ينظر بعض الناس إلى الطفل على أنّه قيمةٌ صامتة، أو صفحةٌ بيضاء محايدة، علامُتها الأولى البراءة والعفوية، وغياب القصد في السلوك والقول على السواء.
ولا شك في أن الباعث على هذا التوصيف يتمثّل في بيان إمكانية توجيه الطفل وجهةً معيّنة وفق ثقافة معيّنة ومعتقدات مرسومة سلفاً، وهذا وجهٌ لا معنى لنكرانه، والتشغيبِ على مَن يقولون به، ويؤمنون بأنّه حقيقة ثابتة.
غير أن مَن يذهبون هذا المذهب، ويرون هذا الرأي في توصيف كُنه الطفل وحقيقته، ينسون، أو يتجاهلون، الوجه الثاني من حقيقة الطفل؛ والمفارقة أن هذا الوجه نابعٌ من التوصيف الذي أثبتناه قبل قليلٍ، وقلنا إنه يمثّل الوجه الأول لحقيقة الطفل، المتمثل في البراءة والعفوية في التعبير والسلوك والتصرف.
الوجه الثاني هذا الذي نقصده، يتمثلُ في أن هذه الخِلال التي ينطوي عليها التوصيفُ المذكور هي مصدر ثرٌّ للكبار، يمكنُ أن يتعلموا منه الكثيرَ من المسالك والخِلال الحسنة، لاسيما صفة الصدق، فالطفل مدرسة لتعلّم هذه القيمة الأخلاقية النبيلة، الضرورية في علاقات الناس بعضهم ببعض.. ولعل هذه الحقيقة جزءٌ ممّا عناه الفيلسوف جان جاك روسو (1712 ــ 1778م) بقوله المأثور: «إن الطبيعة تودّ أن يكون الطفل طفلًا قبل أن يصير رجلًا».
إذ لا يعيش الطفلُ طبيعته الجِبليّة التي فُطر عليها، ما لم تُبرزُ سلوكياته مثلَ هذه الخلال الجميلة الموشّاة ببهاء البراءة وألقها الأخاذ.
الأطفال مصدر لتعلّم الكبار
ينبغي على المربّين والموجّهين والمرشدين مراعاةُ هذا الجانب الفطري وتنميته في شخصية الطفل، أما تلقين الطفل بعض أنماط السلوك غير المناسبة لسنّه ومرحلته العُمرية، فهو الباب الذي يلج منه الطفلُ إلى التصنّع والتكلّف، ومنه بعد ذلك إلى الكذب، أي الدّوس على أهمّ وأثمن صفة في صفحة فطرته الأولى.
وصدق الفيلسوف الألماني «كانْت» 1724 - 1804م عندما كتب أيضاً في هذا السياق منبّهاً المربين والمرشدين التربويين قائلاً: «ينبغي ألا يتعلم الأطفال إلّا الأشياء التي تناسب سنهم، إن كثيرًا من الآباء يفرحون فرحاً عظيماً إذا رأوا أطفالهم ينطقون بحكمة الشيوخ، مع أنه يَحْسُنُ بهم ألا يتحلوا إلّا بفطنة الطفولة فقط، وألا يكونوا عُمياً مقلِّدين، إن الطفل الذي يتصف برزانة الرجال وعقلهم، ويسعى كي ينبُغ بسرعة هو بعيد عن نفسه، وربما كان مجرد قرد، محروماً من الثقافة، وسلامة الذهن».
إن فهم عالم الطفل يقتضي التوفّر على خلفية ثقافية معيّنة، هي مزيجٌ من المعرفة النفسية والأنثروبولوجية (علم التعرّف على طبائع الإنسان وأحواله ومستنبطاته) المتعلقة بهذه المرحلة من حياة الإنسان.
وإذا أمكن فهمُ هذه المرحلة وإدراكُ قيمتها الحقيقية على الوجه الصحيح، ربما كانت فرصة حسنة سانحة يهتبلها الكبار ليتعلّموا منها، ويسترجعوا بصيصاً من ألق فطرتهم الطفولية الأولى.
