• ٣ تموز/يوليو ٢٠٢٤ | ٢٦ ذو الحجة ١٤٤٥ هـ
البلاغ

ثقافة النقد السليم

ثقافة النقد السليم

    ◄من حيث المبدأ يحقّ لكلّ إنسان يرى عيباً أن ينتقده أو يحدِّد موقفه منه، ولأجل أن لا نخلط بين ما هو (نقد) وبين ما هو (شتيمة) أو تشفّي أو انتقاص، كان لابدّ من إشاعة ثقافة النقد السليم، وأن نتعرّف على (شروط النقد) و(مؤهلات الناقد).

    فإلى جانب (فنّ التعامل) وأدبه، والتجربة الاجتماعية الناضجة في الحديث على قدر العقول وحسب المستوى، وتقدير ردّة الفعل وحساسية المنقود، ودراسة ظروفه وملابساته، يُفترض أن تكون لدينا (ثقافة شرعية) لمعرفة ما هو الحلال والحرام، وما هو المعروف وما هو المنكر لننكره لكيلا نتجاوز الحدود ونشطّ عن المقصد فنعالج الخطأ بخطيئة، أو بخطأ أكبر منه أو مثله. وأن يكون لدينا الاطلاع الكافي على الشيء المنقود، ذلك أن أيّ نقص في المعلومات، أو عدم إحاطة بها يُسبب مشاكل اجتماعية نحنُ في غنى عنها، وردود أفعال غير محسوبة.

    ومن متطلبات هذه الثقافة اعتماد أسلوب رفيق وحكيم في النقد سواءً في (نبرة الصوت) أو في اختيار (أنسب الكلمات) فنبرة الحب التي ترافق النقد تفتح مسامع القلب له، وتجنّب المؤذي الجارح من الكلمات المقرِّعة والمؤنِّبة والمنفِّرة والمستفزّة هو المقصّ الذي نقصُّ به شريط الافتتاح للدخول إلى معرض النقد. فكلمات مثل (أنت أحمق)، (أرعن)، (متهوّر)، (غبي)، (دنيء).. أو (أنت أسوأ مَن عرفت أو رأيت) وأمثالها عبارات فظّة قد تُجابَه بمثلها أو بأعنف منها.

    ثقافة النقد تتطلّب احترام كرامة الإنسان المنقود، فثمة علاقة قويّة بين (النقد) وبين (احترام الذات).. لا تَنسَ أنّك تتحدّث عن عيب أو نقص، والإنسان – كما ذكرنا – حريص على كتمان عيوبه ونقائصه، واكتشافك لها يريبه فيخشاك ويتوجّس منك خيفة حتى تبدِّد توجّه بأسلوبك الوادع الرحيم الذي تشعرهُ من خلال أنّ هدفك وغاية نقدك أن تراه أفضل ممّا هو عليه، وأن لا يأتيه مَن قد يُسيء إليه في نقده.

    فيما يلي بعض من آليات النقد التي تدخل في صلب وجوهر الثقافة النقدية:

    

    - أوّلاً: من آليات النقد وأساليبه:

    إذا أردنا نؤرِّخ للنقد فإنّنا نرجعُ به إلى فجر الخليقة، منذ أن نهى الله تعالى أبوينا آدم وحوّاء عن الاقتراب من الشجرة المحرّمة والأكل منها، فارتكبا المحظور.

    جاءَ النقد الإلهي بالصورة التالية: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الأعراف/ 22).

    فالآية تشير إلى مخالفتين: الأكل من الممنوع، والاستماع إلى الممنوع، فهو نقد (إذا جاز اعتباره كذلك) يأتي بعد تعليمات مسبقة تمّت مخالفتها، أي هو تذكير بما نسياه واستنكار لذلك. والآية بعد ذلك لا تخلو من لطف ورقّة في كلمات: (ناداهما) و(ربّهما) وأداة الاستفهام (ألم) والأفعال (أقل) و(أنهكما) إنّه توبيخ ممزوج بلطف وعطف وتقدير لما يحمله الإنسان من ضعف.. وهذا درس في أسلوب النقد النموذجي.

