• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإخوة الدينية

الإخوة الدينية
◄الدين الإسلامي دين عام عالمي جاء لخير البشرية جميعاً فلم يعتبر في تكوين الدولة الجنس أو العنصر أو المكان كما هو المألوف لدى البشر وتعارفت عليه الأوضاع البشرية للدول، ولقد تنزّه الإسلام عن أن يعتبر تلك المفاهيم البشرية أساساً لقيام دولته وإنما اعتبر المبادئ السليمة والعقيدة الصادقة والمثل العليا هي الأساس الذي بنى عليه إقامة جماعة المسلمين.

ولقد وحّد الإسلام بين أبنائه وجمعهم حول العقيدة الصادقة والمبادئ السامية وأصبح الإخاء العام بينهم هو الرباط والدعامة الذي بنوا عليه علاقاتهم وتعاملهم وكانت الإخوة الدينية أصدق تعبير وأسمى هدف وأجل غاية، وبهذا المفهوم لتلك الأخوة نجد أنّها أمر طبيعي يتحقق بمجرد الاعتقاد الصادق، فبمجرد إقرار الإنسان بشهادة التوحيد والاعتراف بالدين الإسلامي والانضواء تحت رايته تتحقق إخوته لجميع المسلمين في أنحاء المعمورة فهي ليست تكليفاً يكلف به الإنسان أو يحتاج إلى مراسم ظاهرية معينة أو ما إلى ذلك من النواحي الشكلية، وإنما بمجرد الإيمان يصبح للفرد حقوقه التي هي لكلّ المسلمين وعليه واجباته التي يطالب بها الجميع.

والصلة بين المسلمين ليست صلة مواطنة أو مرافقة أو جوار أو معاملة خالية من الصلة الروحية بل هي أسمى من ذلك كلّه، فصلة المواطنة محدودة بالأرض التي ينتفع بها وصلة المرافقة مقصورة على المصاحبة وقتاً معيناً إلى أن تنتهي المهمة التي من أجلها كان الترافق وعلاقة الجوار أملتها الضرورة الحتمية لملاصقة موطن الإقامة أو العمل.

أمّا العلاقة الدينية فليست محدودة بالزمان أو بالمكان إذ الإسلام يقيم هذه العلاقة على الإخاء الوثيق الذي تزدهر فيه حقائق الرسالة الإسلامية.

وإذا كانت الأخوة الدينية تسمو عن العلاقة المادّية المجردة فإنّها تسمو كذلك عن العلاقة النسبية المجردة وعلى ذلك تكون الأخوة الدينية أقوى وأثبت وآكد من العلاقة النسبية فقط ومما يؤكد هذا أنّنا نلاحظ شرعاً أنّ الأخوة الدينية لا تنفصم بانفصام الأخوة النسبية والقرآن يوضح هذا والواقع يؤكده، يقول الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات/ 10).

وأمّا الأخوة النسبية فهي تنفصم بانفصام الأخوة الدينية إذ المسلم وغير المسلم لا يتوارثان ولو كانوا إخوة في النسب فقد انقطعت المودة بينهما لاختلاف الدين وانعدمت بينهما روح المودة وأصبح إحساس المسلم بالنسبة لأخيه المسلم هو المعول عليه.

وضرب المسلمون في بدر مُثلاً عليا لصدق الإيمان. وأنّهم آثروا رضاء الله ورسوله على حب الوالد والولد والأهل والعشيرة، فلا تعجب إذا كان الله سبحانه أشاد بهذه المواقف الصادقة وأمثالها في قوله سبحانه: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ...) (المجادلة/ 22)، وإذا كانت شريعة الإسلام تعتبر العلاقة الدينية أسمى وأعظم من كلّ علاقة أخرى فإنّ الشرائع السابقة اعتبرت نفس العلاقة حجر الأساس في الصلاة بين أبنائها فنوح (ع) كان ابنه من النسب كافراً وهلك مع الهالكين فنظر نوح إلى العلاقة النسبية بينه وبين ولده فخاطب الحقّ تبارك وتعالى بما حكاه القرآن في قوله: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود/ 45)، وأنكر الله على نوح هذا الاعتبار وتلك النظرة وبيّن له أنّ العلاقة بينهما انفصلت بكفر الابن فقال: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود/ 46).

وفي موقف إبراهيم من أبيه فقد كان الأب مشركاً ودعاء ابنه إبراهيم (ع) إلى الإيمان بأسلوب الابن الذي يحرص على هداية أبيه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم/ 41-47).

وفهم إبراهيم (ع) من قول أبيه: "واهجرني مليا" أي فترة. فهم أنّ أباه وعده بالإيمان به فاستغفر إبراهيم لأبيه لكنه حينما أيقن بعد ذلك أنّه لن يؤمن تبرأ منه لانقطاع علاقة الإيمان بينهما ولا عبرة بالعلاقة النسبية حينئذ. يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة/ 114).

وحرص الإسلام على تثبيت هذه الأخوة وتقوية هذه العلاقة حتى أصبحت واقعاً ملموساً يحس الجميع بأثرها فطبّق الرسول (ص) هذه الأخوة عملياً وواقعياً فور وصوله إلى المدينة مهاجراً فآخى بين المهاجرين والأنصار وبلغ بالأنصار أنّهم أحبّوا إخوانهم المهاجرين حبّاً فاق كلّ تصور ومن آثار ذلك الحبّ أنّهم آثروهم على أنفسهم مهما بلغت بهم الظروف وسجّل القرآن ذلك في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر/ 9).

وهكذا أثمرت الأخوة ثمرتها وآتت أكلها وصفت القلوب وطهرت السرائر وسجل القرآن ذلك الدعاء (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر/ 10).

وهكذا كان الرباط الأخوي الديني الذي قضى على ما كان قبل الإسلام من التمايز الطبقي والتفريق العنصري إذ كانوا يفرّقون بين الناس بالأجناس والألوان والمظاهر الدنيوية والمراتب الشخصية فكان الإسلام معالجاً لهذا المرض الخطير فلا تمايز ولا عنصرية مادام الجميع يشهدون بشهادة التوحيد فآخى الإسلام بين أهل العقيدة بهذا الرباط المتين.. وليس الإسلام رابطة تجمع بين عدد قل أو كثر من الناس فحسب ولكن جملة الحقائق التي تقر الأوضاع الصحيحة بين الناس وربّهم ثم بين الناس أجمعين، ومن ثم فأصحاب الإسلام وحملة رسالته يجب أن يستشعروا جلال العقيدة التي شرح الله بها صدورهم وجمع عليها أمرهم وأن يولوا التعارف عليها ما هو جدير به من عناية وإعزاز إنّه تعارف يجدد ما درس من قرابة مشتركة بين الخلق ويؤكد الأبوة المادّية المنهية إلى آدم بأبوة روحية ترجع إلى تعاليم الأديان المخلصة في رسالة الإسلام وبذلك يصير الدين الخالص أساس أخوة وثيقة العرى تؤلف بين أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل منهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة وحدة راسخة الدعامة شامخة البناء لا تنال منها العواصف الهوج. وهذه الأخوة هي روح الإيمان الحي – ولباب المشاعر الرقيقة التي يكنها المسلم لإخوانه حتى أنّه ليحيا بهم ويحيا لهم فكأنّهم انبثقوا من دوحة واحدة أو روح واحدة حل في أجسام متعددة.

وجاء في القرآن الكريم ما يوضح سهولة الانتماء لذلك الشرف الأسمى وهو الإخوة في الإيمان فما على الشخص إلّا أن يؤمن ويقوم بواجبه الذي ألزمه به الشرع وحينئذ يصبح أخاً لجميع المسملين في كلّ مكان وزمان يقول الله تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (التوبة/ 11).

 

صدق الأخوة:

إذا كان الإسلام قد جمع بين أبنائه على الإخاء واعتبرهم جميعاً أخوة تربط بينهم هذه العقيدة فلابدّ أن تكون هذه الصلة صادقة وأن يكون ذلك الإخاء مخلصاً وحينئذ يشعر الجميع بالتراحم والتعاطف والتآلف ويكون روح الإسلام شعار الجميع من خلال تنميه أهدافه ويحس كلّ فرد أنّه لبنة في صرح المجتمع الإسلامي الكبير يعمل دائماً على أن يزيده صلابة وقوة ويحس من الجميع أنّهم معه بعواطفهم ومشاعرهم. "والأخوة هي أصدق تعبير عن الحقوق والواجبات الاجتماعية وهي أقوى ما يبعث في النفوس معاني التراحم والتعاطف والتعاون وتبادل الشعور والإحساس مما يحقق لمجتمع مثالية التي تخلص به للخير وتبعد به عن الشر".

ومن أمارات صدق الأخوة أن يفعل الشخص كلّ ما يقويها وينميها ويؤكدها بأن تكون صلته بإخوانه طيبة فيقوم بما يقربه من قلوبهم ويباعد بينه وبين ما يبغضون وما يؤدي بهم إلى النفور منه والابتعاد عنه ولقد حفل القرآن الكريم والسنة النبوية بالكثير مما يرغب في إحسان معاملة الإخوان والنهي عما يغضبهم ويثير حفيظته.

ولا شكّ أنّ ما أمر به النبيّ (ص) يبعث على تقوية الصلة وتنمية العلاقات الطيبة بين المسلمين. ومن توجيهات النبيّ (ص) ونصيحّته للمسلمين بيانه أنّ إيمان الشخص لا يكمل حتى يحب المسلم لأخيه ما يحب لنفسه كما في قوله (ص): "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".

ولا يتحقق ذلك إلّا إذا كانت الأخوة تتسم بالإخلاص التام، والإخلاص في الأخوة أن تكون في الله لا لغرض دنيوي لأنّها تنتهي بنيل المطلوب ولذلك نلاحظ أنّ النبيّ (ص) بيّن في حديثه أنّ ممن يظلهم الله يوم القيامة في ظله رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، وأنّ ربّ العزة سبحانه وتعالى وعد جنته للمتحابين فيه.

هذا ولابدّ للأخوة أن تُصان من كلّ ما يصدعها أو يضعفها وفي بعض آيات القرآن الكريم ينهى الله سبحانه وتعالى عن أمور تتعارض مع الأخوة الصادقة وتتنافى مع كمالها فبعد أن ذكر الله تعالى أخوة المؤمنين في قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات/ 10)، نهى المؤمنين عن أوصاف تتنافى مع العلاقات الإيمانية بقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات/ 11-12).

ومن الأوصاف التي تضمنتها الآيات تحذّر المؤمنين من اقترافها: اللمز: وهو الإشارة إلى الغير بالعين أو بغيرها بقصد التحقير، والآية تنفر من هذا العمل بأسلوب غاية في الدقة ولما بين المؤمنين من صلة اعتبرت الآية أنّ من يلمز آخر فإنّه في الحقيقة يلمز نفسه وذلك في قوله: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) (الحجرات/ 11).

وفي موضع آخر من القرآن الكريم بيّن الحقّ تبارك وتعالى أنّ الله يسخر من الساخرين وسخرية الله تعالى هي أن يعذّب هؤلاء جزاء ما اقترفوا بقول الله تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (التوبة/ 79).

وكذلك لا يحق للمسلم أن يذكر أخاه المسلم بلقب يبغضه فإنّ ذلك يؤدي إلى الشحناء، ولا يظن به شراً فإنّ الظن السيِّئ يؤدي إلى العواقب الوخيمة مما يصدع بنيان المجتمع الإسلامي، ورسول الله (ص) حذر من ظن السوء ونهى عنه، فعن النبيّ (ص): "إياكم والظن فإنّ الظن أكذب الحديث".

ومما تضمنته الآيات ونهت عنه: التجسس: وهو البحث عن أسرار الغير فإنّ ذلك يؤذي الآخرين مما يوقع بين صفوف المسلمين الكثير من الشحناء والبغضاء ويهون الأخوة بينهم وحديث رسول الله (ص) يحذر من التجسس وتتبع عورات الناس وبيّن أنّ ذلك من النفاق يقول الرسول (ص): "يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم – فإنّ مَن اتبع عوراتهم يتبع الله عزّ وجلّ عورته – ومَن يتبع الله عزّ وجلّ عورته يفضحه الله في بيته".

تلك هي بعض الأمور التي نهت عنها الآيات وحذرت منها سنّة النبيّ (ص) والحقيقة أنّه يجب على المسلم أن يصون نفسه عن كلّ ما يؤدي إلى القطيعة بينه وبين إخوانه. فعن رسول الله (ص) قال: "إياكم والظن فإنّ الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكنوا عباد الله إخوانا".

وبوجه عام فإنّ من علاقات الأخوة الصادقة والإيمان الكامل ألا يحدث من المؤمن ما يضرّ غيره بأي وجه كان.

وهكذا نلاحظ أنّ الإسلام قد وضع للأخوة إطاراً منيعاً وجعل لها من عوامل القوّة ما بها تسمو وترتقي وصانها من عوامل التفكك والانهيار، والحقيقة التي لا شك فيها أنّ الأخوة كلما كانت قوية صادقة كان المجتمع متماسكاً متآلفاً وإذا وهنت الأخوة أدى ذلك إلى تصدع المجتمع وانهياره.

فواجب المسلمين جميعاً أن يتبعوا النهج الإسلامي في مؤاخاة بعضهم لبعض حتى يسموا بدينهم ويتبوءوا المكانة التي تهيء لهم حياة طيبة في الدنيا وعيشاً أرغد في الآخرة.

 

دعائم الإخوة:

إذا كانت الأخوة هي الأساس الوحيد لعلاقة المؤمنين بعضهم ببعض وبها سموا واحتلوا المكانة اللائقة بهم فإنّ للإخوة دعائم لابدّ منها كي تتحقق كاملة تؤتي ثمارها وتصل بالمؤمنين إلى جميع الشمل وتوحيد الصف وحينئذ يظهر المجتمع الإسلامي بالصورة اللائقة به شكلاً وموضوعاً.

من هذه الدعائم: الرسالة السماوية التي تنزلت من ربّ العالمين فهذه الرسالة بعقيدتها الصادقة ومنهجها القويم تجمع بين الناس على اختلاف أماكنهم وأزمانهم وطباعهم ولغاتهم فعلى الرغم من هذا الاختلاف المظهري فإنّ العقيدة الإسلامية جمعت بينهم فاستشعر الجميع بقدسيتها وتذوقوا حلاوتها وأحسوا بأنّها الأُم الرءوم التي جمعت أبناءها فحافظت عليهم بعنايتها وكلأتهم برعايتها ونظر كلّ فرد إلى أخيه المسلم الذي اتفق معه في العقيدة فاطمأن إليه ودنا منه روحياً وعاطفياً وتحت هذه العقيدة ذابت الفوارق ومحيت المظهريات وانتهت العصبيات واستطعم الجميع شعار القرآن الكريم (إنّما المؤمنون إخوة).

ومن دعائم الأخوة بجانب العقيدة الصادقة: الأُمّة التي تؤمن بهذه العقيدة: تلك الأُمّة المتماسكة المتعاونة المتآلفة التي آمنت بهذه العقيدة وصدقت في إيمانها واستشعرت جلالها وترسمت خطاها، فالأُمّة بهذه الصورة تكون أساساً من أسس الأخوة وركناً من أركانها، وتكون العقيدة نوراً تهتدى به الأُمّة.

بتلك الرسالة الصادقة – وهذه الأُمّة المتماسكة تتكون الأخوة في أصدق معانيها.

 

أثر الإخوة في علاقة المؤمن بالمؤمن:

إذا كان الدين الإسلامي قد جمع بين أبنائه واعتبرهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر فإنّ ذلك يرجع إلى روح الأخوة المخلصة بين أبنائه، وبهذا المفهوم الرفيع ينبغي أن تكون صلة المؤمن بإخوانه والعلاقة فيما بينهم يجب أن تكون علاقة الحب والولاء والتكافل والتضامن والتواصي بالمعروف والتناهي عن المنكر. ولقد نهج القرآن الكريم منهجاً يحقق ذلك الهدف الأسمى ليربط بين المسلمين برباط الألفة ويقوي بينهم علاقة الود والصفاء فدعا المسلمين إلى التماسك والتآلف ونبذ روح الفرقة والاختلاف فقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران/ 103)، كما أمرهم بالتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان فقال: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة/ 2).

وحديث النبيّ (ص) يؤكد هذا المضمون حيث قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر" ومما يستوجبه صدق العلاقة بين المؤمنين أن يتولى المؤمن أخاه بتوجيهه إلى الخير ونهيه عن الشرّ والوقوف إلى جانبه إذا أدت الضرورة إلى ذلك فشعار أُمة الإسلام ما جاء في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران/ 110).

وأمر القرآن بذلك في آية أخرى فقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 104)، واعتبر القرآن ذلك شعار للمسلمين فيما بينهم فقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71)، وجاء في السنّة النبوية الكثير من الأحاديث التي تؤكد هذا المفهوم منها، قال رسول الله (ص): "الدين النصيحة قالوا: لمن يا رسول الله قال لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، المسلم أخو المسلم لا يخذله، ولا يكذّبه، ولا يظلمه، إنّ أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذى فليمطه عنه".

فالكلام عن صدق الإخوة والإخلاص فيها الكثير مما ينبغي أن يكون بين المسلمين في علاقة بعضهم ببعض وبوجه عام يجب أن يسود المسلمين التكافل الاجتماعي بكلّ معانيه وهو شعور الجميع بمسؤولية بعضهم عن بعض بحيث يكون كلّ فرد متحملاً لتبعاته وتبعات الآخرين ما أمكنه ذلك يسأل عن نفسه وعن إخوانه وأي مجتمع يرغب في الرقي ويأمل في حياة طيبة لابدّ أن يتوفر فيه ذلك لأنّه الأساس الذي ينبغي أن تقوم عليه الأمم وتبني عليه حياتها وهو السبيل لبقائها حرة كريمة عزيزة الجانب مرهوبة السلطان.

كان ذلك العرض الوجيز شيئاً عن منهج الإسلام في علاقات المؤمنين عامّة وضعه ليكون إطاراً منيعاً لحماية المجتمع الإسلامي وصيانته من التفكك والانحلال ودافعاً له إلى التقدم والرقي والازدهار.►

ارسال التعليق

Top