العقاد والأطفال
ولقد انتبه إلى هذا المعنى التربوي الجميل أديب فذٌّ وعالم متبحّر في الطبيعة الإنسانية، إلى جانب إحاطته المقدورة بقضايا الأدب والفلسفة والأخلاق والتاريخ والاجتماع، هو الأستاذ الكبير المفكر عباس محمود العقاد 1889 - 1964م فكتب يقول عن الأطفال، وهو في مقامه الأدبي والعلمي السامق، المعلوم لدى كلّ أهل العلم والثقافة والمطالعة: «إنهم معلمون من الطراز الأول، لأن أخلاق الإنسانية مكتوبةٌ في نفوسهم بالخطّ البارز الذي تقرأه لأول نظرة، وهي في نفوس الكبار ضامرة أو مصحّفة أو ملتبسة بوشي الرياء وزركشة العُرف وزخارف التكلّف والتمويه.
إن معلمينا الصغار لا يكتمون شيئاً، وكلّ ما كتموه أبرزوه وضاعفوا إبرازه، فمَن لم يتعلم حقائق الضمير الإنساني من الطفل، فما هو بمستفيد شيئاً من علوم الكبار، ولو كانوا من كبار العلماء».
فلا يعتقد الكبار بأنهم وحدهم، مصدر تربية الصغار، وأنهم لكبر سنّهم ليسوا بحاجةٍ إلى أحبتنا الصغار؛ سواء كانوا أطفالاً أم يافعين، فيما يتعلق بتعلّم بعضِ الخصال والقيم والشمائل، فهذا وهمٌ أو خطأ يقع فيه كثيرُ من الكبار، والغريب أن مبعث هذا الخطأ - الذي يقع فيه كثير من الكبار - نابع من إحساسهم بكونهم كباراً، وكأن العمر الزمني السن بالمعنى البيولوجي هو معيارُ إدراك الحقيقة ووزنها، وليس العقل والتجربة، والملاحظة الحصيفة الدقيقة.
وقد أكّد المختصّون في علم نفس الطفولة، أن الطفل في مراحل طفولته المبكّرة يكون مزودًا بقوى فطرية، تنعكس على سلوكه منذ الأشهر الأولى من حياته، ولعلّ هذا الملمح إحدى العلامات أو الأمارات التي نفسّر بها قوة الذكاء وسرعة البديهة وحضور التركيز لدى عديد من الأطفال، ممن يميلون إلى طرح بعض الأسئلة التي يعجز تجاهها الكبار، وعدم الاهتداء إلى أيّ تبرير منطقي علمي لأجوبتهم وردودهم على تلك الأسئلة القوية المباغتة.
أما في سن الثامنة فتبدأ ميول الأطفال تنحو باتجاهٍ أكثر تخصصاً وأكثر موضوعية، لذلك فإن بعض الأطفال يميلون مثلاً إلى الألعاب العملية التي تناسب حدود إمكاناتهم وخبراتهم ومهاراتهم خلال هذه المرحلة.
أهمية استثمار ذكاء الطفل
ومما تقدم ذكره يصح القولُ بأنه ينبغي على الكبار والمربين والموجّهين مراعاةُ خصائص مراحل التحوّل والنمو العقلي لدى الطفل، وتقديرُ أثر ما يترتب على ذلك من تغيّرات وتحوّلات تطول العلاقة بين الكبار والصغار، كما يجب أيضاً التفطنُ إلى مدى إمكانيةِ وواقعية استثمار ذكاء الطفل والإفادة منه في بعض المجالات المهمة، كالمجال التربوي /البيداغوجي.
ولا بأس في أن أسوق هذه القصة الطريفة التي حدثت بإحدى الدول المتقدمة، وهي تبيّن بعض جوانب المقصد الذي يرومه هذا التحليل النفسي /الفكري /البيداغوجي لعالم الطفل.
فقد حدث يوماً أن تأخر تلميذان عن الوقت المحدّد لدخول المدرسة بأكثر من عشرين دقيقة، فقرر المدير إخضاعهما للمساءلة بسبب هذا التأخر، ثمّ قبولهما في صفهما دون توبيخ وعقاب، إذا أبديا عذراً صحيحاً منطقياً مقنعاً.