    القرآنُ حافل بصور النقد لكلّ ما هو سلبي، فهو ينتقد (النفاق) ويعرِّيه لأنّه آفة اجتماعية، وينتقد التباهي والتفاخر والتكاثر والتظاهر بالمال والقوة والعدو، لأنّها غطرسة وتعالي ونسيان للفضل الإلهي، واعتبار ما ليس بقيمة قيِّمة. وينتقد التكالب الدنيوي ويبين الحجم الحقيقي لكلّ ما هو دنيوي، بمعنى أنّه نقد مبني على أساس.. نقد مبرّر أو معلّل له أسبابه المُقنِعة.

    وانتقد كذلك هزائم المسلمين في معركتي (أُحُد) و(حُنين) سواء في الانفضاض عن النبيّ (ص) أو بالاغترار بالكثرة العدديّة. وانتقد المتخلّفين عن الجهاد مع الرسول (ص). وانتقد تعجّل موسى (ع) في معرفة ما قام به الخضر (ع). وانتقد نفاد صبر يونس على أذى وجحود قومه. وانتقد نوحاً على اعتباره ابنه العاصي من أهله (أهل الإيمان).. إلى غير ذلك.

    القراءة المتأنّية لهذه الصور النقدية القرآنية تفيد في أنّ النقد الإلهي موجّه إلى (المخالفة) بغية إعادة الموقف غير الصحيح إلى صحّته واعتماده لاحقاً.. إنّه إلفاتُ نظر للإفادة من الخطأ كمعلّم.. واللافت أيضاً، أنّك لا تجد في كلّ النقود القرآنية تحطيماً للشخصية الإيمانية أو إخراج المؤمن الخاطئ من حضيرة الإيمان.. نعم، النقد القاسي الشديد اللهجة موجّه للمنافقين والكافرين والظالمين والمشركين فحسب.

    لنا إذاً في النقد القرآني النموذجي أسوة.. منه نتعلّم كيف نفرِّق بين (النقد للإصلاح) وبين النقد للذمّ والتقريع والتلويح بالعقوبة والرفض للآخر. ولو تتبعنا صيغ النقد المتداولة لرأينا أهمّها يندرجُ فيما يلي:

    أ- النقد المباشر:

    يخطئ إنسانٌ ما فتواجهه بخطأه وجهاً لوجه بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، أو بالتوبيخ والتعنيف، وهذا هو "النقد الناطق" الذي نستخدمُ فيه اللسان كآلة أو أداة تعبير تحمل النقد إلى الآخر، وهو نقدٌ مطلوب ومؤثّر خاصة مع مراعاة الآداب التي ألمحت إليها، ومن ذلك نقد الله تعالى لآدم وحوّاء بقطع النظر عن طريقة النطق أو البذاء التي جاء بها، فالله لا يعجزه أن يخاطب عباده بالطريقة التي يراها مناسبة.

    ب- النقد غير المباشر:

    ويمكن أن نصطلح عليه بـ(النقد العمليّ) الذي من خلاله يمكن أن تقدّم النموذج الصالح من نفسك.. إنّه النقد الصامت الذي يلعب فيه الموقف دور المنبِّه إلى الخطأ، حتى إذا رأى المخطئ صوابك تنبّه إلى خطأه فعالجه وفقاً لما يراه من الصواب في موقفك. ومن ذلك نقد الحسنين (الحسن والحسين (عليهما السلام)) الشيخ الذي لم يُحسن الوضوء، فوجدوا أنّ من الصعب أن ينتقداه وهو المُسنُّ وهما الصبيان، فابتكرا طريقة (النقد العملي).. بأن قدّما نفسيهما إليه كمتحاكمين في أيّهما أصحّ وضوءاً، فلمّا رأى أنّهما يُحسنان الوضوء، اعترف صراحة أنّه هو الذي لا يُحسنه، وتقبّل منهما نقدهما غير المباشر برحابة صدر ليُصلح وضوءه على ضوء ما رآه من صحّة وضوئهما.

