◄يظن بعض الناس خطأ أنّ الإنسان عندما ينمو، فإنّه يخلع عن نفسه المرحلة العمرية السابقة بجميع خصائصها، ثم ينخرط في مرحلة عمر تالية لها خصائص جديدة. وبالتالي فإنّ الشخص الكبير يكون قد تخلص تخلصاً تاماً من المراحل العمرية من طفولة ومراهقة وشباب لدى انخراطه في الكهولة (30 إلى 50 عاماً) وبمعنى آخر فإنّ كلّ مرحلة نمائية تلغي المرحلة النمائية السابقة عليها.
والواقع أنّ الشخصية الإنسانية تنمو بطريقة تراكبية. فشخصية المرء تشبه الهرم الذي تقوم كلّ درجة به فوق الدرجات الأخرى التي بنيت أوّلاً. فقاعدة الهرم تأتي أوّلاً. وبعد أن يُبنى عليها أوّل درجة فإنّ هذا لا يعيى إلغاء القاعدة. وقل نفس الشيء بالنسبة لباقي درجات الهرم. وعلى هذا فإنّ المراهقة لا تلغي الطفولة، كما أنّ الشباب لا يلغي المراهقة والطفولة ولا تلغي الكهولة مراحل الشباب والمراهقة والطفولة. وأخيراً فإنّ الشيخوخة لا تلغي الكهولة والشباب والمراهقة والطفولة.
بيد أنّ حياة المراحل العمرية فينا تتفاوت من شخص لآخر. فثمة مراهقون تضمر لديهم طفولتهم، كما أنّ هناك شباباً تضمر في شخصياتهم مرحلتا الطفولة والمراهقة. ولعلّ السؤال الذي ينبغي أن نثيره في هذا المقام هو: هل الأفضل من الناحية النفسية للمرء أن يحافظ على مراحل النمو السابقة لديه، أم أنّ الأفضل للصحّة النفسية أن يعمد المرء إلى قتل الطفولة والمراهقة في شخصيته ويحيا فقط بمرحلة النمو التي يمر بها؟
إنّنا لا نستطيع أن ندعو الشباب إلى أن يسلك بنفس الطريقة التي كان يسلك بها في طفولته ومراهقته، كما أنّنا لا نستطيع أن نزعم أنّ من الممكن أن تتعايش المراحل العمرية في داخل شخصية الكبير بنفس القدر من الحيوية والنشاط والاعتمال. والصحيح أن نقول إنّ مرحلة النمو الحالية التي يمر بها المرء تكون لها الغلبة والسيطرة على مراحل النمو السابقة. ولكن هذا لا يعني في نفس الوقت انمحاء وضياع مراحل العمر السابقة جميعاً.
ولعلّنا لا نخطئ إذا ما قلنا إنّ تكامل الشخصية لا يمكن أن يتحقق للمرء إلّا إذا حدث انسجام في سلسلة المراحل العمرية التي يحياها الآن. ولقد كشفت الدراسات النفسية وبخاصة الدراسات التي قامت بها مدرسة التحليل النفسي عن أهمية الخبرات التي ما تزال تحيا في دخيلة المرء منذ طفولته الأولى. وطالما أنّ تلك الخبرات لا تندثر، فإنّنا نستطيع أن نقرر أنّ حياة الطفولة ما تزال نابضة فينا، وأنّنا يجب أن نقوم برعاية الطفولة والمراهقة لدينا أحسن رعاية، بل وأن نعمل على إعادة تقويمهما إن كانت حياتهما قد اعوجت عن الطريق السوي. فما يحاوله فرويد ومدرسة التحليل النفسي هو عقد مصالحة في دخيلة المرء بين مراحل النمو المتباينة فيه. وبتعبير آخر محاولة رأب الصدع الذي حدث بالشخصية نتيجة خبرات رديئة أو مهينة أصابت المرء في أثناء مروره بإحدى المراحل النمائية، أو محاولة تعويض الشخصية عما حرمت منه في الطفولة أو في غيرها من مراحل تالية.
إنّ الواحد منا بحاجة إلى أن يحن إلى طفولته وإلى مراهقته وإلى شبابه إذا كان قد بلغ الكهولة أو الشيخوخة. ولكن هذا الحنين يختلف عما يسمى بالنكوص، أعيى هجران مرحلة النمو الحالية هجراناً تاماً والرجع إلى مرحلة نمو سابقة والتمسك بها والانحصار في إطارها. إنّك عندما تكون صاحب صحّة نفسية سليمة، فإنّك تستطيع أن تلعب على جميع أوتار حياتك الحالية والماضية بغير أن يكون في ذلك ضياع لمرحلة نمو مررت بها. ألست تحس أحياناً بالرغبة الشديدة في أن تلعب كما كنت تفعل وأنت طفل في الخامسة من العمر؟ ألست تحن أحياناً إلى الخروج في جولة مع بعض رفاقك كما كنت تفعل أيام كنت مشتركاً في فريق الكشافة بالمدرسة الابتدائية؟ ألست معي أنّك إذا لعبت كما كنت تلعب وأنت بعد طفل صغير، أو إذا خرجت إلى رحلة فيها مغامرة كما كنت تفعل في المراهقة فإنّك بذلك تنعش شخصيتك؟
من المؤكد أنّ الطفولة التي ما تزال تحيا في أضلعنا تريد أن تطل برأسها وأن تثبت وجودها من وقت لآخر. وصحيح أيضاً أنّك وأنت المتزوج منذ ما يزيد عن عشرين عاماً تتمنى أن تصحب زوجتك إلى أوّل مكان التقيتما فيه ودق الحب هناك باب قلب كلّ منكما، فاعترف كلّ واحد منكما لصاحبه وقتئذ بالحب، وبأنّه لا يستطيع أن يستغني عن الآخر ولابدّ أن يربط حياته ومستقبله به. أليس الخضوع لمثل هذه الرغبات مفيداً من الناحية النفسية؟
إنّك في الواقع بحاجة إلى أن تنعش ما سبق لك أن عشته عبر حياتك كلّها. إنّك بمثل ذلك التذكر، بل وبمثل تلك المعايشة المتجددة تستطيع أن تحيى الموات في شخصيتك. إنّك بذلك تنعش شخصيتك وتحيى جوانب ماتت أو كادت تموت من قوامك، وبذا فإنّك تعيش بامتلاء وعمق. ذلك أنّ الشخص الذي لا يعيش إلّا في اللحظة الحاضرة، إنما يكون في الواقع قد حكم على شخصيته بالذبول. إنّك لست حاضراً فحسب. إنّك أيضاً ماضٍ يجب أن تحياه، وأنت أيضاً مستقبل يجب أن تترقبه وأن تأمل في تحقيقه. عش ماضيك حتى يتسنى لك أن تتخلص من ركاماته الرديئة. لا تظن أنّ دفن تلك الركامات الرديئة والذكريات المؤلفة يضمن لك الحياة في سعادة في الحاضر، أو في أمل أفضل في المستقبل. يقول لنا علم النفس إنّ معايشة الآلام والأحزان تقتلها قتلاً وتبيدها إبادة. ولكن الشرط المطلوب لتلك المعايشة ألا تكون معايشة اجترارية بأن يسجن الشخص نفس في إطار الماضي بما يحمله من خبرات غير سارة، بل تكون معايش واقعية، أعني بنظرة واقعية نقدية إليها. فأنت عندما تقف على ما كان يؤلمك في طفولتك، فإنّك بذلك تعمل على إزالة ما كان يحيط بذلك الماضي من مبالغة في التصوير. إنّك بذلك تجرد الوهم من خداعه وتعيش في الواقع. ذلك أنّ الماضي بخبراته المؤلفة يتغلب بأوهام لا أساس لها في الواقع. فعندما تقوم بنزع تلك الأهام عنك، فإنّه لا يثبت في عقلك ووجدانك، بل يذبل ويتلاشى. والموقف هنا شبيه بموقف الجراح الذي يضرب مشرطه في الخراج لكي يخرج ما به من صديد مؤذ. فبرغم ما يحس به المريض من ألم في أثناء إجراء الجراحة، فإنّه يتخلص من الألم المستمر الذي يحدثه ذلك الخراج.
فنحن إذن بحاجة ماسة إلى أن نتصفح حياتنا الماضية لكي نغربلها من جهة، ولكي نسعد بجوانبها الجميلة من جهة أخرى. فليس المطلوب منك أن نتذكر مامر بحياتك من أشياء مؤلمة فحسب، بل يجب أن تتذكر أيضاً ما مر بك من أفراح ونجاحات. إنّنا نطالبك بأن تعيش ماضيك المشرق وأن تظل مستمتعاً بما سبق أن لاقيته في حياتك منذ طفولتك الأولى من نجاح.
والواقع أنّ الكثير من الناس يفقدون مزايا كانوا يتمتعون بها خلال مراحل نموهم السابقة. فمن الناحية الجسمية تجد أنّ رشاقة الحركات قد فقدت أو كادت، وأنّ الميل للمرح قد اختفى أو كاد، فحل تقطيب الجبين محل الفرح والمرح، كما حل التباطؤ والتقوس محل الرشاقة والحيوية. إنّ مَن يفقد ما كان يتمتع به قبلاً من خصائص جسمية ونفسية إنما يكون في الواقع قد قتل الطفل والمراهق اللذين كانا يعيشان في داخله وفي صميم تكوينه البيولوجي والسيكولوجي.
اعلم يا سيدي أنّ العباقرة هم أولئك الذين لا يفقدون طفولتهم ومراهقتهم وشبابهم. إنّهم يظلون أطفالاً، ثم يظلون مراهقين، ثم يظلون شباباً. إنّهم لا يعيشون مرحلتهم العمرية التي وصلوا إليها بيولوجياً فحسب، بل إنّهم يعيشون كلّ مراحل نموهم السابقة بدءاً بطفولتهم ومروراً بمراهقتهم وشبابهم حتى كهولتهم أو شيخوختهم حسب السن الزمنية التي بلغوها. من هنا فإنّ حياة العبقري تكون خصبة ومتجددة. إنّه يغترف من خبرات حياته السابقة لحاضره، بل إنّه يحيا بالطول والعرض. فهو لا يفقد خيال الطفولة والمراهقة، كما إنّ الحياة تظل في نظره ذات بريق ولمعان وجاذبية كشيء جديد غير منطفئ. وما يتمتع به الطفل والمراهق من رغبة في تناول الحياة من جانبها اللذيذ، يتمتع العبقري به أيضاً. أنّه يتناول الحياة كما يتناول الطفل والمراهق الكرة يلعبان بها ويتلهيان. إنّه يتناول الأمور الجادة جدّاً بطريقة اللعب، أو قل كهواية ينكب عليها إنكباباً.
وفيما يلي بعض التوجيهات التي يؤكد عليها علماء النفس لضمان استمرار حياة الطفل والمراهق في شخصيتك. فعليك بالأخذ بها ومداومة تطبيقها في حياتك لكي تضمن لنفسك السعادة والنجاح في الحياة. وتتلخص هذه التوصيات فيما يلي:
أوّلاً: لا تطفئ في نفسك روح المرح، ولا تسمح لهموم الحياة بأن تطغى عليك. كن كالطفل والمراهق اللذين سرعان ما ينسيان ما تصيبهما به الحياة من صدمات. إنّهما ينفضان عنهما ما تصيبهما به الدنيا من أحزان وينخرطان في الحياة بروح اللعب والمرح. ومن المؤسف أنّ كثيراً من الكبار لا يعرفون إلى البهجة والفرح سبيلاً. إنّهم يفقدون روح الدعابة ولا يتذوقون النكتة ولا تعرف الابتسامة إلى وجوههم طريقاً. فوجوههم تظل مقطبة عابسة وكأنّ الدنيا قد انقلبت وغطى الطوفان الأرض. لا تتشبه بهؤلاء المهمومين، بل أيقظ الطفل والمراهق بداخلك حتى تفرح وتمرح وتلهو. لا تخنع تحت وطأة الهموم.
ثانياً: تذوق الجمال من حولك كالمراهق الذي ينبهر بالجمال، وكالطفل الذي يجيل خياله في الأشياء ويضفى عليها من خياله جمالاً على جمال. اعلم يا صديقي أنّ الإحساس بالجمال، والانبهار بما يحيط بك من أشياء وأشخاص وأحداث يجعل حياتك أروع وأجمل. إنّ الفنانين العظماء ظلوا يحسون بجمال الحياة حتى شيخوختهم. أما أولئك الذين يتناولون الحياة من الجانب النفعي فحسب وقد انطفأت روعة الواقع في أنظارهم، فإنّهم يكونون في الواقع قد قتلوا الطفولة والمراهقة اللتين كانتا تحييان بداخلهم.
ثالثاً: وسع دائرة حياتك. إنّك في طفولتك ومراهقتك كنت تتمنّى أن تمتطى صهوة جواد وتجوب الأرجاء، أو كنت تتمنّى ركوب ظهر باخرة وتسافر إلى قارات العالم كلّها، بل وكنت تتمنى أن تركب طائرة وتكون أنت قائدها وتشق به عباب الجو بأسرع من الصوت، وكنت في مراهقتك نهماً في القراءة، كنت تنكب على قراءة سير العظماء والعلماء وتقرأ عن الأقوام التي تعيش بعادات وتقاليد عجيبة كالاسكيمو مثلاً. فلماذا تفقد هذه النزعة التي تفتح أمامك الحياة؟ لماذا تتوقع في النطاق الضيِّق الذي توجد به الآن؟ عد إلى طفولتك ومراهقتك واسبر المجهول ووسع آفاقك وإرحل مبحراً وطر في هواء الخيال النقي الخالي من هموم وقيود الواقع الراكدة.
رابعاً: لقد كنت في طفولتك ومراهقتك سمحاً غير متكلّف في علاقاتك، كنت تصفح بسهولة عمن أساء إليك، ولكنك الآن ربما تتكلف في رسم شخصيتك وربما لا تصفح عن المسيئين إليك. لماذا لا تنشط طفولتك ومراهقتك في شخصيتك حتى ترجع إليك صفة البساطة والوداعة والصفح عن المسيئين إليك؟ حاول وستنجح في محاولتك.►
المصدر: كتاب شخصيتك بين يديك
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق