• ٢١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٩ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

طاقة الضوء: ضبط الساعة البيولوجية

دافيد سرفان/ ترجمة: د. عقيل حسين

طاقة الضوء: ضبط الساعة البيولوجية

الفجر يضع الإنسان على الطريق، ويجعله أيضاً يعمل.

هيزيود

◄يؤثر الضوء مباشرة في العديد من الوظائف الأساسية للدماغ العاطفي، بل إنّه يتحكم بهذه الوظائف. فطول وقصر الأيام والليالي هو ما يحدد ساعة النوم والنهوض من النوم عند الحيوانات التي تعيش في الطبيعة، بعيداً عن تأثير المصادر الاصطناعية للضوء. كما أنّ الضوء هو ما يتحكم أيضاً بمعظم الغرائز الحيوية كالشهيتين الغذائية والجنسية، بل وأيضاً كحب الاستكشاف والتجديد. وتبين التجارب المخبرية أنّ الضوء، وليس تغير درجة الحرارة (أو التعرض لغبار الطلع)، هو ما يتحكم بكل هذه التغيرات الغريزية التي تحدث عند نهاية الشتاء. فالضوء يدخل إلى الدماغ عن طريق العينين ويرسل تأثيره مباشرة إلى مجموعة من الخلايا التي تشكل الهيبوتالاموس الواقع في مركز الدماغ العاطفي. وعلى صغر حجمه الذي لا يكاد يشكل 1 بالمئة من كتلة الدماغ المكتمل النمو، فإنّ الهيبوتالاموس هو ما يتحكم بإفراز جميع الهورمونات في الجسم. وبالتالي فهو يؤثر في الشهية، والطاقة الحيوية الجنسية (الليبيدو)، ودورات النوم، والدورة الشهرية، وضبط حرارة الجسم، والنشاط. وبما أننا نمتلك، كسائر الحيوانات، البنى النصلية ذاتها، فإن وظائفنا البيولوجية وميولنا الغريزية تتأثر عندنا كما تتأثر عند الحيوانات. ويبدو ذلك بشكل أكثر وضوحاً عند النساء مما هو عند الرجال. فكونهن يعشن، شهرياً، وخلال ما يقرب من أربعين عاماً، تجربة التغيرات الدورية في إفراز الهورمونات، يعرفن إلى أيّة درجة تتغير وظائف الجسم – والانفعالات – تحت تأثير الإيقاعات الطبيعية.

والأكيد أنّ السيطرة على النار، ثمّ على الكهرباء، قد حررتنا جزئياً من السيطرة التي تفرضها الدورة الطبيعية عادة على ساعات النوم واليقظة. غير أنّ الضوء الاصطناعي الذي نتعامل معه خلال الشتاء هو أضعف بنسبة تتراوح بين خمس مرات وعشرين مرة من الضوء الطبيعي في الأيام الغائمة. وعليه، فإنّه من المستحيل أن نستبدل، بشكل كامل، تأثير الشمس بالتأثير الذي تحدثه مصابيحنا الكهربائية.

 

كلّ إيقاعات الجسد:

ليست دورة النوم هي الوحيدة التي يتحكم بها تعاقب الليل والنهار. إذ إن إيقاعات بيولوجية أخرى تتبع هذه الدورة خلال الأربع وعشرين ساعة. فحرارة الجسم التي تكون بمستواها الأدنى صباحاً ترتفع عند نهاية يوم العمل (في حدود السادسة أو السابعة)، قبل أن تعود إلى الانخفاض من جديد. كما يخضع إفراز مختلف الهورمونات، ومنها الكورتيزول، الهرمون الرئيسي الذي يتسبب بالضغط النفسي، لإيقاع من أربع وعشرين ساعة. كما أنّ العصارات المعدية ونشاط الجهاز الهضمي تتبع بدورها إيقاعاً مشابهاً. هذا، وتترابط هذه الإيقاعات بعضها ببعض في الظروف العادية، حيث تبدأ الحرارة ومنسوب الكورتيزول بالارتفاع صباحاً، عند النهوض من النوم، كما تتماشى وظائف الأمعاء مع إيقاع الوجبات اليومية الثلاثة، ثمّ تهبط إلى مستواها الأدنى أثناء النوم. غير أنّ العلماء اكتشفوا، في القرن العشرين، أنّ الرحلات الجوية التي يتم خلالها الانتقال إلى منطقة يختلف فيها التوقيت يمكنها أن تخيل بهذا الترتيب الرائع.

وقد اتضح أن كلّ واحد من هذه الإيقاعات يعمل وفق "ساعته" الداخلية الخاصة، وأنها لا تتبع بالضرورة الإشارة الصادرة عن فترات النوم واليقظة. وحتى الميل إلى رؤية الأحلام – الأمر الذي يطلق عليه علماء فيزيولوجيا النوم اسماً شاعرياً هو "ضغط الأحلام" –، فإنّه يتبع إيقاعه الخاص المستقل عن النوم! فنحن نحلم خصوصاً خلال النصف الثاني من الليل، قبل ساعات من وقت الاستيقاظ الاعتيادية. فإذا ما أمضيتم ليلة كاملة دون أن تناموا، فإنكم تشعرون بين الساعة الخامسة والساعة الثامنة بـ"ضغط الأحلام" هذا، حيث يميل دماغكم إلى التوقف عن العمل، مع تشوش وهروب في الأفكار. كما أن عضلاتكم ترتخي فجأة، وينحني الرأس من تلقاء ذاته باتجاه الصدر. وهذه الفترة هي الأكثر خطورة بالنسبة للسائقين الذين يخاطرون بقيادة سياراتهم طيلة الليل. وليس الأمر هنا عبارة عن مجرد التعب الناجم عن "قلة النوم"، بل إن ما يجري هو أن دماغكم يحاول أن يحلم رغماً عنكم.

إن دورة الأحكام تتبع دورة النوم في الظروف الطبيعية. فعندما ننتقل إلى منطقة ذات توقيت مختلف، تحتاج إيقاعاتنا البيولوجية إلى عدة أيام قبل أن تتناغم مع بعضها البعض، حتى وإن كنّا ننام من منتصف الليل إلى الساعة الثامنة صباحاً. فالأحلام تواصل السعي إلى التعبير عن نفسها بحسب توقيتها هي، الأمر الذي قد يحصل عندما تكون الساعة العاشرة صباحاً في الرياض، أي الخامسة مساءً في سيدني. وبذلك، يتعرض العديد من الوظائف البيولوجية إلى الاختلال، وهو الأمر الذي يفسر الأعراض الناجمة عن اختلاف التوقيت بين المناطق.

وتحدث الظاهرة نفسها، ولكن بقوة أقل، عندما ننام في الساعة الرابعة أو الخامسة صباحاً بعد سهرة طويلة من سهرات نهاية الأسبوع. وحتى لو نمنا، في هذه الحالة، حتى ظهر اليوم التالي، فإن فترة النوم هذه لن تكون متناسبة مع إيقاعات الجسم البيولوجية الأخرى، لأن ساعات النوم الأخيرة ستكون قد وقعت لحظة ابتداء معدل الكورتيزول بالارتفاع، وبعد فترة النوم الخاصة بالأحلام. وبذلك نكون شبه محكوم علينا أن نكون في الفترة المتبقية من النهار في حالة من التشوش والهمود، وأحياناً، في حالة الاكتئاب الخفيف، وهذا ما يطلق عليه البعض اسم "ضيق يوم العطلة".

غير أن هنالك طريقة لإعادة عقارب الساعة الداخلية إلى مجراها الصحيح. فالهيبوتالاموس شديد التحسس للضوء، شأنه شأن نباتات دوار الشمس التي تتجه نحو الشمس وتتبع مسارها طيلة النهار. فهو مكون، من الناحية البيولوجية، لكي يجرّ الجسم والدماغ نحو إيقاع الفصول راصداً طول النهار أو قصره. وعندما يكون الهيبوتالاموس في حالة توجه صحيح، فإن سيطرته على إفراز الهورمونات والناقلات العصبية تكون دقيقة إلى أبعد الحدود.

وعندما يصبح النهار أكثر قصراً مع حلول الخريف، ومن بعده الشتاء، فإن ما يقرب من واحد من كلّ ثلاثة أشخاص يشعر بتغير في مستوى طاقته وميوله. وهذا التغير يبدو أشبه بما يحصل للحيوانات التي تنام طيلة فصل الشتاء حيث تصبح الليالي أكثر طولاً، ويصبح النهوض من النوم أكثر صعوبة، ونشعر برغبة دائمة في تناول الخبز والبطاطس والمعجنات والشوكولا والسكاكر، كما نشعر بهبوط في الطاقة والرغبة الجنسية، وبتضاؤل في الميل إلى إطلاق مشاريع جديدة، وبتباطؤ في الأفكار... وتصل هذه الأعراض، في الفترة الممتدة بين تشرين الثاني/ نوفمبر وآذار/ مارس، إلى حدود الاكتئاب بالنسبة لما يقرب من 10 بالمئة من البشر الذين يعيشون فوق خط العرض الأربعين (مدريد في أوروبا ونيويورك في أميركا). والأكثر إثارة للدهشة هو أنّ هذه الأعراض تكون جسدية أكثر مما هي نفسية. غير أن ذلك ليس غريباً لأنّ هذه الأعراض هي نتيجة لتغير الإيقاعات البيولوجية أكثر مما هي نتيجة لألم نفسي.►

 

المصدر: كتاب عالج نفسك من الخوف والانهيار والذكريات المؤلمة من القلق والاكتئاب والصدمة العاطفية

ارسال التعليق

Top