    ج- النقد الشامل:

    ونعني به نقد كلا الوجهين: السلبي والإيجابي، أو ما يمكن تسميته بـ(النقد المتوازن) الذي يُظهر العيوب والمحاسن معاً. فلقد أثبتت الدراسات الاجتماعية والنفسية أنّ الكشف عن المعايب وحدها يُسقط الإنسان في الإحباط فلا يُرجى له شفاء إلّا نادراً، في حين أنّ الموازنة بين السلبيات والإيجابيات يعطيه فسحة من المراجعة لتجاوز أخطائه، وزيادة رصيده من الحسنات.

    من هذا اللون من النقد ما واجه به الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) "صفوان الجمّال" الذي كان يُكري (يؤجِّر) جِمالَه (إبلَهُ) إلى (هارون الرشيد) معتبراً ذلك إعانةً للظلم، فابتدءه بالقول: "يا صفوان! كلُّ ما فيك حَسِن ما خلا خصلة واحدة"!

    هنا يُظهر الإمام أو يقدِّم الإيجابي على السلبي ليفتح أسارير القلب وأبوابه ونوافذ الآذان وإصغاءها لتقبّل ما يأتي لاحقاً.. فعبارة (كلُّ ما فيك حسن) تجعل المتلقي حريصاً على نفي واستبعاد أيّة خصلة ذميمة ودميمة تخلُّ بصفاء هذا الحسن ونقائه.

    طريقةٌ في التمهيد للنقد فعّالة ومؤثرة.. حبذا لو جرّبناها.

    د- النقد السرّي:

    طبيعة الإنسان هي هذه: إنّه يتقبل النقد السري ويرفض النقد العلني، لأنّ الأوّل تحديد وحصر للخطأ في أضيق نطاق (بين الناقد والمنقود فقط) فيما الثاني توسيع لدائرته، فبدلاً من أن يعلمه (الناقد) فقط، سيعلمه (السامع) أيضاً (بحسب سعة دائرة المستمعين) ممّا يوجد فجوة نفسية بين النقد وبين مَن يُوجّه إليه حتى لو كان ذاك النقد صحيحاً وخالياً من التجني.. وهذا هو خُلقْ المرآة فهي إذ ترى عيبك تخبرك به شخصياً، ولا تخبر مَن يأتي بعدك بما رأته منك.. إنّها كاتمة للأسرار ساترة للعيوب!

    هذه الطبيعة الإنسانية الحساسة تلتفت إليها المأثورات من قيمنا السلوكية، ففي الحديث: "مَن وعظ أخاه سراً فقد زانه، ومَن وعظ أخاه علانية فقد شانه" فالزينية في سرّية النقد ناتجة عن احترام مشاعر الخاطئ والشينية في علانيته لأنّه تشهير بالمُنتقَد، ومَن منّا يقبل الفضح والكشف والتشهير أو يفضِّله على الاحترام والرعاية والتقدير؟!

    هـ- النقد العام العلني غير المشخِّص:

    هنا لا نسمي المخطئ أو المذنب أو المخالف باسمه، بل نتحدّث بلهجة عمومية يراد منها التنبيه إلى الخطأ والدعوة إلى تصحيحه، فلا ينصبُّ التقريع أو اللوم على ذات مرتكب الخطأ الذي ربّما نعرفه وربما لا نعرفه فهو واحد من عديدين يرتكبون المخالفة أو الخطأ، وحين يستمع أحدهم إلى النقد وهو مدركٌ لخطأه فإمّا أن يصمّ أذنه ويدفن رأسه في الرمل، وإمّا يضع نفسه في دائرة الاتهام ليقول: إنّني أنا المعني بهذا النقد حتى لو لم يُشَرْ لي باصبع الاتّهام.. في هذه الحالة يمكن أن يكون النقد دافعاً للتصحيح: وقد قيل: "رب تلميح أبلغ من تصريح" و"ربّ إشارة أبلغ من عبارة"!

    هذا في نطاق الأخطاء التي تتحوّل إلى (ظاهرة) اجتماعية، أمّا الأخطاء التي تمثلها حالات فردية معيّنة، فلئلا يشعر الآخرون بالتأنيب الجماعي، يُفضّل أن يُشار إلى المخطئ ويؤشَّر على الخطأ، وينتقد على أخطائه على انفراد، فقد يتصور بعض المخطئين أنّ النقد العام لا يعنيهم، وأنّهم غير ما يقول الناقد كتسويل شيطاني وغرور بالنفس وتبرئة لساحتها من الخطأ، لذا كان النقد السري المباشر لهؤلاء أصلح لهم من النقد العام الذي تغيب فيه نبرة التشخيص المحدّدة.

    

    - نظرة لبعض آليات النقد السائدة:

    من آليات النقد الشائعة اليوم الصحافة الحرّة غير المرهوفة لمآرب الحاكم أو المسيّرة بدنانير التاجر، فهي الأخرى كفيلة بتقليص الأخطاء ونقضها ومحاربتها لأنّها السلطة التي تواجه بقيّة السلطات وتراقبها وتحاسبها، وبذلك فهي تحاكي ضمير الشعب وتتناغم مع آلامه وتطلّعاته فيما تملك من حرّية التعبير والنقد والمساءلة، وهي مهابة ومجابة ما دامت صادقة وجريئة ومستقلة عن دنانير هذا ومآرب ذاك. يقول (حافظ إبرهيم) عن دور الصحافة وتأثيرها:

    كانت تُواسينا على آلامنا **** صُحُف إذا نزلَ البلاءُ وأطبقا

    كانت لنا يومَ الشدائد أسهماً **** نرمي بها وسوابقاً يومَ اللِّقا

    كانت صِماماً للنفوسِ إذا غلتْ **** فيها الهموم وأوشكت أن تزهقا

    ما لي أنوحُ على الصحافة جازعاً **** ماذا ألمّ بها وماذا أحدقا؟

    قصّوا حواشيها وظنّوا أنّهم **** أمِنوا صواعقها فكانت أصعقا!

    إنّ المؤتمرات الصحفيّة اليوم تمارسُ دوراً مهمّاً في نقد المسؤول نقداً مباشراً بعدما ضاقت فرص اللقاء به أو ضُيِّقت في لقاءات تلفزيونية، وإلّا فقد كان من أولى مسؤوليات المسؤول أن يترك أبوابه مشرعة للنقد والناقدين.

    فهذا الإمام عليّ (ع) يوصي واليه على مصر (مالك الأشتر) فيقول له: "فلا تطوّلنّ احتجابكَ عن رعيّتك، فإنّ احتجابَ الولاة على الرعية شعبة من الضيق، وقلّة علم بالأمور، والاحتجاب عنهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحَسن ويحسنُ القبيح، ويشابّ الحقّ بالباطل.. وإن ظنّت الرعية بك حيفاً فأصِحر لهم بعذرك (أي بيِّن عذرك وأوضحه) وأعدل عنهم ظنونك بإصحارك، فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسِك، ورفقاً برعيّتك" (نهج البلاغة، الكتاب 53).

    وهذا نقد ضمني لكلّ حاكم يعتزل شعبه في بروج عاجيّة لا يرى فيها أحداً ولا يراه أحد، والاحتجاب يجعل الناس مبتلين بالمسؤولين الصغار ممّا يوفر تربة صالحة للظنون والشكوك والطعون.

    وهناك أيضاً صناديق الشكاوى والاقتراحات التي هي نسخة عن (بيت المظالم) الإسلامي الذي كان يستقبل شكاوى الرعايا (المواطنين) وينظر فيها وينتصف للمظلومين ممّن ظلمهم، ولكنّها للأسف تحوّلت في بعض بلدان الشرق إلى (مصائد) و(أفخاخ) للإيقاع بالمنتقدين إذا عرفوا أو كُشفوا وكأنهم ارتكبوا بانتقاداتهم جريمة لا تغتفر، وربما إهمال ما ورد فيها في حال عدم المعرفة بالناقد، فباتت – إلاّ ما شذّ وندر – مظهراً شكلياً وصوريّاً للحرّية الديمقراطية المزيّفة.

    ومنها: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهما أفضل وأقوى وسائل النقد الاجتماعي باعتبارهما مسؤولية إلهية تضع كلّ مسلم قادر عليهما في إطار مسؤوليته كناقد للمنكر بأيّ لباس تلبّس، وأي شكل اتّصف، وأي اسم حمل، وأمرٍ بالمعروف، أي طارحٍ للبديل الصالح لما هو خطأ أو مخالفة أو منكر.

    إنّ كثيراً من أخطاء وعيوب ونقائص وتقصيرات وتجاوزات المسلمين مرّت أو مُرّرت بسبب من غياب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كوسائل عملية ناقدة للأوضاع والأشخاص والمفاهيم والشعارات والممارسات والعلاقات، ولو كانتا مساريتين – كما أُريد لهما – لكان المسلمون في أسعد وأصلح حال، لكننا نرى كيف انقلبت هاتان الفريضتان إلى نقمة بسبب الكيفية والانتقائية والمزاجية والارتجالية والازدواجية في التطبيق.

    

    - ثانياً: النقد وحرّية التعبير:

    كفلت القوانين والدساتير المعاصرة حرّية التعبير ولم تضع حدّاً بينها وبين (الإساءة) فبعض ما يُطرح تحت لافتة (حرّية التعبير) هو إساءة أو بذاءة أو إهانة صريحة، حتى إذا جوبه صاحبُها بالرفض والاستنكار، ثارت ثائرة أو غيرة المدافعين عن النقد الحر وحرّية التعبير.

    حصل هذا في (الآيات الشيطانية) لسلمان رشدي الذي أساء في روايته لشخصية النبيّ (ص).. وحصل هذا في الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها صحيفة دانماركية ضد نبيّ الإسلام أيضاً، ويحصل في الإساءة إلى المقدّسات التي تعد خطّاً أحمر بالنسبة لأتباع الديانات المختلفة.

    الإساءات سواء كانت شتائم أو سخرية ليست فكراً ولا فنّاً ولا إبداعاً، ولا مناقشة لأفكار ومفاهيم إسلامية أو غير إسلامية.. هي مهاترة وإسفاف، ولذلك فمقابلة الإساءة بإساءة مثلها إساءة بحدّ ذاته، لذلك نهى الله تعالى أن نسبّ آلهة الذين يسبّونه عدواً بغير علم.

    القرآن نفسه كشف لنا بعضاً من الاتّهامات والنقود التي تعرّض لها النبّي (ص) من أنّه شاعر أو ساحر أو كاهن أو مجنون، وإنّ ما جاء به أساطير الأوّلين اكتتبها، وأنّ بشراً يعلِّمه القرآن، وردّ على هذه النقود التافهة والهشّة التي لا أساس لها من الصحّة وسفهها بمنطق عقلاني.. وهو بذلك يكفل حرّية التعبير لكنه لا يعتبر ما صدر عن حقد وحسد وجهل وعنت واستخفاف نقداً، إنّما هي ترهات ودناءات لا تصمد إزاء النقد.

    حرّية التعبير اليوم للأسف شمّاعة تعلّق عليها أيّة إساءة أو تشهير أو تسقيط ولا شك أنّ الخط الفاصل بين النقد الموضوعي وبين الإساءة واسع وعريض وغير اشكالي ولا ملتبس، وإذا كانا يسكنان في شارع واحد، فهما ليسا جيراناً متلاصقين، وإنما يقع كلٌّ على ضفة من ضفتي الشارع، والسكن في شارع واحد لا يعني انتماء الساكنين فيه إلى فصيلة أو قبيلة واحدة!

    

    - ثالثاً: النقدان الذاتي والموضوعي:

    النقد (الذاتي) هو الذي ينطلق من الإنسان كناقد لنفسه، وأمّا (الجماعي) فنعني به نقد تجربة عمل جماعية، وقد يكون النقد نقداً لـ(شخص) أو نقداً لـ(ممارسة). إضاءة كلّ نقد من هذه النقود الأربعة يعد مادة استكمالية لثقافة النقد:

    أ- النقد الذاتي:

    الخاطئ أو المخطئ أو الخطّاء أوّل ناقد لنفسه، هذا إذا كان واعياً مدركاً لخطأه، منتبهاً لما اقترفه ولو بعد حين، فأيّة مراجعة ذاتية هادئة قد تُعد المخطئ إلى رشده وصوابه لأنّه أدرى بالسبب وبما تسبّب به، ولعلّ هذا هو الذي دعا المربي الإسلامي إلى التأكيد على مبدأ المحاسبة.

    إليك نماذج حيّة من النقد الذاتي:

    - آدم وحوّاء (عليهما السلام) بعد إدراكهما للخطأ من الأكل من الشجرة الممنوعة: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف/ 23).

    - إمرأة العزيز "زليخا" بعد أن أقرّت بذنبها واعترفت بإغواء يوسف (ع): قالت: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي) (يوسف/ 53).

    - إخوة يوسف (ع) بعد إحساسهم بما ارتكبوه من أخطاء وجنايات بحقّ أخيهم البريء قالوا: (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ) (يوسف/ 91).

    - "السامريّ" وهو يعلن اقترافه لخطيئة صناعة وعبادة العجل، يجري بين موسى وبينه هذا الحوار: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (طه/ 95-96).

    - نوح (ع) بعدما طالب بنجاة ابنه العاصي وانتقده الله تعالى أن يكون من الجاهلين: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (هود/ 47).

    جدير بالإتفاق أنّ النماذج هنّ بين واحدةٍ (نبويّة) من الصفوة الأخيار، وأخرى (إنسانيّة) عامّة لا خصولية لها، لا تكابر ولا تغالط، فهي حينما يتضحُ لها وجهُ الخطأ لا تُنكره أو تتنكّر له، بل تعترف وتقرّ وتتوب وتعتذر.. إنّها تعلّمنا كيف يمكن أن نتقبّل النقد بروح إيجابية فلا نُصرّ ولا نستكبر ولا نبرِّر ولا تأخذنا العزّة بالإثم.

    ب- النقد الجماعي:

    تعتمد المؤسسات المعاصرة – أياً كانت طبيعتها – منهجاً نقدياً مزدوجاً، فهي تُجري مراجعة تقويمية شاملة لمسيرتها بين الحين والآخر سنويّة أو دوريّة لتتعرّف وتتقرّى مواطن الخطأ والخلل وتتهجّى مواضع الصواب والتوفيق، فهو من جهة (نقد داخلي) لأنّ أهل مكّة أدرى بشعابها وصاحب الدار أدرى بالذي فيه، ومن جهة ثانية تستقبل نقوداً تأتيها ممّن يتعاملون معها أو يرصدون حركتها في الخارج، لتضيف إلى حصيلة المراجعة الأولى مراجعة ثانية، وذلك هو التكامل في المنهج النقدي في أيّة مسيرة.

    المراجعة النقديّة الجماعية سواء كانت داخلية أو خارجية تحقق للمؤسسة إمكانية النمو والتطور والاستمرار لأنّها ستكون كخلايا الجسد تتجدد على الدوام. يقول المؤرخ (توينبي): "الأُمم لا تعتلّ بل تنتحر، لأنّ النخب المسيطرة تعجز عن ابتكار حلول"! أي تفشل في إيجاد الحلول للمشاكل والأخطاء التي تعترض مسيرتها، لا لعجز في القدرة الذاتية أحياناً، بل لإهمال التقييم والتقويم، وإلّا فالمراجعات الدورية الناقدة والجادة كفيلة بتجنيب أيّة مؤسسة حكومية أو حزبية أو خدمية أو دينية أو أي نوع آخر مخاطر الموت المفاجئ والسريع.

    النقد اليوم يُرحّب به من أيّة جهة جاء لأنّه هو الذي يقوّم المسيرة ويغنيها ويصحّح عثراتها وأخطائها، ويجعلها أكثر قدرة على مواجهة التحديات واستشراف المستقبل[1].

    ج- نقد الأشخاص:

    في مفاهيمنا الإسلامية ليس لدينا مصطلح (النقد).. هناك اصطلاح (الإصلاح) و(التسديد) و(إقامة العثرات) و(إهداء العيوب)، ممّا يعني أنّ الغاية من نقد شخص ما في أي جانب من جوانب شخصيته هو إرادة إصلاحه، فالتسديد هو التوجيه والقيادة إلى الصواب على خط الاستقامة، وإقالة العثرات الأخذ باليد لمن يقع حتى ينهض من كبوته ويواصل مسيره، وليس التفرّج أو الضحك عليه والشماتة به.. وإهداء العيوب هو أسلوب الترفّق في مصارحة الآخر بعيوبه ومعاونته على إصلاحها.. وفي كلّ الأحوال نحن أمام نقد إيجابي هادف وموضوعي وبنّاء وسليم، بل ونموذجي أيضاً.

    د- نقد الممارسات:

    تدخل إلى حياتنا التي لم تعد ذات أبواب، مغاليق وأقفال عادات وتقاليد وممارسات تتعارض مع ما لدينا من قيم ومفاهيم سلوكية. بالأمس كانت حساسية المسلمين شديدة إزاء ما يسمّونه بـ(البدعة).. اليوم لم تعد الكثير من الممارسات حتى المخالفة لآدابنا بدعاً تحت شعار إنّنا نعيش في قرية كونية صغيرة، أو بدعوى الاندماج الثقافي، أو بذريعة الانفتاح الإيجابي، ولسنا ضدّ الانفتاح والتعارف الإنساني، بل نحن ضد أشكال الانغلاق والتحجّر، لكننا ضد ما يصدّع بيوتنا من الداخل ويزيّنها من الخارج، وضد ما يذيب شخصيتنا ويمسخها ويصادرها أو يحيلنا إلى نسخ مشوّهة لمسلمين ليس لهم من إسلامهم إلّا الاسم.

    إنّ غياب أو انحسار النقد للمارسات الدخيلة والمخالفة لأعرافنا وشريعتنا وقيمنا، جعلنا خاضعين للأمر الواقع الذي يأتي هجيناً ومستهجناً ثمّ لا يلبث في ظل انعدام النقد أن يتحوّل إلى أمر واقع تُتهَم بالتخلّف والرجوعية إذا واجهته بالنقد، ويقال لمن يحتجون أو يتظاهرون ضدّه: أخرجوهم من قريتكم إنّهم أناسٌ يتطهّرون!

    الممارسات المخالفة لقيمنا هي نتيجة (أفكار) و(شعارات) و(مفاهيم) تسوّق وتنمّق وتزوّق، وحتى يكون النقد موضوعياً، يجب أن يتجه للأفكار والشعارات والمفاهيم التي أنجبت وسوّقت وروّجت.. لابدّ من نقد (العقل) و(الذهنية) قبل نقد الممارسة!►

   


[1] - شاعت في منتصف القرن الماضي أسلوب الإعلام والإعلام المضاد، أي الإذاعات الحكومية المتهكمة على بعضها البعض، حيث كانت تتبادل الشتائم وتكشف عورات بعضها، وكانت الغاية الفضح والتعرية والإساءة المجردة، ولو كان كل طرف يدرس ما يقوله الطرف الآخر، ويستفيد منه لكان حال تلك الحكومات المتصارعة أفضل ممّا كانت عليه.

ارسال التعليق

Top