والأجواء الروحية السامية، ثمّ لا يتذوق شيئاً منها، فيعود أغلظ قلباً مما ذهب!. ومنا أخيراً، من عرف يقيناً خطر ما هو مقبل عليه، وعلم أنّه يهجر الأهل والوطن والشهوات واللذات، في سبيل الله وزيارة بيته الحرام. وإذاً فهو يقدر البيت قدره، ويرى لربه عظمته وجلاله، فيخلص النية له ويرعاه في كل خطوة له وعمل، ويجاهد نفسه وهواه حتى يرجع إلى بلده خيراً مما ذهب، ويعود إلى أهله وقد تقبل الله حجه، ورضيه وأرضاه. ذلك، والحج للكعبة وإن كان من خصائص أمتنا الإسلامية، فإنّه، باعتباره قصداً إلى مكان مقدس، عرفته الأُمم المتمدنة في العصور المختلفة: عرفه اليونان فكانوا يحجون قبل المسيح (ع) إلى معابد مقدسة لديهم، وعرفه الهنود والصينيون القدامى، ثمّ عرفه اليهود والمسيحيون الذين لا يزالون يحجون إلى بيت المقدس. ومما يجدر ملاحظته، أنّ الحجاج من هذه الأمم المختلفة وغيرها، يلتزمون في أثناء الحج، التقشف والزهد في هذه الدنيا كما نلتزم، ليشعروا أنفسهم شيئاً من الروحية العالية، وطلباً لمرضاة معبوداتهم وطمعاً في ثوابها. وليس هذا التوافق من الأمم المختلفة بعجيب، فالإنسان هو الإنسان في كل زمن، وإنّه ليحس في قرارة نفسه: الحاجة إلى السمو الروحي، والتقرب من المعبود، أو من الرمز الذي اتخذه لهذا المعبود. وهذا السمو والتقرب، لهما سبل عدة، من أهمها تجشم التعب، وبذل المال في سبيل الحج للمكان المقدس، الذي يراه ألصق البقاع بما اتخذه من إله. هذا هو سمو الحج عند الأمم المختلفة، لما يعتبرونه مقدساً من مكان، فكيف عندنا، وهو تلبية لنداء أبينا إبراهيم (ع)، وإجابة لرجائه ربه إذ يقول: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37)!. وهو مع ذلك استجابة لأمر نبينا محمد (ص) حين أمره الله بقوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ...) (الحج/ 27-28). فقد روي أنّه عليه الصلاة والسلام، لما نزلت هذه الآيات، صعد أبا قبيس فقال: "يا أيها الناس، حُجُّوا بيت ربكم"، فأسمعه الله تعالى من في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، فيما بين المشرق والمغرب، ممن سبق في علمه تعالى أنّه يحج، من الطائفين والقائمين والرُّكَّع السجود. إنّي أحاول أن أتصور ديناً خلا من الحج لمشهد مقدس وبقاع طاهرة، فلا أكاد أظفر إلا بصورة باهتة لدين ميت لا حياة في، قاصر عن بلوغ الكمال بمتبعيه. إنّه من النافع كل النفع، أن يصلي المرء، ففي هذا رياضة للجسم والروح، وحسن وجميل أن يصوم، ففيه تعويد على الصبر، وترقيق للنفس، وفائدة للجسم. ومن الخير للمجتمع، أن يؤدي أفراده الزكاة على اختلاف ألوانها، ففي هذا اقتلاع للحسد والحقد من قلوب المعوزين على القادرين، وعون للفقراء على متاعب الحياة، وإغلاق لكثير من السجون، وفتح لغير قليل من المنشآت الاجتماعية. ولكن، هذه العبادات كلها، لا تغني عن التزام الأُمّة للحج، لمكان واحد، وقصد غرض واحد، والعيش فترة من الزمن، في تجرد عن الحياة ومفاتنها، وإقبال على الله وحده، واستعداد لتلقي فيضه ورحمته، ما دمنا قد سعينا إلى بيته مخلصين النية له. ومن ذلك كله، نعرف أنّ الحج عمل يأمر به العقل قبل أن يوحي به الدين، وأن لكل عمل من أعماله وشعيرة من شعائره، حكمته وفلسفته، وأن ديناً صحيحاً لا يمكن أن يقوم بدونه، وأن أمة من الأُمم لا يسعها أن تستغني عنه. وحسبنا دلالة على هذا، ما أشرنا إليه من أنّ الأُمم التي خلت، عرفته وعرفت له خطره! وإنّ الأُمم كلها – على اختلاف مللها ونحلها – تعدّ الحج لمكان ما، أمراً مقدساً، ففي الحج رياضة للجسم، وسمو للنفس، وخير للأُمّة عامة. وإن أمراً تجمع عليه الأُمم في العصور الخالية، والأيام الحاضرة، رغم ما يفرق بينها من اختلاف في الجنس والدين والتقاليد، لهو أمر لا يقادر قدره، ولا يكادُ يدرك كل ما فيه من جمال وخير وفضيلة. من أجل هذا، أدعو الله أو يوفقنا لهذا الخير مرة بعد مرة، وأن يجعل حج من يحج من المسلمين عامة حجاً مبروراً، ليس له جزاء إلا الجنة، كما جاء في حديث المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.►   المصدر: كتاب الإسلام والحياة

ارسال التعليق

Top