وكان هذا المدير يتميز باطّلاعه الجيد على علم نفس الطفولة، لذلك قرر إحالة قبول العذر أو ردّه إلى محكمةٍ مكوّنةٍ من مجموعةٍ من التلاميذ.
وعندما مَثُل الصغيران أمام هذه المحكمة اعتذرا عن تأخرهما بأنهما صادفا وهماً في طريقهما إلى المدرسة دودةً غليظةً لم يكونا قد رأيا لها نظيراً في حياتهما، فراعهما منظرها، وأخذهما العجب والدهشة، لأنّ هذه الحشرة كانت تتمثّل في أشكال وأوضاع غير معهودة أو مألوفة لهما، فكانت تارة تقف على ذنبها وطوراً تمتدّ على الأرض، وأنهما كانا يصرفان الوقت في مشاهدتها، حيث كانت تنساب حتى بلغت عوسجا نبات ذو أشواك يكثر في بعض الأراضي الجافة، يعيش على القليل من الرطوبة، فغاب عنهما أثرها فيه.
ولما كان المدير حاضراً يتابع فصول هذه المحاكمة الطريفة، فإنّه لم يتمالك أمره، فتدخل سائلًا، دون أن يمهل التلميذين ليتمّما قصتهما الممتعة:
ــ لكن لماذا لم تقتلا هذه الدودة؟
فحدّق التلميذان فيه دون الاهتداء إلى جواب، فاهتبل الفرصةَ لمتابعة السؤال:
- أما كان لديكما من الوسائل ما يعينكما على قتلها؟ كي لا تكون سبباً في إبطائكما وتأخركما عن موعد الحصة الدراسية؟
فنطق أحدهما قائلاً بهدوء وثقة بالنفس:
- بلى... كنا قادريْن على قتلها من غير شكّ، ولكنا لو فعلنا ذلك حقًّا، لكان ذلك منّا شراً وقسوةً ضد حشرة صغيرة لا تقوى على مجابهة مهاجميها.
فنالت هذه الإجابة إعجاب أعضاء المحاكمة، وجوبهت بالتحبيذ والاستحسان، وكانت النتيجة هي الحكم ببراءتهما من التقصير غير المقصود.
إجابة مقنعة
المفارقة أن مدير المدرسة غدا مُحرجاً، بتورطه في طرح أسئلة كانت سبباَ في صياغة أحد التلميذين المستجوبَيْن إجابة مقنعة نالت رضا هيئة قُضاة المحكمة التي اختار السيد المدير أعضاءَها بنفسه.
ولا شكّ في أن الأصوب والأقرب إلى الحكمة هو عدمُ تدخّله في المقاضاة، وتركُ ما ستسفر عنه مجرياتُ المحاكمة، وفق تقديرات القضاة الصغار، فإن طرائق تفكيرنا تختلف عن طرائق تفكيرهم، بحكم تمتّع الأطفال برصيد الفطرة والبراءة والنحيزة الأولى أي السليقة الصافية.
إذْ إن من أهمّ أهداف التربية المحافظة على فطرة الناشئة ورعايتها وصقلها، إلى جانب الكشف عن المواهب والاستعدادات، لتوجيهها الوجهة الصحيحة في الحياة، كيْ تُثمر خيراً وبركة على المجتمع وعلاقاته العامة وحركة الحياة والحضارة الإنسانية، فمَنْ قال إن الأطفال ليسوا مصدراً مهمًا لتعلّم الكبار؟
وقد بدأ لفيف من علماء التربية والاجتماع يُلفتون الأنظار إلى أهميّة استثمار ذكاء الطفل في المجالات البيداغوجية والتربوية والنفسية، من منطلق الإيمان بما تنطوي عليه الفطرة البشرية البريئة من توجيهات ومعالجات، لا يمكن الاهتداءُ إليها في غير هذا المصدر الإنساني الرائق الصافي.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق